"كما توقعت، يقع المكتب في أعماق بولاق الدكرور، في حارة ضيقة جدًا، حارة تجلس نساؤها أمام عتبات البيوت، فحسين عبد العليم لا يرتاح سوى في هذا العالم، المملوء بالصخب والنميمة، والدليل أنه لم يغير المكتب قرابة الثلاثين عامًا. لاحقتنا – أنا ومريم- عيون النساء، حتى وصلنا إلى البيت الذي فيه مكتبه، البيت المكون من ست أدوار".
إسراء النمر - ألعاب حسين عبد العليم.
ثمة لغزان أساسيان في حياة الروائي المصري حسين عبد العليم ( 1953- 2019)، الأول، أنه لم يظهر قط - أو فيما هو معروف- في قوائم الجوائز الأدبية، رغم أهمية تجربته وخصوصيتها، ورغم إصدار أهم كتبه عن دار ميريت للنشر التي قدمت أبرز الأصوات الأدبية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي فترة "ازدهار" حسين عبد العليم، أو على الأقل، الفترة التي انتظم فيها في إصدار رواياته تباعاً. أما اللغز الثاني، فهو أن روايات عبد العليم انتمت جميعها إلى نوع الرواية القصيرة المعروفة بـ "النوفيلا"، على الرغم من أنها صدرت في وقت راج تعبير "الرواية الكَعْبْ"، في إشارة إلى ضخامة عدد الصفحات، الذي يؤهل في نظر كثير من الكتاب والناشرين، إلى رواج المبيعات، والوجود على قوائم الجوائز.
الهروب من "العبودية للأشياء" هو أحد التفسيرات التي تطرحها إسراء في كتابها القصير، الأقرب إلى تحقيق صحافي طويل عن حياة وأدب حسين عبد العليم، كأن كتابها انتمى بدوره إلى روح عالم "النوفيلا". ولكن عبر زيارة الأماكن التي عاش وعمل فيها صاحب "سعدية وعبد الحكم وآخرون"
يأتي كتاب الشاعرة والصحافية إسراء النمر"، بعنوان "ألعاب حسين عبد العليم" (دار صفصافة) ليلقي ضوءاً على الحياة الهادئة، وغير العادية في الآن نفسه، لصاحب "فصول من سيرة التراب والنمل"، ومحاولاً عبر الكلمات الظاهرة وفيما بين السطور، تفسير الطبيعة المتوارية لمسار حياة وأدب عبد العليم، إلى الحد الذي جعل كثيراً من القراء يتسائلون: من هو؟ حين صدرت أعماله الكاملة مؤخراً عن الهيئة العامة للكتاب.
"زوجته قالت إنه كان بلا طموح، أما ابنته مريم (القاصة مريم عبد العليم) فترى أنه كان بسيطاً لا أكثر"، تنقل إسراء عن أفراد أسرته، حديثهم عنه الذي لم يقف عند الأدب، بل تجاوزه إلى الشقة البسيطة جداً التي عاش فيها أحد عشر عاماً في منطقة بشتيل الشعبية الفقيرة بالجيزة، حتى أنها افتقرت إلى الصرف الصحي، وحين انتقل منها أخيراً، ودّعها بالدموع.
"أثار حسين عبد العليم اندهاشي، لأن موهبته كانت قادرة على كسح كثيرين في المحاماة والأدب وجعله في الصفوف الأولى، ومن ثم تجلب له المال والشهرة، مما يعني أنه ظل – طوال عمره – يكبح رغباته وأحلامه، حتى لا يصير عبداً لشيء"
لم يكن هذا دائماً بدافع الفقر أو قلة الحيلة، فقد كان حسين محامياً موهوباً "بالنقض والدستورية والإدارية العليا"، تكتب إسراء: "أثار حسين عبد العليم اندهاشي، لأن موهبته كانت قادرة على كسح كثيرين في المحاماة والأدب وجعله في الصفوف الأولى، ومن ثم تجلب له المال والشهرة، مما يعني أنه ظل – طوال عمره – يكبح رغباته وأحلامه، حتى لا يصير عبداً لشيء".
الهروب من "العبودية للأشياء" هو أحد التفسيرات التي تطرحها إسراء في كتابها القصير، الأقرب إلى تحقيق صحافي طويل، كأنه انتمى بدوره إلى روح عالم "النوفيلا"، لكن عبر زيارة الأماكن التي عاش وعمل فيها صاحب "سعدية وعبد الحكم وآخرون"، والتقاء أسرته وأصدقائه وزملائه، تعكس الكثير من الأسباب والأسرار التي أوحت لها بأن تطلق لفظ "ألاعيب" على حياة عبد العليم، وتعنون فصول الكتاب الستة بأسماء كل لعبة على حدة، بدءاً من لعبته الأولى، التي وصف عبرها نفسه دائما بأنه "كاتب من الفيوم"، التي ولد في أحد أحيائها الراقية ومارس فيها لوقت طويل هوايات "برجوازية" على غرار صيد الحمام البري، على الرغم من أنه عاش معظم عمره – الأدبي والمهني – في العاصمة.
هل هي صعوبة الخروج من أسر الأب؟ لقد دفعه الأب إلى الالتحاق بدراسة كلية الحقوق، ومن ثم العمل بالمحاماة، على الرغم من هوس الابن بالأدب والسينما والفن التشكيلي، فينفذ حسين رغبة الأب "ممسكا بالعصا من المنتصف"، وتلاحظ إسراء في كتابها أن هذا هو نفس مصير محمود يسري بطل روايته "الروائح المراوغة" الذي "كان أيضاً محامياً وعاشقاً للسينما ومولعاً بعوالم نجيب محفوظ".وإذ تنتهي سيرة محمود يسري بنهاية الرواية، يمتد مشوار حسين عبد العليم – بالمحاماة والأدب معاً -إلى نهاية حياته، فتتزاحم كتب الأدب والقانون في مكتب المحاماة ومكتبة البيت. غير أن الالتحاق بالمحاماة لم يكن مجرد مهمة ثقيلة، فقد فتحت المحاكم للابن عالماً ثرياً من أسرار الناس وقضاياهم "عالم البكاء والزغاريد، المرهوب من قطاع من الناس، ومحل إدمان من البعض الآخر"، واستمد عبد العليم الكثير من شخصيات وأحداث رواياته من عوالم موكليه، حتى لو نقل بعضها في الزمن، مثل قصة سعدية وعبد الحكم، التي نقلها من أيامنا المعاصرة إلى القرن التاسع عشر في أحداث الرواية.
ينقل الكتاب عن حوار أجراه عبد العليم مع مجلة الثقافة الجديدة في التسعينيات أن والده أيضاً "كان كاتباً للقصة القصيرة، ونشر بعض أعماله في مجلة الرسالة". نحن هنا إذا أمام جيلين كلاهما ابتعد عن النصوص السردية كبيرة الحجم
ينقل الكتاب عن حوار أجراه عبد العليم مع مجلة الثقافة الجديدة في التسعينيات أن والده أيضاً "كان كاتباً للقصة القصيرة، ونشر بعض أعماله في مجلة الرسالة". نحن هنا إذا أمام جيلين كلاهما ابتعد عن النصوص السردية كبيرة الحجم، ففي زمن مجلة الرسالة التي نشرت أعدادها بين عامي (1933- 1955)، كان فن الرواية يشير إلى الأعمال التي تمتد إلى مئات الصفحات، ويصف العمل الذي لا يجاوز المئتي صفحة بأنه "قصة"، وحين عاد تضخم الحجم مرة أخرى في سياق "انتعاشة السوق والجوائز" في العقد الأول من الألفية الحالية، اختار الابن ألا يكون جزءا منه، لقد بدأ – كأبيه – بنشر القصة القصيرة عبر ثلاثة مجموعات قبل أن يصدر "النوفيلا" الأولى "رائحة النعناع" عن دار ميريت سنة 2000، ثم والى إصدار روايته الثمانية التالية عنها، أي عن الدار التي كان يجلس فيها فيثير أحياناً الارتباك، لأنه يجالس أبناء جيل التسعينيات ويُحسب عليهم على الرغم من انتماءه -العمري- إلى جيل السبعينيات.
في وصف ذلك الارتباك ينقل الكتاب عن مقال كتبه الناقد الراحل هاني درويش في موقع "نوافذ" اللبناني عام 2007: "بمجرد مقابلتك لحسين عبد العليم في جلسات محمد هاشم - ناشر ميريت - المتصلة ليل نهار، يفاجئك ويصدم توقعاتك، فهو لا ينتمي إلى هذا الجيل سناً أو مظهراً أو إيقاعاً، إنه صامت إلا فيما ندر، تبدو عليه علامات شيب فاجأته، عندما يتحدث تجد تلك الرقة الموسوسة لمن حضر على عجل واختار المكان الخطأ، فمتوسط عمره يدور في فلك الأربعينيات الذي يضعه في مجايلة أخرى زمناً وإبداعاً".
"منذ أن مات أبي وأنا خائف، خائف من الناس ومن الزمن ومن المسؤولية" يكتب حسين في إحدى رسائله لزوجته أثناء غربة عمل قصيرة في بلد عربي. ويبدو أن "خوفه من المسؤولية" ذلك لم ينسحب إلى أن يكون خوفاً على نفسه، فقد تقبّل كل شيء كما تقبل دراسة الحقوق والبقاء في شقة بشتيل، وبالبساطة نفسها تقبل تجربة مرضه الأخير بالفشل الكلوي، حتى أنه رأى أن الشاعر أسامة الدناصوري، الذي توفي بالمرض نفسه، قد بالغ في وصف الفشل الكلوي والغسيل في كتابه "كلبي الهرم كلبي الحبيب"، فهو مرض "كأي مرض له مساوئه ومتاعبه ومحاسنه أيضاً، يكفي أن الغسيل يمنحك كل يومين أربع ساعات تستلقي فيها وتتوحد مع نفسك وتجتر ماضيك وتتصور مستقبلك".
هل كان هذا هو شعوره الحقيقي كما تنقله ابنته مريم، أم أنه كان "يهوّن" عليها الأمر كي لا تتألم له؟ إننا لا نعرف، لكن مثل تلك الروح، ربما لا يعود معها من المناسب أن تطرح أسئلة عن الاهتمام بالتقديم في الجوائز أو كتابة الروايات الضخمة، إنها روح تنتمي إلى عالم آخر، و"تلاعبه" بطريقتها الخاصة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.