أدهشتني بشكل كبير رواية محمد شكري "الخبز الحافي"، التي تناول فيها فترة الفقر والجوع والجهل التي ملأت طفولته وشبابه، مثيرة بشكل كبير فكرة أن الحياة قابلة للتغير مهما بلغ بؤسها وسوؤها، تذكرت وأنا أقرأها حيرة قديمة أصابتني وأنا في بداية المراهقة، حين تحدث زوج خالتي أمامي مع طبيبة الأسنان التي رافقني لزيارتها عن فترة طفولته، وكيف كان يضطر للبحث عن بقايا الطعام وكسر الخبز اليابسة في حاويات القمامة في قريتهم، وهو طفل صغير، بمجرّد لمحه لغياب خاتم زواجها عن يدها.
لم تهتم الطبيبة الجميلة وقتها بحديثه، لكنه شغلني نوع حديثه، بالأخص أن زوج خالتي بهيئة جيدة، يدخن سيجاراً فاخراً، رائحته طيبة، متوسط التعليم، يعمل، متزوج، ومسؤول عن أسرة ميسورة الحال.
ظل حديثه عن فترات جوعه ضيفاً دائم الحضور، وبرغم أن تلك المرارة المختلطة بشيء من الفخر شديدة الوضوح، إلا إنه لم يحصل بها على أي اهتمام في كل مرة يذكر فيها جوعه، وكأن الجوع حالة فردية لا يفهمها غير صاحبها، يلحق حديثه مباشرة تعليقات شبه سيئة على خالتي، مثل أنها من فصيلة النساء الطيبات، فصيلة والدته، وبرغم أن كلمة "طيبات" تعني أنها حسنة وجيدة، إلا أن عينيه وطريقة طرحه واستخدامه لكلمة "فصيلة" لا تعني هذا.
يقول محمد شكري في روايته: "أكره المرأة حين تعتبر نفسها مثل سلعة"، جاء في سرده تفاصيل لنساء خاضعات مررن على حياته، وكانت أول هذه النساء والدته الضعيفة الخاضعة طوال الوقت، حتى أنها تقبلت قتل والده لأخيه، ولم يكن لها أي رد فعل إيجابي أو سلبي، وأخريات التقى بهن حين كان يعمل كمهرب، ومنهن عاهرات كان يلتقي بهن ليكتشف ذكورته، لكن في ذهنه ظلت شخصية آسيا القوية الأكثر تأثيراً على عقله.
توطدت علاقتي بزوج خالتي على مدار السنوات، أصبحت صديقته برغم أنه لا يجمعه بي شيء سوى استماعي الجيد لحكايات جوعه، واستحسانه لاهتمامي بسماعه، بالإضافة إلى أنني أرفض الخضوع بشكل عام في حياتي، وهذه يثيره بشكل لا واع، لا أستطيع أن استئصله عن محمد شكري، وكأن الجوع يوحد تفاصيل أبنائه باختلاف قصصهم، وباختلاف وعيهم وإدراكهم.
قديماً، حين لمح أصبع الطبيبة بدون خاتم زواج، اعتبره إعلاناً رسمياً عن شبعها وقوتها، وأنها لا تعتبر نفسها سلعة، وكان هذا أيقظ داخله نضاله مع الجوع، فراح يقصّ عليها تفاصيل بدت لها مثل إعلان عابر لمنتج لا يثير اهتمامها، وبغض النظر عن حقيقة أمر انفصالها وتفاصيله، إلا أنه عالق في فلسفات قد تكون مجرّد عقد لا أكثر.
أخبرتني صديقة جميلة جداً اسمها ملك، ونحن نشاهد سيرة مارلين الذاتية، بأن لا شيء في الحياة أسوأ من أن يدرك الجميع جوعك الشديد للعاطفة، خاصة وأنت في شراكة معلنة مع رجل، وبرغم قلّة هذه الكلمات إلا أنها تصف حياة وتفاصيل آلاف من النساء... مجاز
في الحقيقة، خالتي لا تعتبر نفسها أكثر من سلعة باهظة الثمن امتلكها من قدّرها، وبالتالي هي ملك له، تهب نفسها مثل أمه لخدمة افتراسه الذي فرضه عليهم المجتمع، وهو لا يكف عن افتراسها الذي يكرهه في المجتمع.
احتقن وهو يخبرني ذات مرة بأن ولده مهمل في دراسته لدرجة كبيرة، فضربه بشكل مبرّح أمام أمه وأخواته، ثم عاد ليخبرني عن نضاله القديم ليكمل دراسته في ظل جوع أسرته، وتسلط والده، ورفضه صرف نقودهم القليلة على تعليمه. قال شكري: "بالمال يستطيع الإنسان أن ينكح العالم"، وبعدما امتلك الأموال وأصبح يستطيع أن ينكح العالم، لم ينس ألم الفقر، وعقده، والعيش داخل رماديته التي أصبح يظنها بياضاً، وهكذا زوج خالتي.
احتقن أكثر ذات مرة وهو يخبرني بأنه طرد خالتي من بيته في منتصف الليل لأنها لا تتوقف عن الشجار مع الجيران، وعاد يسبّ طباعها التي تشبه طباع والدته، برغم أنها لا تعيش فقراً يجعلها غاضبة دون سبب مثل أمه، ويسبّ نفسه لأنه لا يستطيع أن يسيطر على انفعالاته أمام تصرفاتها، برغم أنه اليوم ليس فقيراً ليظل مهموماً ومشحوناً طوال الوقت هكذا، يظل يسبّ ضعفها في كل مناسبة، وينجرّ مسحوراً أمام رائحة أي قوة تخرج من غيرها، وهو لا يعلم كيف يمكن أن يجاري القويات أو يحتملهم، ولا يعلم إن كان بالفعل رجلاً قوياً أم رجلاً غاضباً، فشبعه اليوم لا يعني غياب الجوع عن حياته، ولا يعني انتهاءه.
الجوع يضع أحمر شفاه وأيلاينر
هناك اقتباس شهير للنجمة الراحلة مارلين مونرو: "وراء الابتسامة والمكياج، أنا مجرد فتاة تتمنى في هذا العالم". ظل جوع مارلين يلاحقها، ويعيش داخلها بوجوه عديدة، تشكل لها في صغرها على هيئة الفقر والجوع، وفي شبابها على هيئة الفقر في الحب والأمان، ولا أظن أن هناك شيئاً أكثر من الجوع تسبب في تعاستها المستمرة، واتسعت به سوداويتها.
وعلى ذكر استمرار جوع مارلين مونرو في ظل شهرتها وثرائها، أشرد دائماً وأنا أبحث عن إجابة لسؤال: كيف يكون شكل جوع النساء إن كانت بطونهم ممتلئة؟
أخبرتني صديقة جميلة جداً اسمها ملك، ونحن نشاهد سيرة مارلين الذاتية، بأن لا شيء في الحياة أسوأ من أن يدرك الجميع جوعك الشديد للعاطفة، خاصة وأنت في شراكة معلنة مع رجل، وبرغم قلّة هذه الكلمات إلا أنها تصف حياة وتفاصيل آلاف من النساء.
المرأة قد يخبرها حدسها بأنها جميلة وشبقة وقوية وناعمة وحنونة، ومع كل يوم تحبط فيه احتمالات جودتها بسبب إنكار شريكها، تصبح حقيقتها ليست ملكها، بل عطية تصطادها بها شباك المحتالين، سيدرك أي عابر أن رغبتها القوية في الجنس وقدرتها على جعله رائعاً، أصبحت داخلها عاراً وهوساً لامرأة محبطة من زواجها الذي يقدس استمراره مجتمعها، والحب التي تستطيع منحه، وتأمل في الحصول على مثله، أصبح اسمه مراهقة أو أزمة منتصف العمر، والرغبة في التقدير والملاطفة، أصبحت أشياء لا تستحق ولا تستحقها.
ملك متزوجة من سبعة أعوام، وجوعها ممتد إلى اليوم، هيئتها الراقية الجميلة، تحققها المهني، أطفالها... أشياء لا تغني جوع فرجها، ولا جوع زوايا جسدها، ولا جوع عقلها وقلبها، معدتها الممتلئة لا تستطيع الوقوف أمام تلك الحكة التي تصيب روحها بمجرد محاولة أي عابر سبيل سد ثقوبها، حتى وهي تعلم أنه صياد جديد، يبحث عن فريسة جائعة ليسد جوعها بجوعه.
ملك متزوجة من سبعة أعوام، وجوعها ممتد إلى اليوم، هيئتها الراقية الجميلة، تحققها المهني، أطفالها... أشياء لا تغني جوع فرجها، ولا جوع زوايا جسدها، ولا جوع عقلها وقلبها... مجاز
الجوع يضحك ويلعب ويتحدث بجدية ويحب
في عمر الأربعة وعشرين، عشت أول تجربة لي مع الجوع، لكنه جوع مختلف عن جوع زوج خالتي، أو عن المعنى المألوف، في هذا التوقيت تخرجت من الجامعة، وأصبح من الضروري أن أعمل، لأن عائلتي أصبحت تمر بأزمة كبيرة، وهنا واجهت أول شبح من أشباح الجوع. لم أحصل على أي عمل حاولت الحصول عليه، فأنا تخرجت بتقدير ضعيف بعد ست سنوات، لست جيدة في اللغة الإنجليزية، ولا مهارات عملية أو علمية لدي، إلا شعور ضئيل بأنني قادرة على الكتابة، وأنا مدركة تماماً لفكرة أن كتابتي ما زالت ركيكة وضعيفة.
وأنا صغيرة كنت أحب فيلم صباح وأحمد مظهر "الأيدي الناعمة"، وكنت لا أفهم لما بطل الفيلم ما زال محتفظاً بفكرة أنه "برنس" أباً عن جد برغم أنه الآن مفلس. اتضح لي بعد سنوات أنها فكرة فلسفية جداً، حتى وإن كان الفيلم تناولها بشكل كوميدي، فرجوع الحياة إلى الوراء ضربة تشبه زلزالاً مفاجئاً.
حاولت خلال عامي الحصول على عمل جيد، وجيد هنا أقصد به أن يكون العمل به الحد الأدنى من الآدمية، والدخل الذي يعيني على تغطية جزء متوسط من احتياجاتي، لكن كان الأمر صعباً ومعقداً: سكرتيرة مكتب، متطوعة في منظمة محلية، مدربة رقص في صالة رياضة للسيدات، صحفية تحت التجربة في مجلة سيئة الإدارة، وغيرهم.
وتحولت في تلك الفترة لبرنس الأيدي الناعمة: مظهري ما زال جيداً ومتماسكاً، أضع أيلاينر فاتن وأحمر شفاه صاخب، ومن داخلي جائعة ومتفككة.
تقديس لا امتنان
أمسكت بي عدة مرات وأنا أعمل في بار صالة الرياضة التي أدرّب فيها السيدات على الرقص، أتحدث عما أستطيع فعله لكنني لم أفعله بعد، أي أنني أمسكتني كثيراً وكثيراً وأنا أحاول إخبار الجميع، بأنني أفضل مما أبدو عليه أمامهم، وكأنني أخبرهم بمدى استحقاقي لفرص أفضل بكثير من فرصي الحالية، دون أن أنطق بهذا بشكل صريح، وكأنني قدّست جوعي بحديث مستمر عن حقيقتي التي ما زالت الحياة تصرّ على دفنها، ولم تسمح لي وقتها بفرصة تجعلها مكشوفة أمام الجميع، وأصبحت أشبه زوج خالتي في تمسكي بالحديث عن أزماتي، لأبرر وضعي الحالي وأنفّس عن عدم رضاي عنه، وهنا عرفت أن البشر يقدسون جوعهم ويغارون عليه بشدة.
حاولت خلال عامي الحصول على عمل جيد، وجيد هنا أقصد به أن يكون العمل به الحد الأدنى من الآدمية، وتحولت في تلك الفترة لبرنس الأيدي الناعمة: مظهري ما زال جيداً ومتماسكاً، أضع أيلاينر فاتن وأحمر شفاه صاخب، ومن داخلي جائعة ومتفككة... مجاز
الجوع بالأخص يقدّسه أصحابه، لأن في ألمه هيبة قادرة على مغفرة أي ذنب يرتكب في ظل حضوره، لذلك كان زوج خالتي يحاول تبرير محاولات خيانته لخالتي به، ويبرّر تعنيفه لها ولأولاده به، يربط دائماً سوء طباعه الحالية بسوء ماضيه، فيصبح ذنبه خفيفاً في نفس من يسمعه، وكأنه سحر يحول العار لفخر.
وعلى ذكر كيف يحول الجوع العار لفخر، ملك تتحدث دون خجل عن صياديها، وتبرّر بالجوع تحمّلها لوقاحتهم وأذاهم، وتحول داخلها خطيئة الخيانة، أو خطيئة سماحها لنفسها بالوقوع في علاقات مؤذية، لفكرة صائبة، مثل أنها تحاول سرقة المتعة من الحياة رغم أنف قسوة ظروفها.
خلال السنوات الماضية حاولنا جميعاً أن نمتنّ لتجربة الجوع، مثلما نمتنّ لجميع تجاربنا، خاصة بعدما توازنت حياتنا ومشاعرنا، لكننا فشلنا. لا أحداً يمتن لجوعه، برغم أن الجميع يقدّسه، فالجوع يجعلنا غير راضين عن كل شيء، وعدم الرضا يعني أن جميع احتياجاتنا بأفواه مفتوحة على بعضها، مكشوفة على الجميع، وكل شخص يمر فوقك سيتعامل مع جوعك بطريقته واحتياجه وجوعه وشبعه، وقضيتك الوحيدة ستصبح قضايا، كل واحدة منها داخل محكمة مختلفة، داخل قفص التقديس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 6 ساعاتHi
Apple User -
منذ 6 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا