شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
وجه آخر لطه حسين… يرويه سكرتيره في غياب

وجه آخر لطه حسين… يرويه سكرتيره في غياب "الصندوق الأسود"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الأحد 17 سبتمبر 202312:50 م

تبدو كلمة "غيرية" كلمة غريبة وعجيبة في اقترانها باليوميات، فقد تكرّست هذه الكلمة في الحديث عن فن السيرة ونحت النقاد عبارة "السيرة الغيرية" وتعني كتاباً يروي حياة شخصية عامة أو سياسية أو رياضية يكتبها شخص غيرها.

وينقسم هؤلاء الكتاب الذي يشتغلون بهذا النوع إلى نوعين؛ إما من المقربين من الشخصية موضوع السيرة أو مرافقين لها، ونمثل لذلك بسيرة صمويل جونسون التي كتبها رفيقه وصديقه جيمس بوزويل، أو كاتب محترف كلفته الشخصية نفسها أو جهة أخرى أو أقدم على الكتابة من منطلق ذاتي حر.

وكل واحد من هؤلاء الكتاب مجبر على العودة إلى الوثائق والأخبار الدقيقة لنحت تلك السيرة محاولاً الالتزام بالوقائع، خلافاً للروائي الذي يكتب سيرة روائية لشخصيات مرجعية فيتداخل فيها التخييل بسرد الوقائع حتى يطغى عليه أحياناً. فماذا نعني بـ"اليوميات الغيرية"؟

هذه اليوميات في ذات الوقت يوميات طه حسين بلسان سكرتيره الوقتي حسين محمد الدسوقي، وهي يوميات حسين محمد الدسوقي الموظف، حيث لم تخل اليوميات من الإشارة إليه إما عبر تدخلاته في جلسات العميد أو الحديث عن تغيّبه عنه 

نقترح تقفية على عبارة "السيرة الغيرية"، "اليوميات الغيرية" على المصنّف الذي يروي فترة من حياة شخصية عامة معروفة يوماً بيوم يسجلها شخص آخر مرافق للشخصية ومحل ثقة منها ومن المتلقين.

ويمكننا أن نمثل لهذا النوع بكتاب "أسبوعي مع مارلين" لكولين كلارك وكتابَي محمد شكري "تينسي وليام في طنجة" و"جان جينيه في طنجة" أو "أيام مع طه حسين" لحسين محمد الدسوقي.

أيام طه حسين

تمثل هذه اليوميات نوعاً فريداً في اليوميات الحديثة والمعاصرة في الثقافة العربية، فقد اختلط فيها أمران؛ الجانب الغيري في كتابة اليوميات، لأنها تسجل يوميات شخص غير كاتبها وثانياً إنها تحمل جانباً من النشاط المهني لصاحب اليوميات. فهي في ذات الوقت يوميات طه حسين بلسان سكرتيره الوقتي حسين محمد الدسوقي، وهي يوميات حسين محمد الدسوقي الموظف، حيث لم تخل اليوميات من الإشارة إليه إما عبر تدخلاته في جلسات العميد أو الحديث عن تغيّبه عنه، لأسباب يذكرها أو تعليقاته على ما يحدث، غير أن المحور الأساسي لليوميات وموضوعها الأساسي هو طه حسين.

الميثاق السيرذاتي

يوضح كاتب اليوميات من أول المصنّف، طبيعةَ هذه اليوميات التي يميزها الكاتب عن دفاتر ضباط التقارير في المؤتمرات والجلسات العلمية من ناحية ولكنها تأخذ منها الكثير. يقول الدسوقي: "منذ اللحظة الأولى التي لقيت فيها العميد أخذت أسجّل ما أراه جديراً بالتسجيل، وكنت أدوّن ما أشاهده أو أسمعه فور مشاهدته أو سماعه غالباً، تدويناً كاملاً في منزل العميد أحياناً، وأحياناً أخرى في بيتي بعد أن أكون قد سجّلت أفكاره الأساسية في رامتان، وقد حاولت أن ألتزم فيهما فدوّنت نصّ ما سمعت".

ما يميزها عن التقارير العادية التي يكلف بها أشخاص أن السكرتير لم يستشر طه حسين في تسجيل ما يحدث من قول وردّات فعل له في تلك الجلسات التي يعقدها في بيته أو نشاطه اليومي، ولا حتى ما يحدث له على المستوى الصحي.

يقول الدسوقي: "على أن العميد لم يكن يعرف أني أدوّن بعض ما أرى وأسمع، وما استأذنته في نشر شيء، اللهم إلا حديثه للإذاعة التونسية عن بعض القضايا الفكرية والأدبية، فقد نشر الحديث في مجلة الرسالة بعد أن قرأته عليه. وإذا لم أكن فيما دوّنت قد استأذنت العميد في نشره، فإني ما تقوّلت ولا تزيّدت عليه، وما قصدت من وراء هذا التدوين غير خدمة الفكر والتاريخ، وكنت أقدّر أمانة الرواية والنقل حق قدرتها، وإن ذهب البعض إلى أني تجاوزت حدود الأمانة، فسجّلت أشياء ما كان يجب تسجيله، وبخاصة في حديث العميد عن أصدقائه وزملائه، ومن عرفهم من رجال الفكر والسياسة".

ويحاول الدسوقي أن يعرّف جنس كتابه فيصف مرة بـ"الأيام"، الكلمة التي اختارها عنواناً لكتابه، ومرة "مذكرات"، ومرة بـ"الرواية"، ومرة أخرى بـ"المادة العلمية"؛ فيقول: "ولعل في هذه الأيام أو المذكّرات، التي لا تدخل في باب الدراسة بقدر ما تدخل في باب الرواية، مادة علمية مفيدة، تلقي مزيداً من الضوء على حياة العميد وبخاصة في العقد الأخير من عمره، وأيضاً على تاريخنا الأدبي والسياسي المعاصر".

والواضح أنه لم يقصد بالرواية التخييل، إنما سرد الوقائع التي رآها، لذلك رشحها لتكون مادة مهمة للباحثين بعد ذلك في شخصية طه حسين وتاريخ الأدب والتاريخ السياسي وقتها، لما ورد فيها من مواقف كثيرة نقلها لطه حسين من الأحداث السياسية، وما سجله من مواقف غيره من المفكرين والفنانين الذين يتواصلون معه، وخاصة في ما تعلق بهزيمة 1967 وما تلاها.

أسئلة اليوميات

تظهر خاصية التشظي ،التي بها يختلف فن اليوميات عن بقية فنون السرد، جليةً في يوميات الدسوقي؛ فكل يوم يعيش العميد أحداثاً جديدة ولقاءات جديدة، ويقرأ كتباً جديدة، وكل ذلك يجعل الأيام تختلف مواضيعها وتتنوع، فتطرقت هذه اليوميات إلى حياة طه حسين ومواقفه ونشاطه الأدبي والفكري وعلاقته بسكرتيره فريد والمشاكل التي حدثت بينهما وغيره ممن حاولوا حل خلافته في المنصب، ومواقفه من الكتاب القدامى والمحدثين، وآرائه السياسية ومواقفه من المستشرقين.

تعتبر هذه اليوميات مرجعاً مهماً لعلماء الاجتماع والنفس في دراسة شخصية الكاتب قبل أن تكون مهمة أدبياً.

كما تنقل لنا اليوميات حياته الصحية، وما تعرض له طه حسين من أزمات في نهاية حياته، وكيف كان يسيّر علاقته بمن في البيت وطريقته في استقبال ضيوفه وهاجس النظام الذي كان يعيشه في توزيع وقته وإصراره على مواصلة الإنتاج والمساهمة في المشهد الثقافي المصري والعربي، ومتابعته لما يجري في كل مكان من أوروبا الغربية إلى شمال أفريقيا إلى ما يحدث حوله في مصر.

وتطرق الكتاب إلى حادثة تكفير طه حسين على إثر صدور كتابه "في الشعر الجاهلي"، والذي شكك في انتسابه إلى ما قبل الإسلام. وتعطي اليوميات بسطة عن المعاملات المالية لطه حسين الذي كان يتهرّب من الضرائب، ولا يحرس على التنصيص على مداخيله ككاتب من الناشرين. وتكشف كذلك عن الظروف التي كُتبت فيها سيرة طه حسين "الأيام"، كما تكشف عن الاسم الحقيقي لطه وهو طاهر، وتقدم اليوميات آراء طه حسين في الإنسان،  وحتى في بعض الملل، كموقفه من اليهود وغيرهم.

فريد شحاتة، بطل اليوميات

يمثل السكرتير السابق لطه حسين فريد شحاتة، البطلَ الحقيقي لهذه اليوميات؛ فالتحاق السكرتير حسين محمد الدسوقي، صاحب هذه اليوميات، بطه حسين كان بسبب كثرة تغيب السكرتير الرسمي، فكان يعوّضه أيام العطل، ثم صار يعوضه في أيام تغيبه، ثم صار شاهداً على قضيته الشهيرة مع طه حسين.

غادر فريد شحاتة طه حسين بعد أربعين عاماً من الخدمة اليومية،  بعد أن ضاق ذرعاً بتصرفات زوجة طه حسين التي رأى أنها تتعامل معه باحتقار وتهينه أحياناً، وكان طه حسين طوال الوقت يقف في صفها، وعندما أعلنت أنه سينشر مذكراته مع طه حسين، وأنه سيفضح أموراً كثيرة، حاول طه حسين جاهداً أن يسترده للعمل، لكنه فشل، فتحول بدوره إلى تقزيمه والسخرية منه، قبل أن يختفي السكرتير نهائياً من الساحة الثقافية والإعلامية ليبقى بدوره لغزاً إلى اليوم.

كتاب "أيام مع طه حسين"

إن حرص طه حسين على المصالحة معه برغم ما يعرف عن طه حسين من شدة واعتزاز بالنفس وتمسك بالرأي، حتى إن كان متطرفاً، تفسر طبيعة العلاقة ومدتها، فقد كان فريد شحاتة الصندوق الأسود لطه حسين، فإذا كان محمد الدسوقي الذي عمل مع طه حسين بشكل عرضي ولوقت محدود، قد أخرج كل هذا الذي نشره في كتابه، فما بالك برجل عاش وكبر وهرم مع طه حسين يصاحبه كظله طوال اليوم أينما ذهب وأينما سافر.

يسجل الدسوقي يوم الخميس 1961/01/23يومية تعكس اهتزاز العلاقة بين طه حسين وسكرتيره ووصولها إلى نقطة اللاعودة: "تحدَّثتُ في صباح هذا اليوم قبل ذهابي مع الأستاذ المدير العام للمجمع حول ما دار بين العميد والدكتور كامل حسين بالنسبة لمشكلة الأستاذ فريد، فقال الأستاذ المدير العام: إن فريداً أخبره أنه لم يترك الدكتور طه ولكنه طرده وقال له: اذهب وابحث لك عن شغل، فقلت: لقد أخبرني العميد غير ذلك، وأضاف الأستاذ المدير وأخبرني أيضاً أن زوجة الدكتور كانت تعامله معاملة الخَدَم، وتسيء إليه في وجود الزوار، وأنها اتهمته يوماً بسرقة مبلغ عشرين جنيهاً من حافظة الدكتور" .

بعد أن هدد السكريتير بنشر مذكراته في حوار له بإحدى الصحف، جاء رد طه حسين مقللاً من شأن السكرتير، محرضاً عليه تلاميذه، كما أورد ذلك شهدي عطية: "الحديث عن مذكراته وما ينسجه حولها من أقوال ينقلها إلى بعض الأصدقاء في أنها تتضمن أسراراً تذاع لأول مرة... والعجب في كل هذا أنني ما زلت حياً لا أريد أحداً يطلب مني رأياً، وإن أعظم ما يكتب عني لا يكون إلا مني... أما وإن يدعي فريد بأنه يدخر للوقت المناسب أعظم ما كتب عني فأعتقد أن هذه العظمة لا تعني غير الإثارة الممقوتة المكروهة، وفي هذه الحالة سينتهي به الأمر بأن يقدم للقضاء هذا في حياتي وبعد حياتي، فما أشك أن أصدقاء لي وتلاميذ يرضيهم ما يقوله فريد".

وكأنما طه حسين يعطي بهذه الجملة الأخيرة إشارة هجوم عسكري على السكرتير الذي اضطر للتراجع عن أقواله ونفي قصة المذكرات. ويبقى السؤال القائم الآن: إلى أين وصلت ردود فعل طه حسين القريب من أجهزة السلطة وقتئذ من تصريحات سكرتيره؟ وباستثناء ما ذكره وديع فلسطين عن خبر هجرة السكرتير وعائلته إلى كندا، لم نقرأ عنه شيئاً. فأين اختفى السكرتير بعد ذلك؟ لماذا صمت إلى الأبد برغم ما وصله من آهانات مؤكدة على لسان طه حسين تشكك في قيمته العلمية والثقافية؟ لماذا لم تطرح فرضية واحدة أن يكون قد هدد؟ خاصة أن شهدي عطية يكتب حرفياً: "وقد جاء النفي بعد طوفان من المقالات التي نددت بما يقول وخشية من العواقب الوخيمة التي قد تصيبه"؟ لماذا لم يخض في مدى صدقية كلام السكرتير من أنه كان يعامل معاملة غير جيدة من حرم طه حسين؟".

أسلوب الدسوقي في كتابة اليوميات

اتخذ الدسوقي أسلوباً تقريرياً بلغة بسيطة غايته الإخبار وتسجيل الأحداث والأقوال، ولا يعلق عليها إلا لماماً، وكأنه يبحث عن شرعية لليوميات، وتسجيلها دون علم طه حسين، ولأنه يعلم سطوة اسم طه حسين وقد اختبره مع قصة خلافه مع السكرتير السابق.

ويبقى السؤال القائم الآن: إلى أين وصلت ردود فعل طه حسين القريب من أجهزة السلطة وقتئذ من تصريحات سكرتيره؟ وباستثناء ما ذكره وديع فلسطين عن خبر هجرة السكرتير وعائلته إلى كندا، لم نقرأ عنه شيئاً. فأين اختفى السكرتير بعد ذلك؟

ويبدو أن الدسوقي استعاض عن الجرأة الشخصية في نشر ما رآه جرأة طه حسين نحو القضايا السياسية والجامعية والفكرية. وكان عادة ما يبدأه مباشرة بالإشارة إلى طه حسين كـ"زار العميد في هذا اليوم...." أو "طلب مني العميد في مساء هذا اليوم". وكان يكتفي أحياناً من يوم العميد بموقف من كاتب أو من موضوع معين بيومية الجمعة 11 آذار/مارس 1966 التي سجل فيها موقفه من أدب نجيب محفوظ: "كان في صحيفة الأهرام مثال عن قصة الأستاذ نجيب محفوظ 'ثرثرة فوق النيل' ، وقال العميد بعد قراءة هذا المقال: بكل صراحة، لقد قرأت هذه القصة، وسرد أحداثها، ولم أفهم ماذا يقصد منها، وكذلك قصة 'اللص والكلاب' و'السمان والخريف'. ثم قال: إن الثلاثية هي العمل الفني الوحيد الرائع لنجيب محفوظ، ويبدو أن الصحافة هي السبب في ضعف مستوى هذه القصص، لأن الكاتب الذي ينشر قصصه في الصحف مسلسلة، ثم يجمعها في كتاب يكون وقت كتابتها مقيداً بزمن صدور الصحيفة، وهذا يجني على فنية العمل الأدبي".

تعتبر هذه اليوميات فعلاً مرجعاً مهماً لعلماء الاجتماع والنفس في دراسة شخصية الكاتب، قبل أن تكون مهمة أدبياً، فهي تعكس مهنة الأدب وصورة أهم أدباء العربية الحديثة، وكيف كان يدير شؤونه الفكرية والاجتماعية والمالية، وكيف كان يوزع وقته، وكيف كان يتعامل مع السلطة وزملائه الكتاب.

وكانت هذه اليوميات التي كتبت خلسة عن عمل الكاتب وسلوكه تحمل من الأسرار ما يجعله وثيقة من ناحية وأوراقاً حميمة من ناحية ثانية، لأنها تأتي من شخص لازم طه حسين مدة غير قليلة، وكان واعياً بقيمة السكرتير؛ هذا الشخص الذين سرعان ما يأكله النسيان وكأن به فعلَ ما لم يجرؤ عليه سلفه، فترك أثراً لعمله حتى لا يصاب بالنسيان أو التشويه، كما سابقه، لأن المشهد كثيراً ما ينتصر للعلم المشهور ويذهب التابع ذهاب "سانشو" في كتب نقاد ومحبي رواية "دون كيخوته"، وهو بذلك قد وضع كتاباً أشبه بما وضعه ألبيرتو مانغويل عن بورخيس وحياته معه كقارئ، مستعيناً فيه بما سجله وقتها. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image