تتدخل السياسة في كل أمور الحياة باعتبارها نسقاً اجتماعيّاً ذا هيمنة شاملة على مناحي الحياة المختلفة. ونتيجةً لذلك فإن الأدب حين يعكس رؤيته للواقع فإنه يُعَدُّ ممارَسةً سياسيةً بشكل من الأشكال. ولا شك في أن الأدب الجيّد ملتزم بالضرورة، والالتزام يقوده -طبقاً لذلك- إلى صفّ المعارضة.
وقد أصبحت السياسة محوراً فكريّاً في الرواية المعاصرة، ومهما تنوعت مواضيعها، وتعددت أبعادها الاجتماعية والواقعية، وجنحت إلى الحداثة الشكلية والتنوع الفني، فإن الرواية تعبّر عن الأطروحة السياسية إما بطريقة مباشرة، وإما بطريقة غير مباشرة، وهي تأتي أحياناً بشكل تلقائي دون ترتيب مسبق أو قصدية متعمَّدة من الروائي. يقول نجيب محفوظ في حديثه عن شخصيات روايته "ميرامار": "لقد بدأت بنيَّة كتابة حياة أشخاص فتحوَّل كل شيء إلى المعنى السياسيّ، أي تحوَّل مسار الشخصيات من مجرد شخصيات مستمدة من الواقع إلى رموز سياسية".
سعى النقاد إلى الكشف عن العلاقة بين الرواية والسياسة، ووجدوا أنها طبيعية ومنطقية، لأن الطرفين (الرواية والسياسة) يهتمان بحياة الإنسان؛ فالروائي يعبّر عن حياة الإنسان من نواحٍ عديدة، وقد يركز على تجسيد رؤية سياسية فيكتب روايةً سياسيةً، والرواية السياسية هي التي تهتم بمناقشة الأفكار السياسية دون أن تهمل خصائصها الفنية، ويتمثل دورها في الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الشعب، مما يمكن أن يسهم في التغيير.
سعى النقاد إلى الكشف عن العلاقة بين الرواية والسياسة، ووجدوا أنها طبيعية ومنطقية، لأن الطرفين (الرواية والسياسة) يهتمان بحياة الإنسان
ومن بين النقاد العرب الذين تعرضوا لتعريف الرواية السياسية، د. سعيد علوش، الذي رأى أنها "نزعة روائية تقوم على أطروحة الدعوة إلى أفكار سياسية معيّنة، وتفنيد غيرها، مما يفسح المجال أكثر لحوارات تتخذ شكل مجادلات سياسية على حساب التقليل من أهمية العناصر السردية الأخرى، وهي رواية تنزع نحو نوع من الواقعية، ولا تتميز عن غيرها من الروايات سوى بتأكيدها على الحدث السياسيّ".
أما د. أحمد إبراهيم الهواري، فيرى أن الرواية السياسية "تتميز بقدرة على ربط المتعة بالوعي، مما يساهم في ثراء المضمون، وتحمل وجهة نظر الروائي حيال جماعته القومية عبر إظهار الموقف السياسي لشخصياتها، والذي بدوره يعكس الخط البياني للوضع الاقتصادي لتلك الشخصيات، انطلاقاً من الارتباط القوي بين الوضع الاقتصادي والرؤية السياسية".
ويرى د. جميل حمداوي، أن الرواية السياسية هي "الرواية التي تنصبّ على مناقشة الأفكار السياسية وبرامج الأحزاب النظرية والعملية، وتحديد تصورات المذاهب السياسية، وتبيان مواطن اختلافها وتشابهها، مع رصد جدلية الصراع بين الحاكم والمحكوم والعامل مع أرباب وسائل الإنتاج، واستجلاء الفكر النقابي والنضال السياسي وما يستتبعهما من اعتقال وقمع وقهر وحبس للمواطنين والمناضلين في الزنازين وسجون التعذيب والتطهير. وتركز الرواية السياسية غالباً على القضايا السياسية المحلية والوطنية والقطرية والقومية لمعالجتها ضمن توجهات مختلفة ومحاور متعددة، مستوعبةً المراحل المتنوعة التي مرت بها القضية، مع وقفات عند أحداث معيّنة لها خصوصيتها المتميزة. كما تنبني هذه الرواية على تبئير السلطة والحكم مصورةً الاستبداد ومصادرة حقوق الإنسان والزج بالمعتقلين السياسيين في سجون الظلم والقهر".
ويقدم د. طه وادي، تعريفاً أكثر شموليةً للرواية السياسية، إذ يرى أنها "الرواية التي تمثل القضايا والموضوعات السياسية فيها الدور الغالب، بشكل صريح أو رمزي".
أما د. محمد السيد إسماعيل، فينشغل بالعمل الروائي نفسه، مستبعداً صاحبه بانتمائه وانحيازه السياسي. ويصل انشغاله هذا بالنص إلى الحد الذي يراعي فيه ما يسميها "عناصر النص الروائي" التي تشمل في نظره كلاً من العنوان، وشكل الغلاف الخارجي، والإهداء، وعدد الفصول، والإشارات الصريحة أو الضمنية إلى الواقع الخارجي، وعدد الشخصيات الرئيسية والثانوية، وطبيعة العلاقات القائمة بينها، ومختلف آرائها ومواقفها، وموقع الراوي ومنظوره الأيديولوجي، والتعبيري، وطبيعة الأحداث، وكيفية تطورها، وطبيعة الزمان والمكان.
يقول نجيب محفوظ في حديثه عن شخصيات روايته "ميرامار": "لقد بدأت بنيَّة كتابة حياة أشخاص فتحوَّل كل شيء إلى المعنى السياسيّ، أي تحوَّل مسار الشخصيات من مجرد شخصيات مستمدة من الواقع إلى رموز سياسية".
ويعطي د. صلاح فضل، لتعريف الرواية السياسية منحى أوسع، حين يعتمد "المؤشر الأسلوبي" طريقاً للوقوف على معنى ومبنى هذا الصنف من الروايات، ليعطي الدور الأساسي للبناء الروائي في الحكم على نوع الرواية، وليس للقضايا أو الأفكار التي تنطوي عليها الرواية، أو للموقف السياسي للروائي والأيديولوجيا التي يعتنقها.
وهناك من الكتّاب من يتضح موقفه السياسي بشكل جليّ في رواياته كيوسف السباعي في "رُدّ قلبي"، وهناك من يُحكِم تغليفه بالفلسفة، أو بالاستفاضة في تشريح وتعرية الوضع الاجتماعي والاقتصادي كنجيب محفوظ في جميع رواياته، عدا المرحلة التاريخية التي وَسَمَت بداياته، وهناك من ابتعد عن "بني آدم" واستخدم مملكة الحيوان وجعلها تنطق بما لا يستطيع هو النطق به، مثل العمل الأشهر "كليلة ودمنة"، الذي استلهم منه الشاعر الفرنسي "لافونتين" قصصه الخرافية التي أتت على لسان الحيوانات، وقد قدَّم ذلك أيضاً جورج أورويل في روايته "مزرعة الحيوان"، وكذلك "خرافات ليسينج" للفيلسوف الألماني إيفرايم ليسينج، الذي يعرّي فيه المجتمع والسياسة الألمانية، وهناك مثال أخير على إخفاء واستتار الموقف والفكر السياسي خلف عمل ديستوبي أو خيال علمي مثل الرواية الشهيرة "1984" لجورج أورويل.
المدهش أن تلك الروايات، لا يعدّها الناقد الأمريكي "جوزيف بلوتنر" من "الروايات السياسية"، ففي كتابه "الرواية السياسية" الذي صدر عام 1955، يرفض صراحةً الروايات التي توظِّف الأقنعة التراثية والمجازية والتاريخية للتعبير عن القضايا السياسية، ويفضِّل الرواية التي تقدّم الخطاب السياسي مباشرةً. وهكذا يستبعد بلوتنر الروايات التي تعالج القضايا السياسية بشكل مجازي أو رمزي من قائمة الروايات السياسية، ويرى أن الرواية السياسية هي كتاب يصف مباشرةً ويفسر ظاهرةً سياسيةً ويحللها.
لكن ذلك الرأي الصارم، الذي يتجاهل ويُقصي بجرّة قلم أهم الأعمال الأدبية، التي لا تندرج في أي حال من الأحوال سوى تحت البند السياسي، يغفل الظروف السياسية التي قد تَحول دون أن يكون العمل مباشراً وواضحاً، والتي تستدعي استخدام التورية والترميز، بالإضافة إلى أنه لا يكترث بكون العمل في النهاية "روايةً"، يجب أن تحوي جماليات وأن توفر متعةً للقارىء، وأنها ليست خطبةً سياسيةً جافةً ورتيبةً وثقيلة الوطأة.
أما الناقد الأمريكي "إيرفنج هاو"، فلم يذهب بعيداً عن رأي "بلونتر"، وإن كان أذكى منه، فلم يفضّل أو يزكّي نوعاً عن آخر، فيُعَرِّف الرواية السياسية بأنها: "الرواية التي تلعب فيها الأفكار السياسية الدور الغالب أو التحكمي. إنها الرواية التي نتحدث عنها لنُظهِر غلبة أفكار سياسية أو وسط سياسي. إنها رواية تُظهِر هذا الافتراض دون صعوبة أو تحريف".
