شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ترويض

ترويض "أبانا" الذي في السموات و"أبانا" الذي في المخابرات وأبي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الجمعة 22 سبتمبر 202311:08 ص

لم أكن أحتاج الكاتب والصحفي الأميركي ماكس ليرنر، لأدرك أننا لو قرأنا التاريخ على نحو صحيح، لأدركنا أن تاريخ العالم هو سجل محاولات ترويض الأب، إذ إن قراءة التاريخ ليست واجبة لنخلص إلى نفس النتيجة، ففي حياتنا القصيرة سنجد أن ترويض الأب بكل أنواعه هو الجزء الأكبر من تلك الحياة، كل صراع من أجل الانعتاق كان معه تقريباً، رحلة الخوف التي تنتهي غالباً بالسخط والغضب مع استعادة نسمات الحرية، تبدأ برواية طويلة تقول في سطورها الأولى: "أخبرني أبي"، وتبدأ الأحداث الحقيقية عند السطر الذي يقول: "رددت عليه".

 أي أب أتحدث عنه؟ الأنواع التي أقصدها تشمل الأب الديني "الله" والأب الحكومي "الرئيس" وأبي، وهنا أتحدّث عن الثلاثة، ثلاث حكايات للترويض، نجحت في اثنين منهما، الأب الديني وأبي، ولا أظن أن رحلة الترويض الثالثة مقدّر لها أن تحوذ خاتمة مُرضية يوماً ما بما أنها ضرورة مستمرّة للحراك السياسي وتقلباته، وعلى كل حال لنقرأ التاريخ على نحو صحيح.

كان شيخنا يغلق مكبرات الصوت كلما أراد الحديث بقسوة عن المسيحيين، ظل السؤال يشغلني كثيراً: إذا كان ما يقوله هو ما أخبره به أبونا الذي في السموات، فلماذا أغلق مكبر الصوت؟ عرفت فيما بعد أنه فعل ذلك خوفاً من أبينا الآخر الذي في المخابرات

أبانا الذي في السموات

في السنوات العشرين الأولى من حياتي، كنت ذلك الطفل ثم الشاب الذي يقيس كل شيء حوله على ميزان: قال الله وقال رسوله. لم أكن حافظاً للكثير من القرآن، ولم أتعمّق بصدق في التفسيرات ومحاولات التدبّر أصلاً، لذا كانت معلوماتي الدينية تأتي عادة من أحاديث المحيطين بي، ومن شيخ الجامع الذي كان يُغلق مكبر الصوت لدقائق، يقول لنا فيها إننا يجب ألا نحترم المسيحيين، وأنهم كذلك لا يحترموننا وإن كانوا يظهرون وجهاً آخر، إلى جانب شرحه للتفريق بين المعاملة الحسنة والاحترام والمحبة. نعم للمعاملة الحسنى وألف لا للبقية.

ربما كانت تلك الفكرة الأولى التي جعلتني أُعارض أبي الديني الذي ينقل عنه شيخي تلك الأوامر، بسببها بدأ كل شيء، بداية من رغبتي في معرفة المزيد عن إخوتي المسيحيين الذين يجب ألا أحبهم، وانتهاء، بعد سنوات عديدة، بإنكار أن الله - إن صدقت صفاته التي أحفظها - قد يقول ذلك.

ربما أخطأ الشيخ، أو قادتني الصدفة للأب الديني الخاطئ، أو كما يُخبرنا عامر خان في فيلم "بي كي": "تقولون جميعاً بأن هناك رباً واحداً، أنا أختلف معكم، فهناك إلهان، إله خلقنا وإله خلقتموه، في الحقيقة نحن لا نعلم أي شئ عن الإله الذي خلقنا، ولكن الإله الذي خلقتموه يشبهكم تماماً، الإله الذي خلقنا أجمعين فأنا أضع ثقتي به، أما الإله الذي خلقتموه، المصطنع، فلا بد أن تدمروه". رويداً رويداً دمرت أبي الديني بشكل ما، فالأمر لم يتوقف بالطبع عند موقفه من المسيحيين، تلى ذلك المرأة ثم العلم والمنطق، وأمور كثيرة تحتاج لمقال منفصل يحكي عنها، لذا سأكتفي بذكر بداية ظهور فكرة الترويض هذه.

بالعودة إلى شيخ الجامع، وبعد مرور سنوات عدة، لا زلت أتذكر تلك اللحظات التي كان يُغلق فيها شيخنا مكبرات الصوت كلما أراد الحديث بقسوة عن المسيحيين. ظل السؤال يشغلني كثيراً: إذا كان ما يقوله هو ما أخبره به أبونا الذي في السموات، فلماذا أغلق مكبر الصوت؟ عرفت فيما بعد أنه فعل ذلك خوفاً من أبينا الآخر الذي في المخابرات.

أبانا الذي في المخابرات

كان اسمه محمد حسني مبارك، الأب الذي ولدت وهو رئيس وشارفت على إنهاء تعليمي وهو رئيس أو أب لكل المصريين، كما يحبّذ كل الرؤساء هنا اعتبار أنفسهم، كنت أرى فيه ما يجب أن أراه من الأب، قسوة وغلظة وأمان أيضاً، وإن كان غير مبرّر، ففي لحظات غزو العراق مثلاً كنت أقول لنفسي إنه لولا رئيسنا "أبي" مبارك لكان الدور علينا بلا شك. اعتقدت في وقت ما أن حتى وجود السد العالي مرهون بوجود حسني مبارك في الرئاسة.

الجميع يعلم أن النفوذ والسلطة الأبوية تتجسّد بحق في مؤسسات الدولة المصرية بجميع أنواعها، فهناك أب الرئاسة وأب النيابة وأب الشرطة وأب القضاء، وهكذا يُمكن أن نطلق على الاجتماعات رفيعة المستوى في بلادنا مجلس الآباء، لذا فترويض الأب الحكومي كان يجب أن يشمل الجميع في 25 يناير.

من ناحية الترتيب التاريخي سقط أبي الحكومي قبل أبي الديني، لذا كان الأمر أسهل في رفض حكم الرئيس التالي لمبارك، وهو محمد مرسي الذي أصر أنصاره على الأقل في الترويج له كأب حكومي ونائب للأب الديني في آن واحد. في الواقع، انتبهت بعد فترة أن من عادة الشيوخ القول إن الأب الديني "الله" لا يريدنا أن نعارض الأب الحكومي، ويوافقهم مباشرة على ذلك الآباء الدنيويون، وكأنه اتفاق قديم سري لطائفة الآباء.

ظهر ذلك بقوة في كل مرة حاول فيها الأبناء ترويض الأب الحكومي تحديداً، وأحياناً يبادل الأب الحكومي الأب الديني هذا الجَميل، فيقوم بتكميم أفواه المشككين والمهرطقين، وغالباً ما سيوافق على ذلك الأب الدنيوي، أبي.

الجميع يعلم أن النفوذ والسلطة الأبوية تتجسّد بحق في مؤسسات الدولة المصرية بجميع أنواعها، فهناك أب الرئاسة وأب النيابة وأب الشرطة وأب القضاء، وهكذا يُمكن أن نطلق على الاجتماعات رفيعة المستوى في بلادنا "مجلس الآباء"

أبي

لن أتحدث هنا عن مرحلة ما قبل ترويض أبي، لكن سأركز بإيجاز عن مرحلة الترويض نفسها، وهي الأسهل على الإطلاق، فكل ما كان يحتاجه الأمر أن أغادر المنزل فقط. بالطبع الأمر ليس بتلك السهولة بالنسبة للفتيات، لكن على كل حال انتهت سلطة الأب بحلوها ومرها بالنسبة لي، في اللحظة التي أعلنت استقلالي عنه وحملت كل قدري على ظهري بلا رغبة في معاونته إياي، وهكذا بشكل سحري اختفت كل سلطة كانت تكبّلني.

المال هو السلطة الحقيقية في ترويض الآباء الدنيويين، ما دمت لا تحتاجهم فحينها فقط يُمكنك إقامة علاقة صحيحة معهم، هذا إذا قرّرت أنك ترغب في تلك العلاقة بناء على تاريخك الشخصي، ولكل إنسان تاريخه يحكم على أساسه كما يشاء، كان ذلك قبل ثماني سنوات، وأعرف في داخلي أنه لو لم يتم ذلك لكان من الصعب للغاية أن أروض بقية الآباء، الديني والحكومي، لأن أبي كان سيعارضني وأمري في يده، ليس أكثر ولا أقل.

رحلة الترويض لم تكن سهلة نفسياً، فالترويض والانعتاق من مثل تلك السلطات أشبه بخلع رداء يلتصق بجسدك، يلزم التخلي عن قطع من لحمك كي تنتزعه، وأن تتوقع كذلك هجوم الناس عليك بما أنك بتَّ الآن عارياً، وإن كنت أنت في خضم تلك الرحلة، فيجب أن أقول لك بأن عالمي الآن أفضل كثيراً: مددت حبل الحرية على آخره، حتى وجدت أكثر ما أستطيع من نفسي، والآباء مثل الحكام، إن تركت لهم أمرك في سلطتهم القاسية بلا رادع لفسدت أنت شخصياً، لذا لو عاد بي الزمن مرات ومرات، لاخترت أن أقاتل كل مرة من أجل إتمام رحلتي في ترويض أبانا الذي في السموات والذي في المخابرات وأبي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض تحويلنا إلى كائنات خائفة يسهل حكمها. لذلك كنّا وسنبقى موقعاً يرفع الصوت ضد كل قمع لحرية التعبير ويحتضن كل الأفكار "الممنوعة" و"المحرّمة". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا!/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard