شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"بنات آوى والحروف المفقودة"... يد "ابن المقفع" تعود للكتابة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 11 أغسطس 202310:00 ص

"ولد الكلام في بلاد الرافدين. ليس الكلام الذي يلوكه البشر فيما بينهم، وإنما الكلام الأهم، الكلام بين البشر وغير البشر، والذي نسي البشر أنه أصل كل كلام. هذا الكلام سيُعرف بعد ذلك باسم المجاز، وسيكون له تبعات كبيرة".

وربما لأن هذا الكلام "الأهم" قد "ولد في بلاد الرافدين"، قرر هيثم الورداني، القاص المصري البارز من جيل التسعينيات، أن ينتمي الراوي الرئيسي في أحدث كتبه "بنات آوى والحروف المفقودة"، إلى بلاد الرافدين، تحديداً إلى البصرة، المدينة التي ولد وعاش وقُتل فيها – أشد قتلة – عبد الله بن المقفع، أبرز من ارتبط اسمه في العربية بـ"كلام غير البشر، بكتاب "كليلة ودمنة" الذي "ترجمه" ابن المقفع عن الفارسية.

والسبب الذي يدعو إلى وضع كلمة "ترجمهُ" بين قوسي الاقتباس، أن ترجمة ابن المقفع تلك أضافت إلى الكتاب ما لم يرد في النص الفارسي، المنقول بدوره عن نصوص هندية، ونسخ سريانية. كل هذه النصوص "الأصلية"، لم يرد فيها – مثلاً – الباب الثاني "باب الفحص عن أمر دمنة""دمنة" الجريء المغامر، المنتمي مع شقيقه المتحفظ "كليلة" إلى فصيلة حيوانات "أبناء آوى"، واللذان اختلفا حول مسألة التقرب من الملك الأسد.

يموت كليلة كمداً على سجن شقيقه دمنة بتهمة الإيقاع بين الأسد الملك والثور، ثم يموت دمنة معاقباً بأمر الملك فيُقتل أشد قتلة، تماماً كما حصل لابن المقفع نفسه بعد ذلك في ذلك الزمن الخطر أواخر عصر الدولة الأموية منتصف القرن الثاني الهجري

يموت الأخوان في "نسخة" المقفع، يموت كليلة كمداً على سجن شقيقه دمنة بتهمة الإيقاع بين الأسد الملك والثور، ثم يموت دمنة معاقباً بأمر الملك فيُقتل أشد قتلة، تماماً كما حصل لابن المقفع نفسه بعد ذلك في ذلك الزمن الخطر أواخر عصر الدولة الأموية منتصف القرن الثاني الهجري.

أكان ابن المقفع – "روزبة بين داذويه" قبل أن يشهر إسلامه- يحدس بإمكانية مصيره؟ أن يرى إعدامه المقبل والوحشي بعد عمر قصير بتهمة الزندقة الرائجة في ذلك الزمان؟ أم كان يعبّر عن خطورة عصره الذي تنتهي فيه خلافة وتبدأ أخرى "العباسية"، فأنطق الحيوانات بما يزيد عن ما نطقت به في "النسخ القديمة"؟

وبسبب ذلك النطق وتلك الخطورة، يضيف الورداني إلى العنوان الرئيسي لكتابه الصادر عن دار الكرمة، عنواناً فرعياً هو "عن الحيوانات الناطقة في لحظات الخطر".

إذن، لولا الباب الثاني الذي "كتبته" الترجمة العربية، لظل دمنة "وزيراً سعيداً في بلاط الأسد"، لكن تلك الكتابة/ الإضافة "هي ما دفعت جدل كليلة ودمنة إلى ذروته"، ربما لهذا، يفترض الورداني نفسه أن كتاب المقفع يشير إلى أن وظيفة الكاتب ليست تقديم ما يُطلب أو يُنتطر منه، وإنما مهمته هي العمل على ما لن يطلبه منه أحد.

يضيف هيثم الورداني بدوره حكاياته الخاصة على لساني كليلة ودمنة، فبعد أكثر من ألف عام من مصرع ابن المقفع، ومصرع الأخوين في حكايات كتابه، يعثر الراوي في كتاب الورداني، وهو لاجيء عراقي في برلين، على ذراع مبتورة، تهذي بالحكايات بينما يجرفها تيار النهر

صفحة مرسومة من نسخة - منسوخة باليد- من كتاب كليلة ودمنة يعود تاريخها إلى العام 1220 ميلادية

ولهذا، فإنه – أي الورداني- يضيف بدوره حكاياته الخاصة على لساني كليلة ودمنة، فبعد أكثر من ألف عام من مصرع ابن المقفع، ومصرع الأخوين في حكايات كتابه، يعثر الراوي في كتاب الورداني، وهو لاجيء عراقي في برلين، على ذراع مبتورة، تهذي بالحكايات بينما يجرفها تيار النهر. وسرعان ما يكتشف - وهو يضعها فوق ذراعه المصابة بسبب القفز في النهر- أنها ذراع ابن المقفع نفسه! فيخوض معها، عبر أيام النقاهة والعمل، وعبر صفحات الكتاب الثري والدسم؛ رحلة في عوالم الخرافة والحيوان والاقتباسات والمجاز، وعلاقة السلطة بالأدب، ومحاولات النطق على ألسنة المستبعدين من اللغة عبر التاريخ.

يقدم الكتاب رحلة إلى الماضي عبر "العاصفة التي تهب من النسيان" بتعبير الفيلسوف فالتر بنيامين. وفي رحلته تلك، يكاد الورداني يتوسط المسافة بين طريقتي كليلة ودمنة في وراثة الماضي والاقتباس منه، فبينما يرثه كليلة – المحافظ الخائف – بترسيخه، يرثه دمنة – الطموح المتهور- بإحداث قطيعة معه. وفي الحالين معاً، بمجرد أن نطق الشقيقان من أبناء آوى، وغيرهما من الحيوانات عبر صفحات الكتاب، فإن في ذلك النطق "نزع مبكر للقداسة عن اللغة، وكسر لاحتكار الإنسان لها من خلال جعلها تجري على ألسنة الوحوش والسباع والبهائم".

وبترجمة الحكايات إلى العربية، بأصلها وبإضافات ابن المقفع، تتم عملية تهجين اللغة بكلام المستبعدين منها، أي ليس فقط الحيوانات مثل كليلة ودمنة، بل كذلك تم النقل على يد الرجل الأعجمي، والمجوسي الأصل: ابن المقفع نفسه. إنها اليد التي يستحضرها كتاب الورداني ويجعلها بديلاً ليد بطل كتابه، الذي يمكن القول أنه، بوصفه عراقياً في غربة ألمانية، وعاملاً في موقع بناء يبتعد آلاف الأميال عن وطنه، هو أيضاً، يعيش "أعجميته" الخاصة. إنه المنتمي الذي يظل غريباً في الديار الأوروبية حتى بعد عشرين عاما من الإقامة فيها، تماماً كما ظل ابن المقفع غريباً في البصرة التي ولد وعاش فيها، وأجاد لغتها، ثم قتل على ثراها قبل أن يتم الأربعين، لأن تهمة الزندقة كانت تحب أن تعثر على ضحاياها في "المشكوك في أمرهم"، من المجوس والفرس في العصر الأموي/العروبي.

ربما لهذا، يضيف اللاجىء العراقي، هو أعجمي العصر الحديث حكاياته مكملاً مهمة ابن المقفع، عبر استعادة – واستعارة- ذراعه، فلا تقتصر حكايات كليلة ودمنة على ما جرى مع الملك الأسد والثور شتربة، والسنور والجرذ. ولا تتوقف عند مصرعهما واستعادة روح الثور المقتول غدرا في الباب الذي "كتبه" ابن المقفع، بل نلتقي بقصص "يدسها" كتاب الورداني – أو ذراع الراوي المستعارة- بين الحكايات، تماما كما دس ابن المقفع على ألسنة الحيوانات نقده الخفي لسلطة الوالي في عهد أبي جعفر المنصور. فبدلاً من الحكاية التي يحكيها القرد للغيلم "ذكر السلحفاة" عن الحمار والأسد وابن آوى في كتاب كليلة ودمنة، نرى أن الحكاية استبدلت في كتاب الورداني، وصار الضحية هو الحمار نفسه، أما ابن آوى فيتحول إلى رجل حطاب، ويتحول الأسد إلى تاجر، وتبقى غواية المعرفة على لسان الجرذ.

إن القرد – كما في الأصل – هو من يحكي، والغيلم يستمع، تماماً كما كانا قبل إضافات ابن المقفع، ثم بعد إضافات الورداني في هذه القصة ونصوص أخرى عبر الكتاب، إنه تاريخ يتراكم ويضاف إليه، وقصص ما هي إلا اقتباسات متداخلة تميز الجنس الأدبي الذي يسمى الخرافة، فإذا التقطنا الخيط و"ترجمناه" بلغة اليوم، تصير الكتابة هي "الاقتباس مما لم يكتب بعد".

إنها اقتباسات ضرورية كتعليقات أدبية على السلطة والواقع في أزمنة الخطر، اقتباسات يلجأ إليها المستبعدون "الأعاجم" و"العجماوات"، وكل من أرادت السلطة والتاريخ استبعاده فلجأ إلى النطق داخل القصص والخرافة. إنها اقتباسات ماكرة يلجأ إليها "الحيوان" بمفهومه الأوسع، فـ :الحيوان ليس اسماً لكل حي فحسب، وإنما صفة لمن يحيا حياة لا يعيش فيها ولا يموت.

الحديث عبر الاقتباسات هو وسيلة كل من تجمّد في ركن لا انعتاق فيه، فـ "هناك مثلاً أحصنة لا تزال تعمل في المحركات بعد موتها، ونمور لا تزال تعمل على أغلفة السلع بعد سلخها. هناك كباش لا تزال تفتدي المؤمنين، ودجاجات لا تزال تبيض ذهباً". إنها جميعاً "أيدي عاملة"، موجودة وغير حاضرة، قادرة لكنها خاضعة، إلا في حالات نادرة، تنطق فيها "الحيوانات".

رغم أن الثمن القاسي، والقتل الوحشي على طريقة إعدام ابن المقفع، تظل رابضة لتنقذ العقاب، تمحو المقتول من الواقع لكنها لا تمحوه من الوجدان، ولا تستطيع أن تمنع أهم ما يميز المتحدثين داخل الخرافات: سعادتهم وآمالهم في حياة مختلفة ومغامرة، سعادة "تنبع من مكر التاريخ، عندما يعود بمن استبعد ونُسي، فيكشف فجأة عن الحيوانات التي يتأسس الوضع الراهن على دفنها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

"نؤمن في رصيف22، بأن متابعة قضايا العرب خارج العالم العربي، في المهجر/ الشتات/ المنفى، هي أيضاً نظرة إلى أنفسنا، وإلى الأسباب التي اضطر -أو اختار- من أجلها الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن أمانٍ في مكانٍ آخر، كما أنها محاولة للفهم وللبناء وللبحث عن طرائق نبني بها مجتمعات شاملةً وعادلةً. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image