شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
متى أتوقف عن توزيع روحي بين حقائبي ومطارات العالم؟

متى أتوقف عن توزيع روحي بين حقائبي ومطارات العالم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 26 سبتمبر 202311:34 ص

في طريقي إلى المطار للمغادرة إلى مصر، سألني السائق إذا كنت مصرية، فأجبته بنعم، فبدأ بسرد قصائده عن جمال عبد الناصر. يخبرني عن خيانة العرب له وعن كونه قائداً يحتذى به في التاريخ، يقول: "ما اجتمعت أمتي على باطل، والأمة اجتمعت على عبد الناصر".

أتذكر أول مرة رأيت صورة عبد الناصر في لبنان، في ميدان صغير بمفترق طرق بالقرب من شاطئ البحر، قطعة كبيرة من الرخام وقد حفر عليها صورة له. كان الأمر غريباً بل وأفزعني للحظة في بدايته، ولكن مع الوقت اكتشفت أنه، ولأسباب عديدة، يكنّ الكثير من اللبنانيين الحب لعبد الناصر، بل ورأيت أحياناً عائلات يكبر فيها الأولاد جيلاً بعد جيل معتقدين أن عبد الناصر هو فيديل كاسترو العرب، يتذكرون الاستقرار، في حين أتذكر أنا ما سبّبه من تسلّط دام سنوات بعد رحيله.

أتذكر الدكتور فرج فودة، أحد أشهر الكتاب المصريين الذين عاصروا هذه الحِقْبَة وما خلفته حكومة الثورة  من آثار وأحداث  وحكام، أتت حرب 1967 ليفقد الكثير من عائلات الشعب المصري أبناءهم بلا رجعة، ويفقد فرج شقيقه يحيى الذي قُتل ولم يتم العثور على جثمانه. في نفس العام، وبتاريخ الرابع من آب/أغسطس 1967، بعد شهرين مما يدعونه النكسة، قامت مصر بقيادة حكومة الثورة! بالتوقيع على "المعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية- الأمم المتحدة 1966" ولم ينجح هذا التوقيع في منع الحكومة المصرية من اعتقال الدكتور فودة وزملائه من المتظاهرين في انتفاضة فبراير 1968، المطالِبة بتطبيق الديمقراطية وأبسط الحقوق الإنسانية لتحقيق العدالة لشهداء الحرب الذين فقدوا نتيجة - على حد قولهم - لأخطاء القيادات العسكرية آنذاك.

أتذكر أول مرة رأيت صورة عبد الناصر في لبنان، في ميدان صغير بمفترق طرق بالقرب من شاطئ البحر، قطعة كبيرة من الرخام وقد حفر عليها صورة له. كان الأمر غريباً بل وأفزعني للحظة في بدايته، ولكن مع الوقت اكتشفت أنه، ولأسباب عديدة، يكنّ الكثير من اللبنانيين الحب لعبد الناصر

وبرغم وعود وقَسم السادات "بشرفه" للمتظاهرين الواصلين لمجلس الأمة بعدم المساس بهم، وأنه سيتم سماع مطالبهم بمنتهى الانفتاح، إلا أن هذه الوعود كانت كاذبة كلها، ليتم اعتقال كل من سجّل اسمه، أو حتى لم يسجل ولكن تم الشك بأمره، في نفس الليلة.

وبعد توليه رئاسة الجمهورية من بعد عبد الناصر، كان واضحاً حيال عدم تغيير السياسات القمعية - وإن كان هو نفسه مشجعاً لفصل السياسة عن الدين بشكل أو بآخر- فقد بدأ فترة حكمه بعزل كل العناصر الناصرية في حكومته، بما سُمي بالثورة التصحيحية، وحارب الأحزاب الاشتراكية بزرعه للأحزاب الدينية التي أقدمت على اغتياله في النهاية!

"أحاصر دائما شبحاً يحاصرني"

نمر في طريقنا بما أسمّيه "أسوار الحرية". في مصر لا يسمح برسم الجرافيتي أو بكتابة العبارات المتعلقة بالثورة. أفكر في عبد الناصر وقمعه، وفي كيف أنه وعلى خلاف شخصه  وحكومته القمعية، لم يكن هذا الحب قاتلاً لفكرة أو روح الثورة في قلوب الأجيال اللبنانية. أرى شوارع بيروت تحاصرني وتحاصر أفكاري، عبارات "الثورة مستمرة" في كل مكان، ومطالب الشعب مكتوبة على جدران المدينة، بدايةً من إنهاء الطائفية والدعوة لدولة مدنية، إلى فضح الاختلاسات المالية والمطالبة بتحسين الوضع الاقتصادي.

السلطة في لبنان، برغم قسوتها واستبدادها، هي أكثر البلدان العربية انفتاحاً من حيث الفرصة في بدء الاحتجاجات، وكمْ أحب حين يقودني الحوار مع أحد المواطنين لمناقشة الوضع السياسي أو الاقتصادي، وأسمعهم يتحدثون عن الثورة بصيغة الحاضر وكأنهم ما زالوا في الميدان.

خرج المتظاهرون في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، احتجاجاً على فرض ضرائب جديدة عليهم تزامنت مع الركود الاقتصادي الحاصل آنذاك، في اليوم التالي ازدادت أعداد المحتجين، وزادت معها أعمال العنف من أفراد الأمن اللبناني تجاه المواطنين.

انتشرت الأخبار بين الجاليات اللبنانية حول العالم، ليتم تنظيم وقفات حول السفارات بكثير من الدول الأوروبية تضامناً مع المتظاهرين المحتجين، وفي 20 تشرين الأول/أكتوبر، زاد الغضب الشعبي أكثر، ليخرج من جميع أنحاء البلاد أعداد تقدّر بمئات آلاف، ليصبح الاحتجاج على الضرائب المفروضة شعلة الثورة اللبنانية في المطالبة بحقوق المواطن في أن يحصل على حكومة أقل فساداً وأكثر مسؤولية تجاه الشعب، وإصلاحية لكل من الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لم تنته الثورة خلال 2019، وزاد من غضب الشارع انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة الكثير من البشر، ولكن حتى هؤلاء لم تنساهم الثورة، وأضافوا بغيابهم سبباً يدعو الشعب للمحافظة على استمراريتها إلى حين تحقيق مطالبهم.

وما زالت صور وأسماء الضحايا تملأ جدران الشوارع في بيروت وما حولها من مدن، مخلَدين جنباً إلى جنب مع شعارات "الثورة في كل مكان"، تشعر أن كل جدار يخبرك بأن لا أحد يُنسَى في هذه الأرض، فتُبقِي الذكرى بدورِها ذكرى أخرى لتحيا وتستمر، وإلى حين تحقيق العدالة الإنسانية "بدنا نكمل بللي بقيوا، كتار قلال منكمل بللى بقيوا".

نحيا لنموت ونموت من أجل الحياة

نمر بالسيارة على المزيد من جدران الحرية، أتذكر نزهة ليلية مع صديقي الإيراني، قبل عودته إلى منفاه الإيطالي وحزنه على الوضع في إيران، فأخبره أن الثورة الإيرانية، وإن كثُر ضحاياها، باعثة للأمل، فيسألني: كيف؟ أبدأ بسرد الأحداث التي يعرفها جيداً.

بعد أكثر من أربعين عاماً على قيام الثورة الإسلامية في إيران، قامت ثورة أخرى لتنهي الانتهاكات الفجة بحق المواطنين عامة والمرأة خاصة. خرج المتظاهرون احتجاجاً على قتل مهسا أميني من قبل شرطة الأخلاق، هتف الثوار على التوالي: المرأة، الحياة، الحرية، وكانت هذه الشعارات الثلاثة كافية لقلب العالم بين ليلة وضحاها، لتتحدّث النشرات الإخبارية والناشطون في العالم عن مقتل مهسا أميني، وعن الثورة الإيرانية!

مقتل شابة في مقتبل عمرها لارتدائها الحجاب بشكل غير مناسب، من وجهة نظر شرطة الأخلاق، وعلى قدر قساوته، هو بالنهاية شيء متوقع من أحد أشدّ وأشهر الأنظمة الأمنية الدينية استبداداً وقمعاً، ولكن قيام ثورة بهذه البقعة من الأرض فهو الباهر والمثير للدهشة لنفس ذات الأسباب.

أخبره أن السلطة الإيرانية عُرفت بتصعيبها الحياة لأي ناشط أو صحافي يحاول إيصال صوت المعاناة الإيرانية للعالم، أو بتعذيبها وسجنها وقتلها للمعارضين، سواء كان هذا قبل قيام الثورة الإسلامية أو بعدها، فالمشكلة دائماً ما تكمن في الحقد المتنقل من سلطة لسلطة، لكن حتى في إحدى أشد بقاع الأرض ظلاماً، لم تنطفئ شعلة الثورة المدنية والرغبة الإنسانية في النضال من أجل حياة أفضل وأكثر حرية وعدالة، وما يحدث الآن معناه أن الأمل لم يمت تماماً، وما زالت الثورة مستمرة.

ما زالت صور وأسماء الضحايا تملأ جدران الشوارع في بيروت وما حولها من مدن، مخلَدين جنباً إلى جنب مع شعارات "الثورة في كل مكان"، تشعر أن كل جدار يخبرك بأن لا أحد يُنسَى في هذه الأرض، فتُبقِي الذكرى بدورِها ذكرى أخرى لتحيا وتستمر، وإلى حين تحقيق العدالة الإنسانية

متى أتوقف عن توزيع روحي بين حقائبي ومطارات العالم؟

أصل مطار رفيق الحريري تاركة كل هذه الأفكار والذكريات في حقيبة على الباب المطار حتى أعود وأستعيدها مرة أخرى، ففي مصر لن تعرف أبداً إذا ما كانت الأجهزة الأمنية تستطيع قراءة أفكارك أم لا، فأضطر آسفة في كل مرة أعود فيها إلى مصر، أن أترك شجاعتي وأملي وذكرياتي وحريتي وشغفي وأحلامي.

استرجع كلمات الدكتور فرج فودة لمرة أخيرة قبل أن أرحل، في مقدمة كتابه "نكون أو لا نكون": "يقيناً سوف يكتب البعض من الأجيال القادمة ما هو أجرأ، وأكثر استنارة، لكنه سوف يصدر في مناخ آخر، أكثر حرية وانطلاقاً وتفتحاً، ولعله من حقنا عليهم أن نذكّرهم أنهم مدينون لنا بهذا المناخ، وسوف يكتشفون عندما يقلبون أوراقنا ونحن ذكرى، أننا دفعنا الثمن"، وأتذكر كلماته وأمنياته في الحصول على مناخ أكثر حرية كانوا سبباً في اغتياله.

أصِل مطار القاهرة، حتى أستلم مخاوفي وغضبي وكبتي ويأسي وآلامي في حقيبة أخرى قد تركتها هناك من قبل. يصل صديق ليقلّني من المطار، ويسألني إلى أين أريد الذهاب؟ أجيبه بأن نذهب إلى قهوة زهرة البستان بوسط البلد، في طريقنا نمر بميدان التحرير، وأخيراً أتذكر ثورتنا، وأن هذا الشعب كان قادراً على أن يثور، أتذكر آخر مرة كنا فيها أحراراً.

في يوم ما، خرجت ثورة يناير من قلب القاهرة بميدان التحرير، بعد توافر الكثير من الأسباب المؤدية لثورات فارقة حول العالم، من الطائفية السياسية وفساد مؤسسات الدولة والتسلسل في الحكم لأفراد عسكريين، إلى انتهاكات حقوق الإنسان الفجة من قبل أفراد الأمن والحجر على حقوق التعبير و قضايا الاختلاس والنهب من مال الدولة وصعوبة المعيشة.  ثمانية عشر يوماً من الهتاف بـ "عيش، حرية، عدالة اجتماعية كرامة إنسانية"، ثمانية عشر يوماً من الهتاف: "يسقط النظام، يسقط حسني مبارك"، ليسقط مبارك ويخمد شعلة الثورة تماماُ بسقوطه. سقطت صورة النظام لكن النظام نفسه لم يسقط، ولم يدرك هذا إلا بعض الشباب المسجونين حالياً في السجون المصرية، أو في منفى ما بعيد عن هذه الأرض، أو مدفونين تحت تراب أحد الكباري في أحد مشروعات الدولة.

يقودني الشارع المزدحم إلى دوامة من التساؤلات، أنظر إلى الوجوه من حولي آملةً في أن أسمع أو أرى علامة تخبرني بأننا سنستمر (لماذا لم نستمر؟) في دولة يعيش على أراضيها أكثر من مئة وعشرة ملايين مواطن، لماذا لم تستمر الثورة المصرية؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image