من القصص غير المعروفة، والتي لا أتبّناها بالكامل رغم تأليفي لها الآن، أن كولن باول، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، عندما وقف على الحدود السورية من جهة العراق، ووجّه تحذيراً شديد اللهجة للرئيس السوري بشار الأسد، بـ "وقف السلوك الذي يتبعه أو سنأتي إليه لنجبره"، كان ردّ الرئيس السوري: "من هذا الأجرودي الذي يهدّدنا؟ ليرسلوا لنا شخصاً لديه شعر في وجهه كالرجال على الأقل".
تستوسترون عربي
من يتأمّل صورة عائلة الرئيس الراحل حافظ الأسد، لا تفوته ملاحظة الشوارب الناعمة التي يحملها الذكور الثلاثة في الصورة، والشارب الكبير لكن المشذّب للأسد الأب، وربما إذا اقتربنا قليلاً يمكن أن نلمح طيف شارب صغير فوق فم الأم، لكنه شارب معنوي، نشأ في الأذهان نتيجة ما عُرف عن السيدة الأولى من تدخّل وتحكّم وقوّة شكيمة، وربما إذا بحثنا جيداً تحت ثيابها الداخلية لوجدنا ما يفاجئنا، (هذا لا يعني أي إساءة لصورة النساء وإذا ما تمتعن بقوّة شخصية فهن يقتربن من الرجال، أبداً، لكن كما قال مغنّ أميركي مرّة: ابق مع الحليقين، فالأشرار لا يمتلكون جيليت جي تو)، أما صورة عائلة الراحل صدام حسين، فكمية الشعر الأسود فوق الشفة العليا مع التستوسترون الذي ينضح من شاربي القائد وأبنائه، كافية لأن تسمّم نهراً بحجم نهر دجلة، ولينكفئ هولاكو وخرافته حول إغراق الكتب إلى الخلف.
وأما بخصوص السؤال عن الشارب الأكبر، فسأجيب عليه في نهاية المقال.
إذا تتبعنا فرويد ومن ثمّ لاكان، فسندرك أن الشوارب الكثيفة، التي يقف عليها نسر أو ضبع أو كلب أجرب، وفي حالة الرؤساء العرب، يقف عليها الوطن بأكمله، بزيتونه ونخيله وأسماكه وبتروله وغازه وفوسفاته أيضاً، هي شعور بالنقص الذكوري لا أكثر
إذا تتبعنا فرويد ومن ثمّ لاكان، فسندرك أن الشوارب الكثيفة، التي يقف عليها نسر أو ضبع أو كلب أجرب، وفي حالة الرؤساء العرب، يقف عليها الوطن بأكمله، بزيتونه ونخيله وأسماكه وبتروله وغازه وفوسفاته أيضاً، هي شعور بالنقص الذكوري لا أكثر، لكن من نحن لنحكم على قادة خالدين وأبناء أكثر خلوداً، رغم موتهم؟
كفّ السياسيون الأميركان عن "استخدام" اللحى (والشوارب ضمناً، يعتبر لينكولن هنا كسلفي نحيل ومخيف) في إطلالاتهم، ذلك أن اللحية ارتبطت بالشيوعيين، وعبثاً حاول الهيبيون والفوضويون ودعاة "الطبيعة" والنسويون، أن ينسبوها إلى أنفسهم، إذ كان تشي غيفارا وكاسترو وراؤول ولاحقاً ياسر عرفات (وإن كنت أظن أن القصّة هي مجرّد حساسية جلدية للحلاقة ليس أكثر) قد طبعوا العالم بتلك الطبعة المصيرية، قبل أن يستولي عليها أسامة بن لادن ويجعل لكل لحية مقياساً بالشبر، ويمدّ لسانه بوجه من تبقى من الملتحين الشيوعيين، ويقول لهم: أها ياعرصات.
كان الشارب إلزامياً بالنسبة لأفراد البوليس الفرنسي حتى عام 1930، ربما لنفي الصورة التي تقول إن رجال الشرطة خنازير فحسب
عودة إلى الخلف
مما رأينا على جدران الكهوف والرسومات الأولى، وأيضاً ضمن الأدوات الحجرية المعروفة في تلك الأزمنة، في عصور ما قبل التاريخ، أول شفرة "ناسيت" في التاريخ مصنوعة من الأحجار، إذ إن الإنسان البدائي ذاك، كان يتمتع بنظرة جمالية محدّدة، وهذا تجميل لقولنا إنه يخاف من القمل والعثّ أكثر مما يخاف من زوجته، إذا كانت من أولئك النسوة المنتشرات اليوم واللواتي ينسحرن بهيئة الملتحين النظيفين التي تعمّمت في التلفزيون، بلحية مدببة ومنحوتة بالميليمتر، على مقياس "الهيبة" وتيم حسن، ففي النهاية، هو رجل بدائي لكنه أبداً لم يكن غبياً لهذه الدرجة.
في مصر القديمة (3000 قبل الميلاد) كان الشعر من توافه الأمور، وكان يُزال حتى من على الحواجب، ويُستعاض عنه بلحى مستعارة وباروكات لتأكيد علوّ المكانة، حتى للنساء، فكانت اللحية من علامات السيادة والقوة والسيطرة، وأيضاً استملح الإغريق اللحى والشوارب واعتبروها مرادفة للرجولة والحكمة، وإذا لحق عار بأحد كان يحلق نصف لحيته أو كلها، كعلامة حداد، وإذا أردنا أن نتخيّل "يوتوبيا" أفلاطون، علينا أن نختصرها بـ "مدينة الملتحين والأبطال".
فعل الرومان العكس، في تلك الأزمنة، إذا اعتبروا أن جميع الأشرار ملتحون، لكن مع سقوط الإمبراطورية الرومانية، ثم انتشار المسيحية، لم يتسامح الكاثوليك مع حلاقة اللحى، إذ علينا أن نحتفظ بما أعطانا الله، وربما هذا ما جعلهم يمتنعون عن إجراء الختان كالمسلمين واليهود، فمن نحن لـ "نقصّ" ما أطاله الله لنا؟
من يتأمّل صورة عائلة الرئيس الراحل حافظ الأسد، لا تفوته ملاحظة الشوارب الناعمة التي يحملها الذكور الثلاثة في الصورة، أما عائلة الراحل صدام حسين، فكمية الشعر الأسود فوق الشفة العليا مع التستوسترون الذي ينضح من شاربي القائد وأبنائه، كافية لأن تسمّم نهراً بحجم نهر دجلة
أما الفرس فكانوا يحلقون لحاهم ويتركون شواربهم، ويُحكى أن النبي محمد، عندما أرسل إليه كسرى اثنين من رسله، وجدهما ذوي شوارب كثّة ولحى محلوقة، فقال: "ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا -يريدان كسرى- فقال محمد: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقصّ شاربي. إن ربي قتل ربكما الليلة". وهذا الحديث رواه ابن جرير الطبري، وحسّنه الألباني.
وورد الأمر عن لسان النبي بعدة صيغ: "أعفوا اللحى" و" أرخوا اللحى"... لكن التاريخ يذكر أن أغلب ملوك الفرس كانوا ملتحين، والله أعلم، إلا في فيلم "300" الرديء والعنصري والمليء بالأكاذيب (إخراج زاك سنايدر، بطولة جيرارد باتلر، 2006) حيث استخسر المخرج اللحية الجذّابة بشخصية الملك الفارسي، فمنحها لليوناني الجميل.
والأمر الطريف هنا، أن اللحية بعمر أكثر من أسبوعين كانت تخضع للضريبة في إنكلترا وإيرلندا بأمر من الملكة إليزابيث الأولى، كما لحقهم في فرض الأمر القيصر الروسي بطرس الأكبر، ولحسن الحظ، لم يسمع بهذا الأمر الرؤساء العرب، كالسيسي على سبيل المثال أو الأسد، أو كنا لندفع ضريبة مشابهة ترضي وجهيهما الأملسين.
مع جيليت يتساوى الرجال والنساء
جاءت الثورة الصناعية لتمسح كل الثوابت، وفي 1885 اخترع المهندس الأميركي جيليت ماكينة حلاقة، فتساوى عندها الرجال والنساء وذهبت اللحية أدراج الرياح، لكن الشوارب بقيت، خصوصاً عندما تبنّاها قادة العالم، الحرّ وغير الحرّ، هتلر وستالين وديغول، بينما امتنع عنها روزفلت وتشرشل وموسوليني، لكن اللحية قاومت مع البيتلز وحركة الهيبيين على خطى الفتى الجميل يسوع، ثم الماركسيين والشيوعيين، قبل أن تدعمها الميديا الجديدة وبهجة الفتيات الصغيرات بالاعتراف أنهن يفضّلن ذوي الشعر، أي الدببة ذات الفرو، على "الجُرد والمُرد".
مع سقوط الإمبراطورية الرومانية، ثم انتشار المسيحية، لم يتسامح الكاثوليك مع حلاقة اللحى، إذ علينا أن نحتفظ بما أعطانا الله، وربما هذا ما جعلهم يمتنعون عن إجراء الختان كالمسلمين واليهود، فمن نحن لـ "نقصّ" ما أطاله الله لنا؟
وطالما نتحدث عن شوارب الزعماء العرب، علينا أن نقرّ بأن أغلب أولئك الزعماء قدموا من خلفيات عسكرية، ممن تقف بحزم ضد إطلاق اللحى وتفضّل، كعلامة على الذكورة المتزنة، أن تصنع شوارب منمّقة، لكن ضابطاً واحداً سورياً، هو باسل الأسد، سُمح له بإطلاق لحيته رغم منعها عن غيره (سمح هو لنفسه) وقيل إنه أطلقها بطلب من أميرة الأردن هيا بنت الحسين، أو لأنه كان يتمتع ببشرة دهنية غير مناسبة للحلاقة، وهو ليس الوحيد ممن يمتثلون لرأي الفتيات، فيُحكى أيضاً عن إبراهام لينكولن أنه ترك لحيته وامتنع عن حلاقتها، بعد أن وصلته رسالة من فتاة صغيرة، تخبره أن من الأفضل له إطلاق لحيته لمساعدته على التميّز في الانتخابات.
كان الشارب مثلاً إلزامياً بالنسبة لأفراد البوليس الفرنسي حتى عام 1930، ربما لنفي الصورة التي تقول إن رجال الشرطة خنازير فحسب، والطريف هنا أن إضراباً قام به عمّال المقاهي والمطاعم في عام 1907، للمطالبة بالسماح لهم أيضاً بتربية الشوارب، فمن غير المعقول التمييز هذا، فالنُدل أيضاً رجال، وعلى الرجال أن يكونوا رجالاً دائماً، وليس من التاسعة حتى الخامسة فحسب.
بالرغم من أن اللحية لا تسهم بشكل مباشر في التكاثر البشري، خصوصاً أنها أعطية جنسية لجنس واحد فقط، وكان داروين قد فسّر عملية التطور هذه والاحتفاظ بها كنوع من الانتقاء الجنسي الذي ساهمت فيه النساء، على غير العادة، إذ إن الغالبية العظمى منهن يجدن الرجال الملتحين أكثر جاذبية، ربما يعود الأمر لعامل الخصوبة أو الذكورة المبالغ بها، فغالباً ما كان الملتحون أكثر عدوانية وأشكالهم مخيفة أكثر.
ثم جاء الرهاب من الإسلاميين بعد أحداث سبتمبر 2001، وأصبحت اللحية مرذولة، خصوصاً إذا ترافقت مع اللباس الأفغاني الشهير وتركت بغير ما تشذيب أو تحلية، فاللحية الإسلامية تقول وتتحدّث بغير اللغة التي تتحدّث بها لحية الموضة والسينما، وهكذا يا سادة، وقعنا، نحن الرجال، في حيص بيص: أنطلقها أم نحلقها؟ وفي الحالتين لن يعجب الأمر لا نساءنا ولا رجال الأمن في مطارات أوروبا.
وبالعودة لسؤال عائلة من هي صاحبة الشوارب الأكبر، عائلة الأسد أم صدام، فأستطيع القول إن العائلتين، بشواربهما الأنيقة أو الكثّة، أشبه بسرطان خبيث، يكاد لا يموت قبل أن يموت المريض، وفي حالتنا، لا تموت الشوارب قبل أن يموت الوجه القبيح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...