استيقظت يوم الجمعة على صياح صديقة جدتي التي جاءت تزورنا ومعها الداية، لأن الماعز ستلد لنا صغاراً نلعب معهم. أرسلتني الجدة إلى البقال كي أشتري لها نصف علبة سجائر، توزعها كهدية لصديقاتها الجالسات يحضرن الولادة. كن يدخّن خلسة، وتجتمع نساء العائلة عادة مع الجدة مرّة واحدة من كل أسبوع، يتبادلن السجائر بعيداً عن احتكار الرجال للدخان، حيث يذهب الآخرون لتأدية صلاة الظهر بمسجد القرية.
السيجارة حكر على الرجال في الصعيد
كانت السيجارة والشيشة في القرية، والقرى المجاورة، حكراً على الرجال وحدهم، دون منافسة النساء، فهم يدخنون في كل مجالسهم طيلة اليوم بلا حرج، الصغير المراهق منهم، يعتبر نفسه بالغاً وقادراً على الزواج وتحمل مسؤولية الأسرة مادام قادراً على شراء السجائر وشربها، وكأن السيجارة تفعل ما تفعله المنشطات الجنسية في جسد الذكور.
السجائر في القرية رمز لرجولة الذكور، لكنها كانت ولازالت عيباً وعاراً إن مارستها النساء، فالمرأة المدخّنة عديمة الأخلاق، السيجارة تسلب من المرأة شرفها إن دخلت فمها، بينما تعطي الذكر جرعة رجولة مكثفة.
وقعت صديقتي، البالغة من العمر 21 عاماً، في غرام السجائر، كانت تخبئ سجائرها والقداحة في حمالة الصدر وهي ترتديها، تعتلي سطح المنزل حين يخلد أبيها للنوم وحين يغادر المنزل، إذ تلتقي والسجائر في لقاءات خلوة، تتغزل في الدخان الذي يخرج من سقف حلقها، كما لو كان يسحب من حول عنقها القيود الأبوية، حتى كشف أخيها الفضيحة الكبرى، هذا السر الذي أخذت تخفيه منذ سنوات، وكان دائم التهديد لها بفضح أمرها أمام أبيها أو تغلق فمه بحفنة جنيهات.
السجائر في القرية رمز لرجولة الذكور، لكنها كانت ولازالت عيباً وعاراً إن مارستها النساء، فالمرأة المدخّنة عديمة الأخلاق، السيجارة تسلب من المرأة شرفها إن دخلت فمها، بينما تعطي الذكر جرعة رجولة مكثفة
كثيراً ما كانت تدعوني الصديقة للتدخين معها، وفي كل مرّة كنت أمتنع، لم أجرب من قبل، بالرغم من أن والدي يدير مقهى شعبياً وأمي تشارك أبي في تحضير دخان الشيشة للزبائن، لكنها لا تجرؤ على تحضيره لنفسها. أنا لا أحب التدخين لكنني كنت أشعر بالسعادة عندما أرى جدتي وصديقاتها يتشاركن شرب الشيشة. كان دخانها يعطيهن معلقة من الحرية والاستمتاع والعدالة الغائبة دائماً في مجتمع النساء بالصعيد.
السيجارة تسلب من النساء شرفهن
من المستحيل أن تمر في شوارع القرى بصعيد مصر وترى امرأة تشعل سيجارة في الشارع، الأمر قد يبدو وكأنها خلعت ملابسها تماماً، تصرّف مثل هذا قد يعرّضها لا محالة للتحرش بكل أنواعه، وربما التعدّي والضرب، وإن دخل الخبر إلى منزل أسرتها ربما يصل الأمر لقتلها، وإن تلصص عليها أحد الجيران والتقط لها صورة وهي تدخن سيجارة في شرفة المنزل، لن يملّ من ابتزازها، وربما أجبرها على ممارسة الجنس وإلا فضحها أمام مجلس محاكمتها المنزلي، لكن قد تجد النساء يدخّن خلسة في بيوتهن، أو مع صديقات لهن في الخفاء أو في عزلة، شريطة ألا يتسرب الدخان خارج الشرفة أو يعبر نافذة الشباك أو يتخطى باب المنزل، حيث تبقى السيجارة هي الرفيق في الوحدة طالما لم يكتشف الأمر أحد، وإلا تحولت الوحدة إلى معتقل بدون رفيق.
مشهد رأسي من ميدان الجيزة
في عام 2017، تركت الصعيد وسكنت في منطقة أرض اللواء بمدينة الجيزة، من أجل العمل في مصنع للملابس، وأول يوم ذهبت لاستلام عملي كمشرفة جودة، شاهدت امرأة على يمين المصنع، تجلس على سيارة خشبية يجرّها حصان "عربية كارو"، ترفع رأسها بقوة وتشمّر أكمامها حتى الكوع، وذراعاها يغطيهما الذهب، تربط رأسها بقطعة قماش صغيرة وترمي ضفائر شعرها الأسود الساحر على صدرها، تمسك بيدها خرطوم الشيشة، وترفعه على شفتيها في رشاقة بدون حرج أو مخاوف أو قلق، تدخّن في الشارع وكل من يمرّ أمامها، رجالاً ونساء، يلقون عليها التحية باحترام وتردّ عليهم بعزة نفس.
بمجرد أن وقعت عيني عليها شعرت بالانبهار... يا لها من امرأة شجاعة وجريئة! لا تخاف من أحد، حتى أن الرجال لا يعترضون على تدخينها ولا يمكن لأحدهم أن يمدّ يده عليها. اقتربت منها وأنا في قمة سعادتي، فخورة بها وقلت لها: "صباح الخير يا معلمة"، قالت لي: "صباح الفل يا عسل"، ثم التفت بجانبها تنادي العامل في المقهى المجاور لها: "يالا يا شامبو، غير الولعة يلا".
تنفق صديقتي من عمق جيبها على سجائرها، لا أحد يمنّ عليها بشيء وهذا هو مربط الفرس: الاستقلال المادي للمرأة
لم يكن بيننا حديث، لكنني كنت أريد أن أعرف ذلك السر العجيب الذي جعلها قادرة على الجلوس في الشارع وهي تدخّن الشيشة بكل هذه الأريحية. المشهد مدهش بالنسبة لي، تجسّدت فيه صورة الحرية والقرار في وقت واحد. هذه امرأة حرّة، تعتمد على عملها في الإنفاق على نفسها، ولها حق الاختيار، والقرار في التدخين سلوك طبيعي تمارسه كالطعام والشراب، بعكس وضع المرأة الاجتماعي في الصعيد، إذ توضع تحت رحمة الرجل، سواء كان أباها أو أخاها أو زوجها، لا تتنفس إلا بإذن أحدهم.
في المصنع قابلت وفاء، امرأة في منتصف العقد الثالث من عمرها، قدمت إلى القاهرة من الفيوم برفقة زوجها، لديها ثلاثة أبناء، أكبرهم في الحادية عشر من عمره، وقد انفصلا بعد أن عثر الزوج على أعقاب سجائر في الحمام، ولما اعترفت له إنها لجأت إلى التدخين منذ ثلاثة أشهر بعد مشكلات عديدة وقعت بينهما، استخدم الموقف ليتعدّى عليها ضرباً وترك لها المنزل والأولاد بدون جنيه واحد، فلم يكن أمامها إلا أن تبحث عن أي مصدر يسدّ حاجتها إلى الطعام وايجار المسكن وسجائرها أيضاً، وكان أجرها هي وابنها عن عملها في المصنع 100 دولاراً شهرياً.
انتهت الإجازة الصيفية وانتهت معها فترة عملي بالمصنع، وعدت إلى استكمال دراستي بالجامعة. كان مشروع التخرّج ينتظرني، وعلى مدار أربع سنوات متتالية بالجامعة، لم أشاهد قط فتاة تدخّن سيجارة، بالرغم من أن بعض الزملاء كانوا يشربون الحشيش في الحرم الجامعي وكأنه عصير قصب.
مرت الأيام سريعة وعدت مجدّداً إلى القاهرة في 2018، وفي منطقة شبرا مصر، أخذت مسكناً برفقة بنات منفتحات. يا إلهي، لم أكن أتخيل يوماً ما أن أمشي في الشارع برفقة فتاة مثلي، تدخّن السجائر بدون أن يظهر على وجهها خوف أو ترقب لمصير أسود قد يلحق بها إن شاهدها أحد الذكور من أقاربها.
التحقت بصحيفة ناشئة للعمل كمحرّرة في قسم التقارير، وكان قسماً صعباً يحتاج دقة متناهية، لكن مرحباً بالحرية من دون صراع مع أعراف المجتمع الصعيدي. تعرّفت على نبيلة، زميلة شابة في منتصف العشرين من عمرها، تدخّن السجائر، وتطلب من زميلها أن يشعل لها السيجارة بقداحته. يا إلهي أين كانت هذه المشاهد وأنا أعيش في المعتقل جنوب مصر؟
السجائر عادة خاطئة، لكن من غير المقبول للمرأة في صعيد مصر أن تمتلك حرية ارتكاب خطأ صحّي صغير بحق نفسها. إن أخطأت قُتلت فهي امرأة، الرجال وحدهم لهم حق الخطيئة والتوبة، أما المرأة فلا توبة لها
يقف الزميلان في بوابة الصحيفة يدخنان معاً. كنت أراقب زميلتي وهي تدخّن بنفس الدقة التي أعمل بها، وأتخيل لو كانت فعلتها في البلدة، هناك كانوا أقاموا عليها الحد وقتلوها بتهمة نشر الفجور. نبيلة كانت واثقة من نفسها تماماً، تنفق من عمق جيبها على سجائرها، لا أحد يمنّ عليها بشيء وهذا هو مربط الفرس: الاستقلال المادي للمرأة في أي مكان هو الحل لتنال حريتها وتتصرّف كما تريد وكيفما ترغب، كامرأة حرّة لها حق التصرّف بدون أن يراقب أنفاسها أحد.
المجد لمقاهي وسط البلد
طلبني أحد الزملاء الصحفيين في القسم الفني ليستعين بي في التجهيز لبرنامج تليفزيوني ضمن فريق الإعداد الخاص به. وافقت على العرض، وذهبت إلى منطقة وسط البلد لمقابلة الفريق الذي ينتظرني في مقهى شعبي، وهنا كانت المفاجأة التي لم أتوقعها: يا إلهي، الرجال والنساء هنا يجلسون في المقهى ويدخنون الشيشة ويشعلون السجائر في وقت واحد. شعرت بالذهول... ما هذا يا الله؟ لماذا لم تعطنا نصف قطرة من هذه الحرية هناك في الجنوب المنغلق؟ لماذا تتركنا ندخن السجائر خلسة في ظلمات النهار وعتمة الليل، أليس من حقنا أن نشعل حتى ولو سيجارة يتيمة؟ لكن المشهد هذا لم يذهب من ذاكرتي حتى الآن. كان مشهداً بالغ العظمة، وشاهدت ما تمنيت أن أراه منذ زمن.
السجائر عادة خاطئة، نعم، أعترف مع الطب في ذلك، لكن من غير المقبول للمرأة في صعيد مصر ألا تمتلك حرية ارتكاب خطأ صحي صغير بحق نفسها. إن أخطأت قُتلت فهي امرأة، الرجال وحدهم لهم حق الخطيئة والتوبة، أما المرأة فلا توبة لها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...