شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عجائز المدينة تحرسهن الملائكة

عجائز المدينة تحرسهن الملائكة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 30 سبتمبر 202311:45 ص



مدت لي يدها وقد شقت العروق الخضراء النافرة طرقاً متشابكة في الجلد الهرم، وأعطتني ورقة مهترئة تماماً أصفرت بفعل رياح ذاكرة الزمن، "افتح واقرأ":

فلسطين الحرة - قرية الفلوجة - نوفمبر 1948

"عزيزتي نعمة…

أخط لك حروفاً تقطر حباً وتجوب البحار لتصل إلى قلبك محملة بأشواقي.

أقف على حافة الدهشة من مشاعري التي تتأجج لهفة من أجل لمس أوتار قلبك…".

‑ "أترى كم كان رقيقاً؟

نظرت لها متسائلاً، وكأنها فهمت أن سؤالي بـ "من؟".

"حبيبي سَليم". نطقتها بفتح السين لكي تطابق الصفة الاسم. "كان سَليم القلب والروح والجسد.. أشجع الرجال".

تمر عيني على عبارات حب وغزل أشعرتني بالخجل من نفسي، أنا الذي أكاد أنهي العقد الرابع من العُمر ولم أحب ولم أتزوج. تفتح لي نعمة باباً على مراهقة متأخرة.

"لا يزال الأنذال يحاصروننا، ولكن رجُلك عند حسن ظنك، نقف خلف قائدنا، السيد طه، كالأسود. تعرفت هنا على رجال نتعلم منهم الوطنية والعروبة. أحكي عنك لرفاق السلاح، بل والقادة. تحدثت مع أحد الضباط المحبوبين هنا ويدعى جمال عبد الناصر عن حلمي بأن نتزوج".

لا ترانا السيدات العجائز كما نراهُن. نحن مصدر السمع والأنس والانتباه، وجودنا شاهد على وجودهن على قيد الحياة. نحن انعكاس ما لحيواتهن: حبيب، ابن، أخ، جار، أب. نحن الرجال الذين عاشوا وماتوا في قصصهن المسلية والمملة أيضاً... مجاز

"مات. مات سَليم قبل أن نتزوج"

تبكي وتفر الدموع في صمت، يبدو الألم أقوى من جسدها الهزيل. خشيت عليها من أن تقابل حبيبها في العالم الآخر بين يدي. من المؤلم أن ينتظر من حولك موتك في أي لحظة، أو يتوقعونه. أصبحت محترفاً في التعامل مع تلك المواقف بحكم عملي هنا منذ أربع سنوات، ولكن في حالة "نعمة" يصيبني الفضول لأعرف بقية القصة.

يصبح القائد عبد الناصر هو المُلهم الأوحد لـسَليم، ويلتحق بالكلية الحربية بعدها بعامين بعد أن نجا من الموت بأعجوبة في حصار الفلوجة، بصحبة عبد الناصر والسيد طه وآخرين. يتبدل الحلم، حيث كان ينوي العمل بالحدادة مع والده ويتزوج نعمة في منزل الأسرة البسيط في مركز السنبلاوين - محافظة الشرقية.

ينخرط في عمله كضابط في الجيش المصري، ويظل على تواصل مع ملهمه عبد الناصر، ويؤجّل الزواج عاماً بعد عام، وعقداً بعد عقد، وتتزوج نعمة من ابن عمها وتنجب، بينما يترقى سَليم ويقود إحدى كتائب الجيش عام 1967، ويستشهد مع عشرة من جنوده. يموت ويتركها مع زوج لا تحبه وأربعة أبناء.

يعلو الصدر ويهبط معلناً دوام الحياة وعمل الرئة وكافة العمليات الحيوية الأخرى، يدق القلب ويضخ الدم في العروق والشرايين، حيّ في عرف الطب ولكنه ميّت منذ زمن بعد أن هجره الحب. تتطلب وظيفتي كأخصائي اجتماعي هنا أن أراقب بحذر أي خلل في الوظائف الحيوية لنعمة ورفقائها من النزيلات عندما أتحدث إليهن، بينما لست مجبراً على أن أشعر بكل ما يشعرن به، ولكني دوماً أجد نفسي متورطاً.

ذاكرة العجائز تحوي معلومات أكثر وأثقل، وكلما زادت يضج العقل بتفاصيلها، ويضجر منها، وقد يتوقف عن العمل وينسى كما في حالات الزهايمر، أو يتذكر باسترسال كما في حالة نعمة. مليون جيجا من التفاصيل المحشورة بترتيب وتناسق مذهل، وقدرة عذبة على الوصف وكأني أشاهد فيلماً!

في كل جلسة تقطع القصة بصورة للحبيب مع عبد الناصر، عقب خروجهم من الفلوجة سالمين. هي نفسها ذات اليد المرتعشة التي حملت الورود يوماً له بعد عودته إلى القاهرة، وكانت مليئة بالحب والحياة والدماء والحياء والخجل.

‑ "قبّلني يومها في فمي خلسة في محطة القطار بالقرية".

لم أجرب الحب ولم أنعم بأي قبلات مختلسة. تنظر لي بعينيها الزرقاوين من خلف عدسة محدبة، وأحسد سَليم على كل هذا الحب الذي أمتد لأكثر من سبعين عاماً.

تسير الملائكة خلف النساء العجائز وتمنحهن مباركة إلهية تمنع عنهن المصائب والمتطفلين والأغبياء، تهمس لهن بالقصص والذكريات ذات الرذاذ اللطيف الذي يرطب جفاف عقولهن ويبقي مشاعرهن متقدة ومتيقظة!

قبلة في الكواليس

كانت الملائكة تحرس أمي عندما حكت لي عن نجاتها من موت محقق أيام دراستها الجامعية في كلية الآداب، أثناء وقوفها في كواليس مسرحية تقوم بدور صغير فيها، حيث اقترب منها زميل لها في فريق المسرح في ظلام الكالوس اليمين للمتفرج وقبّلها خلسة، ركضت خلفه وصفعته، برغم أنها كانت معجبة به وكانت تعلم أنه مولع بها. هذه الحركة البسيطة خلف الزميل جنبتها سقوط خشبة "الكامبوشة" من أعلى على رأسها، وألغي العرض في هذا اليوم وظفرت هي بالحب والقبلة وقلب أبي: كان أبي هو الممثل الرئيسي في هذا العرض وصاحب القبلة الخاطفة!

لا ترانا السيدات العجائز كما نراهُن. نحن مصدر السمع والأنس والانتباه، وجودنا شاهد على وجودهن على قيد الحياة. نحن انعكاس ما لحيواتهن: حبيب، ابن، أخ، جار، أب. نحن الرجال الذين عاشوا وماتوا في قصصهن المسلية والمملة أيضاً.

ظلت أمي على قناعة بأن الملائكة تحرسها منذ ذلك اليوم، وأن أبي هو أحد هؤلاء الملائكة الحارسين. كنت أضحك من هذه الخاطرة في البداية، حتى جاء هذا اليوم الذي كنت أنتظرها فيه في سيارتي وهي تخرج من مول تجاري شهير، تحمل حقيبة بلاستيكية بيضاء بها فستان أسود قام بتفصيله ترزي شهير تتعامل معه.

يقف أبي شاباً على خشبة المسرح، يؤدي دوره ببراعة ويستشهد سليم على بقعة رملية حانية في سيناء. ثم ترسل الملائكة برقيات وداع إلى النساء العجائز في المدينة، لكي تشاطرهن الأحزان في وفاة رجالهن... مجاز

وبينما تعبر الشارع ناحيتي، سمعت صرير مكابح سيارة تتوقف قبل قدمها بأقل من متر واحد. لم تهتز للحظة واحدة، بينما هرعت ناحيتها وسط صريخ السائق.

‑ "تحرسني الملائكة يا ولد..."

قالتها بأسى شديد: "رحل أبوك ولكنه لا يزال يحرسني".

في السيارة، تبكي بحرقة، وتُخرج الفستان الأسود وتضعه على جسدها النحيف، ويدها ذات العروق الخضراء تربت عليه بحب: "كان لازم أفصل فستان أسود جديد لأربعين أبوك".

لم أحب مثل أبي، ولا مثل أمي ولا مثل نعمة. أصبحت مغرماً بقصص الحب في الكتب والروايات والخطابات القديمة، ولاحظت أن العجائز يعلمون عن الحب أكثر، ويحبون أفضل، ويدركون القيمة الحقيقية في أن تتحمّل شخصاً آخر وتحمله فوق ظهرك لبقية عمرك.

تتناسخ أرواحهم، وتتشابه ملامح وجوهم بعد دوام العشرة لعقود، ويتصدون لأمواج من هجمات الزمن الشرسة التي تحاول أن تسطو على خزائن الحب في قلوبهم.

تموت أمي بعد تسعين يوماً من موت أبي، تحرسها الملائكة حية وميتة. تترك لي مجموعة ضخمة من الخطابات المنمّقة التي كان يرسلها لها أبي أثناء عمله في بغداد لمدة عشر سنوات كاملة قبل الحرب. أتطلع إلى وجوه الفتيات في الشارع ولا أجد فيهن وجه أمي، ولا تحرسهن الملائكة.

تحت أقدام نعمة بكرة صوف سوداء تتناقص بينما تحيك لي كوفيه شتوية. ألمح يد أمي تعمل، خريطة متشابكة من العروق الخضراء تسافر بي إلى أرض الملائكة، وجه نعمة ويد أمي، أو وجه أمي ويد نعمة، بينما يقف أبي شاباً على خشبة المسرح، يؤدي دوره ببراعة ويستشهد سليم على بقعة رملية حانية في سيناء.

ثم ترسل الملائكة برقيات وداع إلى النساء العجائز في المدينة، لكي تشاطرهن الأحزان في وفاة رجالهن.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard