" ويلي الفسطاط في العِظَم وكثرة الناس؛ القاهرة، وهي في شمال الفسطاط، وفي شرقيها أيضا الجبل المقطم يعوق عنها ريح الصبا، والنيل منها أبعد قليلا، وجميعها مكشوف للهواء، وإن كان عمل فوق ربما عاق عن بعض ذلك، وليس ارتفاع الأبنية بها كارتفاع الفسطاط".
خطط المقريزي - عن القاهرة التي بنيت على مقربة من عاصمة المسلمين الأولى في مصر: الفسطاط.
في هذا الموضع الذي غدا الآن في جنوب القاهرة، انتصر عمرو بن العاص وجيشه والقبائل المنضمة إليه على الرومان في معركة فاصلة، واستوى على حصنهم الأخير في ملتقى أفرع النيل ومبتدأ دلتاه، ليقيم على مقربة من ذلك الحصن جامعه ويبني عاصمته التي غدت وطبقاتها التالية عليها عاصمة مصر الحالية، فقبل القاهرة؛ كانت الفسطاط.
اليوم، تواجه منطقة الفسطاط التي باتت معروفة باسم "مصر القديمة" ثورة "تطوير" جديدة، تزيل واحداً آخر من معالمها التاريخية بغية توسعة سلسلة من الطرق المربوطة بـ"محور الحضارات"، الذي يأتي تطويره على حساب معالم القاهرة التاريخية الممتدة من الفسطاط إلى القرافتين الصغرى والكبرى وبامتداد سفح المقطم.
فعلى الرغم من الاستغاثات والمناشدات والتوقيعات التي جمعها عدد من المثقفين والكتاب وفنانو الحرف التراثية والمعنيين بها لوقف هدم المراكز الثقافية وغزالة قطاع من منطقة الفخارين الممتدة من الفسطاط إلى السيدة عائشة، بدأت البلدوزرات منتصف الأسبوع الماضي في عملية الإزالة بهدف توسعة جديدة للطريق على الرغم من اتساع طريقي الاوتوستراد وصلاح سالم المارين بالمنطقة التي لا تواجه أية اختناقات مرورية.
فوجئ العاملون في مركزين من المراكز المهمة لصناعة الفخار في الفسطاط بالجرافات تهدم حوائطهما ظهر 21 سبتمبر/ أيلول الجاري من دون سابق إنذار. ويقول العاملون لرصيف22: "الأماكن بتتهد بالكامل عشان يوسعوا الشارع مترين، مع إن في حلول أخرى عرضناها على المسؤولين مدعومة من خبراء لكن في إصرار على الهدم". عادت الجرافات بعد يومين لتهدم ما تبقى من جدران المركزين وتسويتهما بالأرض.
في هذا الموضع الذي غدا الآن في جنوب القاهرة، انتصر عمرو بن العاص وجيشه والقبائل المنضمة إليه على الرومان في معركة فاصلة، واستوى على حصنهم الأخير في ملتقى أفرع النيل ومبتدأ دلتاه، ليقيم على مقربة من ذلك الحصن جامعه ويبني عاصمته التي غدت وطبقاتها التالية عليها عاصمة مصر الحالية
الفسطاط هي واحد من ثلاثة مراكز رئيسية لصناعة من أهم الصناعات اليدوية المصرية الأصيلة، وهي صناعة الخزف والفخار، ورغم ما شهدته مدينة الفسطاط على مر العصور من اقتتال وصراع على الحكم وغيره من نوازل مصر المعتادة في تاريخها؛ ثابر الفنانون والحرفيون فيها وحافظوا على التراث الفني الغني للمنطقة على قيد الحياة لمدة جاوزت 1400 عام.
التغيرات التي تشهدها المنطقة حالياً تأتي ضمن مخططات إنشاء متحف الحضارات، وتطوير حديقة الفسطاط، وعين الصيرة، مع توسعة شبكة الطرق، إلا أن هذا التطوير يأتي على حساب المراكز الثقافية ومدارس وورش الحرف التراثية في المنطقة وأشهرها مدرسة عابدين التي جرى هدمها تماماً رغم دورها المهم في تعليم فنون الخزف والفخار، ومركز تدريب وإنتاج شيخ الفخارين وهذا أيضاً جرى هدمه. أما أشهر تلك المراكز الثقافية فهو "درب 1718" وهو مساحة ثقافية وفنية أسسها الفنان التشكيلي والناشط الثقافي المصري معتز نصر في عام 2008. وتضم المساحة معارض للفن المعاصر، وأماكن للأداء الحي، وسينما كبيرة في الهواء الطلق، ومناطق ورش عمل تتاح للفنانيين التشكيليين وفناني الحرف التراثية، إلى جانب "ستوديو فنان" داخلي.
"الأماكن بتتهد بالكامل عشان يوسعوا الشارع مترين، مع إن في حلول أخرى عرضناها على المسؤولين مدعومة من خبراء لكن في إصرار على الهدم"
بين الإنذار والتنفيذ
تلقى الفنان معتز نصر الدين اتصالاً هاتفياً في 27 يوليو/ تموز الماضي من رئاسة حي مصر القديمة، تنذره بضرورة الإخلاء الفوري للمبنى الرئيسي لدرب 1718 شفاهياً، من دون إخطاره بإنذار رسمي مكتوب يمكن الطعن عليه أمام القضاء الإداري، وهي ممارسة دأبت عليها إدارات الأحياء في الفترة الأخيرة لقطع سبيل الاحتجاج على قرارات الإزالة عبر القضاء.
الإنذار الشفاهي أخطره أن السبب في الإزالة هو توسعة الشارع الخلفي الموصل إلى متحف الحضارات، على أن تتم الإزالة فوراً.
تحركات قانونية وشعبية
يقول نصر الدين لرصيف22: "منذ تلقيت الإنذار، بادرت والعاملون الآخرون في المراكز الفنية والورش المستهدفة إلى التواصل مع إدارة حي مصر القديمة وبدأنا في السعي لاتخاذ إجراءات قانونية لحماية المكان، لكن امتناع الحي عن إخطارنا رسمياً بالغزالة حال دون اتخاذ إجراءات يكفلها لنا القانون".
لجأ نصر الدين إلى سبيل القضاء وتقدم بدعوى رسمية رقم 65501 لسنة 77 قضائية (شق المستعجل) لوقف الهدم. وبالموازاة، لجأ نصر الدين إلى حشد الفنانين والمبدعين للوقوف خلف مطالب الورش والمراكز الحرفية والثقافية في المنطقة بوقف الهدم وحشد التضامن الشعبي عبر هاشتاغ #save_darb_17_18، للفت أنظار المسؤولين إلى الدور الذي يلعبه درب وغيره من المراكز الحرفية والفنية في المنطقة في حفظ التراث وإنتاج حافظة من العملة الصعبة لمصر عبر الإنتاج الفني الذي يجري تصديره للخارج من الحرف التراثية، لا سيما الفخار والخزف المصريين.
تلقى نصر الدين اتصالاً هاتفياً من رئاسة حي مصر القديمة، ينذره بضرورة الإخلاء الفوري لمبنى درب 1718 شفاهياً، من دون إخطاره بإنذار رسمي مكتوب يمكن الطعن عليه أمام القضاء الإداري، وهي ممارسة دأبت عليها إدارات الأحياء في الفترة الأخيرة لقطع سبيل الاحتجاج على قرارات الإزالة عبر القضاء
يعتقد نصر الدين أن هناك "سوء تقدير من الموظفين، المساحة التي يحتاجوها للطريق 5 أمتار فقط ويمكننا أن نتنازل عن هذه المساحات فلماذا الإصرار على الهدم الكامل؟".
من بين المتضامنين مع فناني الفسطاط، النائبة البرلمانية مها عبد الناصر عضوة مجلس النواب، التي بادرت إلى الاتصال بمسؤولين "كبار" في الدولة لمطالبتهم بوقف القرار على حد قول معتز نصر الدين.
كما تقدم النائب فريدي البياضي بسؤال برلماني لوزير الثقافة ووزير التنمية المحلية حول الإصرار على إزالة درب 1718 "رغم وجود بدائل عملية أخرى"، ,قابلت النائبة أميرة صابر محافظ القاهرة، وتقدمت له بطلب لوقف القرار.
كل المفاوضات ومحاولات الضغط القانوني والبرلماني والشعبي لم تفض إلى شيء، وبدأ هدم مدرسة عابدين ومركز شيخ الفخارين يوم الخميس 21 سبتمبر/ أيلول ثم استكمل هدمهما يوم السبت 23 من الشهر نفسه، وكتب معتز نصر الدين على صفحته الشخصية في فيسبوك "بدأ الهدم في المباني المجاورة لدرب 1718. حتى الآن لم نتلق إشعاراً رسمياً، لم تصلنا وثائق رسمية بخصوص الإخلاء أو القرار الرسمي بالهدم، لم نتلق أي وثائق رسمية، بما في ذلك التعويضات".
وأكد نصر الدين "لقد قدمنا للحكومة بدائل لتوسيع الطريق من شأنها أن تلبي احتياجات الحكومة التنموية وتنقذ درب 1718. وكنا بصدد الموافقة على بدائل توسعة الطريق عندما توقفت العملية بشكل غامض".
وكانت منشوراته التالية مصحوبة بصور توضح عمليات الهدم التي يشرف عليها نائبة المحافظ ورئيس الحي بنفسيهما.
يقول نصر الدين: "لا يوجد مع المسؤولين أي تفاهم أو كلام ويتحدثون معنا بتعال شديد، ونائبة المحافظ قالت لي سنهدم المبني ونعطيك مكان آخر، فقلت لها تهدمون مباني بالملايين وتعطوني مكانها أرض تخصيص وليست تمليك، وأبني أيضاً مباني على حسابي؟ لا يوجد منطق بالحديث. حتى أنهم تحايلوا على ملاك مدرسة عابدين وشيخ الفخارين لينقلوا في مبنى الجمعية الخاص بدرب، ولم يمهلوهم الوقت، وقبل أن يكملوا النقل دخل البلدوزر لهدم المكان من دون أي إخطار رسمي في حالة من الهوجائية والتعامل مع الموضوع بشكل عشوائي غير طبيعي".
أما محمد عابدين صاحب مدرسة عابدين للفخار فيوضح لرصيف22 أن "الهدم بدأ بالفعل ولم يكن هناك قرار رسمي، كان الكلام شفاهياً من رئيس الحي، وأعطونا بديلاً مكان خال في قرية الفخارين يحتاج كثيراً من العمل والتكاليف لأنه ليس به خدمات ولا ماء ولا كهرباء، ومساحته أقل من المكان الحالي إذ قسموا بين مدرسة عابدين وشيخ الفخارين، ولم يكن لدينا مهلة لنقل محتويات المبنى والآلات، وأتت جرافات الهدم بشكل مفاجيء من دون اتفاق وكان المشهد صعباً جداً مع محاولة شباب المدرسة إنقاذ ما يمكن إنقاذه".
وتابع أنه لا يستطيع أن يأخذ أي إجراء قانوني لأنه وقع فعلاً على إقرار بالموافقة على المكان الجديد: "لكن كنا متفقين على وقت للنقل لأن هناك أفران كهرباء ومعدات كبيرة وشغل فخار كثير ولم يعطونا وقت كافي للنقل حتى أن الهدم حضره المحافظ شخصياً".
ويؤكد عابدين: "الطريق المراد توسعته بعيد عن المدرسة التي لا تشكل عائقاً، وكل ما كانوا يريدونه 2 متر أو 5 متر على الأكثر، لكن قالوا؛ لا سنهدم الثلاث أماكن مدرسة عابدين وشيخ الفخارين ودرب 1718".
اسم عابدين من أعلام صناعة الفخار في منطقة الفسطاط منذ العام 1920، يقول عابدين الابن: "لدينا عقود رسمية 1960، وفي سنة 2000 تم تخصيص المساحة التي هدمت وكنا ندفع ضريبة عقارية وحق انتفاع للأرض وهي مملوكة للدولة فعلاً ولكن المباني ملكنا وتقدر برقم كبير".
ولفت إلى أنه في الفترة الاخيرة رفض طلبيات خزف كثيرة ومنها طلبية كبيرة لمورد في السعودية لأنه كان يخاف أن يهدموا المبني ولا يستطيع الوفاء بالطلبية".
الفسطاط التاريخية
مدينة الفسطاط مرت بكثير من الأحداث في العصور المختلفة نظرا لأهمية موقعها الاقتصادي، إذ شيدت بالقرب من حصن بابليون مركزاً رئيسياً للتجارة البحرية الخارجية، لوقوعها على النيل في موقع متوسط بين الوجهين البحري والقبلي، وأصبحت الفسطاط ميناء للتجارة القادمة من الصين والهند واليمن وأوروبا، كما أصبحت المركز الرئيسي لحركة النقل المائي في العصر الفاطمي.
اشتهرت الفسطاط بصناعة الخزف والفخار لقربها من النيل الذي يوفر الطمي وهو المادة الخام لهذه الصناعة، وعلى مر العصور ظل أهل المنطقة يعملون بهذه الصناعة حتى في الفترة التي شهدت تراجع كبير في الاهتمام بالمنطقة وتحولها لما يشبه مكب للنفايات، وفي عام 2021 أقامت الدولة قرية للفخارين على مساحة 13 فداناً، والتي تبعها خطة لتطوير المنطقة.
يقول الدكتور مختار الكسبانى أستاذ الآثار الإسلامية في كلية الأثار جامعة القاهرة لرصيف22 إن الفسطاط القديمة "تقريباً كل مبانيها تهدمت نتيجة الحريق الذي حدثت في عام 1168 بسبب الخلاف بين الوزير شاور وضرغام على منصب الوزارة في الخلافة الفاطمية، وأحرقا المدينة واستمر الحريق لمدة 40 يوماً، وألقت الناس كل ما هو غال ونفيس في الآبار، ووجدها الأثاريون بعد ذلك المقتنيات التي كانوا بيستخدموها في هذا العصر، وظلت الفسطاط عاصمة مصر حتى نقل العباسيون العاصمة من الفسطاط إلى مدينة العسكر، ثم انتقلت العاصمة لمدينة القطائع التي أنشأها أحمد بن طولون". يذكر أن قناطر ابن طولون جرى هدمها لبناء أحد الكباري الجديدة مؤخراً.
ويوضح أن الآثار الموجودة في المنطقة حالياً تعود للعصر الأيوبي ومن بعده المملوكي والعثماني وأسرة محمد علي، لكنه يؤكد أن أي من تلك الآثار ليس مشمولاً في خطط الهدم الحالية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون