شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لم يكن قلبي مؤهلاً لكل هذا الحب

لم يكن قلبي مؤهلاً لكل هذا الحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأحد 1 أكتوبر 202311:14 ص

سألوني: "لماذا البرد؟". لم أفهم ولم يدركوا أنني نسيت منذ الصغر كيف يكون دفء المنازل. كنت قد أقفلت على نفسي كيلا يزورني الفراق، خاويت الخوف ورفضت لسنوات طويلة أن أنجب أطفالاً، كيلا أموت وأتركهم، كما ماتت أمّي وتركتني، في عالم لا يرحم فتاة صغيرة لا أمّ لها لتدافع عنها بشراسة الأمّهات. اليوم صار عندي إيمان بأن الأمّهات يربّوننا في موتهن كما في حياتهن.

أنكرت كل أمر أحببته كي أحمي نفسي من الوجع. تركت الأغنيات في آخر النفق ولم أعد لاسترجاعها. أدرت ظهري للأصوات، ورضيت بحدود صغيرة  ظننتها كل ما أستحق، لكنّ أحبتي لم يتوقّفوا عن وضع طرقاتهم وسلاماتهم على الباب.

بعد سنوات من الهرب المضني، استسلمت وتقبّلت أن الخسارة، إن جاءت بقرار أو بقدر، هي دين ندفعه للحياة لأنها أعطتنا من نحب. رأيت جدّتي على السرير محاطة بنا، رأيت السّلامات المحبّة تثقل باباً مقفلاً فيقع، وعرفت النهاية التي أريدها بدوري. وهكذا توقّفت عن النكران والتفكير وتبعت مشاعري. خرجت نحوهم، وحين مسحت العتمة وجدت الأشجار خضراء. شرّعت نفسي، رمّمت ما تبقّى من قلبي وتحوّلت إلى منزل لطفل صغير أعاد كل ما كان.

اكتئاب ما بعد الولادة كان الأسوأ، لم أفهم ماذا أفعل بهذا الجسد الصغير؟ لم أنم لأسبوع كامل، إلى أن فقدت أعصابي وخرجت أمشي في الشارع، متسائلة: لماذا فعلت بنفسي ما فعلت؟ وصلت إلى الصيدلية، وبعدما وجدت طلبي، ألقيت برأسي على الرف وقلت للعاملة التي ساعدتني: "الآن سأبكي". بكت معي. في تلك الليلة نمت للمرة الأولى بمساعدة الأدوية.

لم أحبّه فوراً، أقلّه ليس الحب الذي نشاهده ويخبروننا عنه. حبّي كان غريزياً، أردت فقط إطعامه وحمايته. خفت عليه كثيراً من نفسي وخفت من خسارتها وفهمت أن الموت يترافق مع الولادة

الوحدة كانت الشعور الطاغي، تحديداً خلال ساعات الليل، عندما ينام الجميع وتبقى الأم الجديدة مستيقظة لإطعام الطفل وللتأكد الدائم بأنه يتنفس، وبأن الأصوات التي تصدر منه طبيعية، وبأنها لن تغفو عليه وتخنقه. رعب حقيقي هي الأيام الأولى للأمومة، روتين يتكرّر في كل ثانية مع إنسان دائم التبدّل والتغيّر.

منذ لحظة خروجه  إلى العالم وهو يشعرني بالذنب على تفاصيل تافهة، لن تحوّلني إلى أم سيئة، لكنها ستعطيني الكثير من الراحة، وعلى الرغم من ذلك لم أتمكّن من ممارستها بقناعة، وحين فعلت اجتاحني الذنب. استوعبت مع مرور الشهر الأوّل أهمية الراحة وأهمية العائلة والصديقات، وحاربت عقلي إلى أن اقتنع بأن مكروهاً لن يمسّه في حال ابتعدت عنه لقليل من الوقت.

 كنت أضعه على سريره ليستلقي حين نظر إليّ وأدركني بابتسامة، فبدأت بالبكاء، في تلك اللحظة حدثت العاطفة الأولى غير المتعبة.

هذا الوجه الجميل والصغير جداً أعطاني بسمته الأولى وهذا يكفيني. بعدها بشهر يبدأ هو نفسه بلحاقي بنظره أينما ذهبت، وبعدها بشهر آخر تلتقط يده إصبعي بقوّة ويلين قلبي. التعب لا يختفي، أوجاع المفاصل والظهر والقلق والنصائح التي لا نتبيّن الجيد منها من السيء، كل هذا يبقى، وتبقى غريزة الأم أقوى بمعرفة ماذا يريد طفلها.

اكتشفت من خلال أمومتي أن الواحدة منّا تصبح أمّا لطفلها فقط، فهذه الأمومة لا تمتد إلى أطفال غيرها. بإمكاني مشاركة معلومات عامّة مع أم أخرى لكنّي لن أعرف مزاج طفلتها، زاويتها المفضلة، معنى حركة يدها والوضعية الخاصة بنومها. أنا فقط أعرف تفاصيل ابني ووحدي لي الجلد على حبّها  وتحمّلها، وهذه هي الأمومة، كل ما هو آخر يصبح معلومات نتلقّاها ونتناقلها لنجنّب بعضنا المشقّات.

 لم أحبّه فوراً، أقلّه ليس الحب الذي نشاهده ويخبروننا عنه. حبّي كان غريزياً، أردت فقط إطعامه وحمايته. خفت عليه كثيراً من نفسي وخفت من خسارتها وفهمت أن الموت يترافق مع الولادة. لديّ قبلك واحد وثلاثون عاماً لن تعرفهم، أعوام كانت ملكي وحدي، حددت عليها قبل ولادتك وبعدها، ومن ثمّ عدت وبدأت بتشكيل هويتي محاولةً تقليل خسائري قدر الإمكان. أفكّر الآن كما فعلت في السابق: كيف الأطفال لا يفهمون أن أمّهم هي بالأساس امرأة وليست فقط "ماما" وهذه المرأة لديها قصتها المنفصلة عنهم والتي تؤدّي إليهم.

أتذكر سنواتي السابقة وكيف رقصت وحيدة بينهم. أتذكر عقداً مضى، حبّاً لم يكن ووجوهاً تخلت عني وتخليت عنها. والآن أبتسم لكل التخلّي الذي أدّى إلى التحامي بهذا الحب العظيم. يوماً ما، سأحدّثك عن بداية قصّتك، عن الفتاة التي تاهت والمرأة التي عادت. ما زال وجه أبيك محفوراً في عيني. كنا على أحد سطوح بيروت في نهاية شهر أيلول، في الوسط بين المئات كان اللقاء. لم أشعر بشيء مما كنت أظنه حبّاً، كانت الطمأنينة وكانت البداية.

حين أنجبتك أصبح لدي أيادي الأمهات وأقدام الجدات. أياد لطيفة وقوية لأحملك بصبر. أقدام وعرة وخشنة لأحفر لك الطرقات. غداً حين تكبر وتمشي وحيداً، اعلم أنك تدوس على آلاف القبلات التي وضعتها أسفل رجلك فجراً

لم يعطني وعوداً ولم يسمعني ما أُحب، لكنّه أوصلني الى المنزل، ومنذ تلك الليلة وهو يصنع لي منازل، فلا أبتعد، وإن ابتعدت لا أتوه. في الذكرى الرابعة لتلك الليلة عرفت أنني حامل بك، بكيت لساعة كاملة، رميت علبة السجائر وأوجاعي، وقرّرت، بإدراك واع، أن أوسّع قلبي للحب.

اليوم، في الذكرى الخامسة لتلك الليلة، أكتب إليك. حين أنجبتك أصبح لدي أيادي الأمهات وأقدام الجدات. أياد لطيفة وقوية لأحملك بصبر. أقدام وعرة وخشنة لأحفر لك الطرقات. غداً حين تكبر وتمشي وحيداً، اعلم أنك تدوس على آلاف القبلات التي وضعتها أسفل رجلك فجراً.

أتمنى حينها أن تدرك أهمية كل الوجوه، وأن الفرح كما الحزن يغيّر المسار. ألا تسعى إلى تغيير العالم، وأن يصادفك الحب في اللحظات التي لا تبحث فيها عنه. أتمنى لك حظ العصافير في المدينة. عمر الأساطير وحياة عادية، عادية جدّاً لدرجة الاستثناء.

لطالما سبقتني الطرقات ولطالما اختبأت منها، لكن حين صرت أمّا وصلت قبلها وواجهتها. نحن الذين حفظنا الأصوات نعلم كيف تخرج الأغنيات من آخر النفق لتلاحقنا، وكيف ينتظرنا كل ما كان عند المفارق.

 أدخل النفق وأستقبل كل ما كان، بفرح وبحزن. أرى الفتيات والنساء اللواتي كنتهنّ ومنهنّ أصل إلى نفسي الآنية وإلى أمومتي. أتأمل  جسدي بكل أوجاعه وأحبّه كما لم أفعل يوماً. أعود إلى أمّي بكثير من العاطفة وبكل ما أملك من تفهّم وسماح. قد تسبقني الطرقات، لكنّي الآن مكتفية بهذا الثبات، وربّما هذا العام سيكون عام السعي إلى الكتابة والحب والأمنيات. وبين كل ما كان وكل ما سيأتي، ممنونة أنا دائماً ليدك الصغيرة التي أهّلت قلبي لكل هذا الحب. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image