يقول جمال الغيطاني: "يجب أن نعترف بأن الأدب لن يغيّر الواقع المرير الذي نعيشه، فالذي يغيّره هو السياسة، لكن الأدب عنصر من عناصر تحريك هذا الواقع". ولأن الرواية السياسية رواية تحريضية، فقد تُحرّك الواقع، إذ من الممكن أن تكون بديلاً عن العمل السياسي، لكن قد يتحقق ذلك في حالة واحدة فقط، هو أن تكون التربة الإجتماعية مهيأةً لذلك، وتهيئتها لا تتأتى سوى بشعب على قدر من الثقافة والحرية والوعي، لكن حين تكون نسبة الجهل متفشيةً حتى بين المتعلمين، وتكون الإرادة السياسية حريصةً على عمليات التجهيل بدأب شديد، فمن الصعب جدّاً، بل من المستحيل، أن تكون بديلاً عن العمل السياسي الذي ليس له وجود حقيقي على أرض الواقع، وحيث يتفشى الجهل السياسي بين الناس.
لم تكن لتحدث الثورة الفرنسية لولا تهيئة الفلاسفة والكُتَّاب للمجتمع الفرنسي بشِعرهم وكتبهم ورواياتهم، لكن أيضاً لم يكن لتلك الأعمال الأدبية تأثير لو لم تكن لدى ذلك المجتمع الوعي والثقافة الكافية، ولو لم يكن مجتمعاً من القرّاء والمتعلمين.
تُفصِح الرواية بشكل كبير عن أيديولوجيا كاتبها، لكن تكون درجة الوضوح بالقدر الذي يسمح به الكاتب لنفسه بالإفصاح عن تلك الأيديولوجية، فهناك كما ذكرت من يفصح عنها بشكل جليّ، وهناك من يلجأ إلى إخفائها خلف الخيال العلمي، واستخدام الحيوانات، واستعراض الوضع الاجتماعي، والحديث الفلسفي.
الرواية السياسية هي رواية تقريرية، ثقيلة الظل، إذ إنها في طريقها ذاك تتبع كل الوسائل للإقناع بطرحها، فتقدّم البراهين والأسانيد بشكل متكرر ورتيب وممل
ومن الروايات السياسية في عالمنا العربي، هناك رواية "الكرنك" لنجيب محفوظ، التي تتحدث عن تعذيب الشباب في السجون المصرية ما بين حربَي 1967 و1973، وكذلك عن القمع، وانتهاك الحريات، وتكميم الأفواه، والاعتقالات، والتعذيب، وهتك الأعراض، والتهديد بأذى الأقرباء، ورواية "بيت خالتي" لأحمد خيري العمري وتتحدث عن التعذيب في السجون السورية، وعن الذين ماتوا من أثر التعذيب، وعن الذين خرجوا من المعتقلات بنفسيات مكسورة وقلوب محطمة، ورواية "حذاء فلليني" لوحيد الطويلة التي تتحدث عن الحاكم الأوحد، ذي القبضة الحديدية، وكيفية صناعته، وكذلك عن "مُطاع" ضحية أحد الضباط (أحد أذرع الديكتاتور)، والذي ظل على طول الرواية في حالة صراع مع النفس يفكر في كيفية الانتقام منه، والطرق المختلفة لفعل ذلك، متدرجاً من البشعة إلى الأكثر بشاعةً. لكن تظل كل تلك الروايات مقبولةً، وبسيطةً، تشد القارىء حتى النهاية، وتلمسه بشكل أو بآخر، يتعاطف معها ويستوعبها ولا ينفر منها. لكن هناك روايات سياسيةً "نخبويةً"، ثقيلة المحتوى، افتقدت الديناميكية والخفة، وسقطت في الرتابة والخطابية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، التي استهدفت النخبة من القرّاء، بما تحويه من جرعات زائدة ومكثفة جداً من السياسة والأدب والفلسفة والسريالية، فبدت ثقيلةً في مضمونها وثقيلةً كذلك على الروح، وهناك رواية "الطلياني" لشكري المبخوت، التي وقعت في فخ الخطابية، وقد يكون ذلك نظراً إلى أن كاتبها صحافي بالأساس، إذ استعرضت أشهر النظريات السياسية والاقتصادية والفلسفية، وانتقت منها أكثر المصطلحات تعقيداً، وليس هذا فحسب، بل حملت الكثير مما يشبه التقارير الإخبارية عن تحولات تونس منذ عهد بورقيبة وحتى عهد زين العابدين بن علي.
لذا أرى أن الرواية السياسية التي تغفل جماليات اللغة والأسلوب والبناء، والتي لا تلقي بالاً لحبكة أو صراع، ولا تجهد نفسها في جذب انتباه القارئ، ولا تُعنى سوى بأطروحتها السياسية التي تلقيها على القارىء بشكل جامد ومُلِحّ وثقيل الوطأة، هي رواية تقريرية، ثقيلة الظل، إذ إنها في طريقها ذاك تتبع كل الوسائل للإقناع بطرحها، فتقدّم البراهين والأسانيد بشكل متكرر ورتيب وممل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا