شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ڤوي ڤوي ​ڤوي"… حكاية مجتمع يَعمَى عن رؤية أبنائه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

جدل ثار ثم انتهى بعد ردود وجدها الصحافيون المصريون "مستفزة" من قبل عمر هلال، مخرج فيلم "​ڤوي ​ڤوي ​ڤوي" وبطل الفيلم محمد فراج على أحد الصحافيين خلال مناقشة تبعت أحد العروض الافتتاحية للفيلم. ​

كادت المشادة والاعتذارات التي تلتها تطغى على الحديث عن الفيلم الذي اختير فور افتتاحه لتمثيل مصر ضمن مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي رغم أنه لم يعرض بالولايات المتحدة بعد "الشرط الرئيسي للمشاركة في المسابقة". فما الذي أخفته ضجة الإعلام والسوشال ميديا حول "​ڤوي ​ڤوي ​ڤوي"؟

يحكي الأديب الأمريكي أنتوني دوير في روايته الرائعة التي فازت بالبوليترز "كل الضوء الذي لا نستطيع رؤيته"، قصة تدور بين حي فرنسي شهد عواصف وتدميراً شديداً أثناء الحرب العالمية الثانية، يقابله حي ألماني على الجانب الآخر شهد التدمير ذاته، كلتا المدينتين نراهما من عينيّ طفلين وضعا خطواتهما الأولى على طرفي النقيض أثناء الحرب، قبل أن ينجذب أحدهما نحو الآخر بالبراءة والحيلة والفن؛ يجد البطل فيرنر وشقيقته جوتا في إذاعة الراديو ملاذً ملهماً أكثر أماناً من واقعهما البائس المحاصر بوحدة يعيشها يتيمان في مدينة صناعية ألمانية، يكتشفان محطة إذاعة فرنسية تعزف الموسيقى الكلاسيكية "المريحة" بعكس الدعاية التي سادت الإذاعة الألمانية وقتها، بينما في فرنسا، ولدت ماري لور ابنة مسؤول في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، فقدت والدتها عندما وضعتها، ثم فقدت بصرها، يرسلها والدها إلى عمها، وبمرور الوقت تكتشف راديو مخبّأ في الغرفة العلوية بمنزل عم أبيها يبث كل ليلة، فيحدث أن يكتشفا العالم من فنٍ واحد، يقربهما رغم العداوة الظاهرة بين الدولتين، في القصة تصبح الفتاة غير المبصرة ذكية وواعية وتمتلك بصيرة يمكن أن يرى القارئ من خلالها "عمى المجتمع الأكبر".

تطرح الرواية تساؤلاً أعمق عن البصر والبصيرة؛ من يمكننا الحكم عليه بالعمى؟ ولماذا قد يُنتج المجتمع الفاسد أشخاص "عميان" بالرغم من امتلاكهم الظاهري للبصر؟

ما الذي أخفته ضجة الإعلام والسوشال ميديا حول "​ڤوي ​ڤوي ​ڤوي"؟

الرواية من عنوانها تحاول تخّيل مدى الأشياء التي يمكن فقدان رؤيتها بالبصر فقط، تكشف خداع المجتمع ضيق الأفق المعمي في صراعات لا تنتهي ولا يمكن منطقتها أساساً وصراعات أشخاصه، وربما يحمل ذلك وجاهة حاولت جملة من الأعمال الفنية أن تلفت أنظارنا تجاهها تتقاطع مع ما نريد حكيه عن الهجرة والهروب الذي يحدث في الظل كما يحدث لأبطال رياضيين نسمع قصصهم كل يوم آخرهم الشاب المصارع الذي هرب قبل أيام.

لذلك كان هناك أكثر من خيط يمكن تتبعه من تلك الرواية، لتفكيك بعض الأشياء التي نريد أن نحكي عنها أيضاً أثناء الكلام عن الفيلم المصري الأحدث " ڤوي ڤوي ڤوي" (كلمة إسبانية تعني "أنا قادم" تستخدم في كرة قدم المكفوفين لتنبيه كل لاعب لموقع اللاعب الآخر حتى لا يصطدمان، ويتمكن اللاعب الذي يملك الكرة من اللعب كأنه يرى أمامه من خلال هذا الصوت "ڤوي")، ذلك الفيلم الذي تأخّر عرضه أكثر من مرة، وأوجد نفسه بعيداً عن التنافس المباشر مع أفلام الموسم الذي جاء مزدحماً أكثر من المعتاد.

القصة بدأت مع قراءة خبر صغير عن فريق كرة قدم ادعى أفرده أنهم فاقدين للبصر من أجل السفر للهروب خارج مصر، كان مجرد خبر صغير لا يحمل أية تفاصيل لكنه كان كفيلاً بالهوس للبحث عنه أكثر

مخرج إعلانات قلبه معلق بالسينما

يحكي الفيلم قصة مجموعة من لاعبي كرة القدم المكفوفين لديهم الحظ في السفر للخارج للعب في كأس العالم، سريعاً ما يكتشف المشاهد أنهم مجموعة من "المحتالين" الذي يسعون من أجل الهروب خارج البلاد للعمل في أوروبا، عن طريق ادعاء العمى، هذا العمى أو التعامي، وهذا "الاحتيال" هو ما نحاول تحليله: ما الذي يعنيه أن تكون أعمى أو محتال، يبدو تساؤل وجودي ساذج لكنه يمكن أن يفسر جوهر الفيلم أو يحاول الاشتباك معه من منطقة إجتماعية.

تتمحور الأحداث المستمدة من قصة حقيقية اكتشفها الصحافي الرياضي محمود شوقي، حول حكاية حسن (محمد فراج) الذي ادعى أنه فاقد البصر من أجل الهرب من مصر للعمل في الخارج ضمن فريق كرة لفاقدي البصر.

يمثّل حسن تحديداً كل ما نريد أن نحكي عنه في القصة ومن خلاله، حدوتة الشاطر حسن الحداثي الذي يمثل غالبية جيله ويكشف الظرف التاريخي الذي خرج فيه، دون أدلجة للفيلم أو تسييس.

الفيلم من تأليف وإخراج عمر هلال، الذي يقدّم باكورة أعماله كمؤلف ومخرج، يقول هلال لرصيف22 إن القصة بدأت مع قراءة خبر صغير عن فريق كرة قدم ادعى أفرده أنهم فاقدين للبصر من أجل السفر للهروب خارج مصر، كان مجرد خبر صغير لا يحمل أية تفاصيل لكنه كان كفيلاً بالهوس للبحث عنه أكثر، "سريعاً ما قررت أن أكتب الفيلم بناءً على تلك القصة، تخيلت حارس أمن يعيش في فقر، يتنكر في هيئة رجل أعمى حتى يتمكن من الانضمام إلى فريق كرة قدم للمكفوفين يلعبون في كأس العالم في أوروبا، ومعه أصدقاؤه".

قبل أي شيء لم يكن هذا الفيلم هو الأول في رحلة عمر هلال مع السينما، كان قد كتب في عام 2005 فيلمه الأول فعلاً تحت عنوان "مترو"، كانت قصة تحمل مجازات شبيهة، لكنها لم تلق نصيباً للتنفيذ وقتها، لعلّها تجده بعد نجاح فيلمه الحالي، لكن الملفت أن كل تلك الأفكار المركّبة التي تطرح نقاشاً واسعاً عن المجتمع وسياساته بشكل مباشر وغير مباشر، يصنعها رجل يعمل في الإعلانات، مهووس بالسينما منذ سنوات بعيدة، يستعد ويجرّب وينتظر فرصته.

درس هلال الصحافة والإعلام في الجامعة الأمريكية ثم اعتمد على أكثر من ورشة لدراسة الإعلانات ودخل في سوق العمل. بدأ حياته كمصور في الأهرام الفرنسية والإنجليزية ثم كمخرج في التلفزيون، ثم عالم الإعلانات ككاتب، قبل أن ينتهي به الأمر مخرجاً لعدد كبير من الإعلانات حتى الآن.

أثناء الحوار كان لديّ تعليق صغير على أحد الإعلانات التي أخرجها، ربما يذكر القاريء إعلان فودافون 2015 "راح فين زمن الشقاوة دا يا حسين" الذي أخرجه، أخبرته أن هناك شيئاً شديد الذكاء في أن يقول مصطفى فهمي تحديداً إلى حسين أخيه "راح فين زمن الشقاوة" الجملة التي تغيرت من "راح فين طقم الشقاوة"، وربما لم يجد أحد تعبيراً عن شقاوة الشباب أكثر من حسين فهمي العلامة المسجلة كدونجوان لم يستغله أحد في هذه المنطقة إعلانياً من قبل، المهم أننا أمام عقلية تجارية تماماً تقرر أن تتنازل عن تجاريتها للعمل على فيلم يحلل قصة تفكك المجتمع وتحاول تفسير ما يحدث.

يقول هلال: "عرضت الفكرة أولاً على السيناريست مريم نعوم لتكتبها، وبعد عدة جلسات أخبرتني أنني الأفضل لكتابة القصة وإخراجها".

لماذا يمثل ڤوي استثناء العام لا الموسم فقط؟

يبدأ الفيلم بالتصريح على لسان بيومي فؤاد الذي نسمع القصة من خلاله، أن حسن "رجل فذ وقذر"، حُكم صادم وواضح وصدامي نوعاً ما نحاول هنا أن نشتبك معه ونقر باستثنائية الفيلم الذي أتاح النقاش المجتمعي السياسي عموماً.

نشاهد حسن (محمد فراج) موظف الأمن في إحدى الشركات، يتقاضى راتباً لا يكفيه لأي شيء، وصديقيه قدرة (طه الدسوقي) الذي يعمل في توصيل الطلبات في أحد المطاعم، وأمجد الحجار الذي يمتلك "محل بلاي ستيشن وكمبيوتر" كواجهة لبيع الأفلام الإباحية، يلتقيان مع بيومي فؤاد الذي جدّد دمه هذا الموسم بدوره في فيلم "وش في وش"، ثم دوره هنا كمدرب متقاعد لا يجد عملاً نتيجة عدم امتلاكه واسطة أو مكاناً مناسباً بالرغم من بحثه المستمر، كل هؤلاء يلجأون في لحظة مصيرية إلى "الدكتور" الذي يمتلك داراً لرعاية المكفوفين (محمد عبد العظيم) يتربح من خلالها عن طريق ضم من يريد السفر بمقابل مادي.

إذن نحن أمام ثلاثة أصدقاء ورابعهم مدربهم: قبل أن يفكر حسن في الاحتيال والتعامي، انتظر لسنوات أي عمل في الخليج كملاذ آمن ولم يجد، كما لم يجد أي وظيفة مهما كانت في هذا البلد يمكن أن يتقاضى من خلالها ما يسد رمقه، فكّر في الهجرة غير النظامية ووجد رحلتها أقرب للموت نسبياً، ولا يمكنه الزواج من جارته (بسنت شوقي) لأنه لا يملك ما يمكن أن يطعهما به، كما لا تقبله حبيبته الأخرى (نيللي كريم) التي تمثل حلمه الكبير بسبب خداعه لها على أنه أعمى.

يقف الفيلم في منطقة ذكية جداً لأنه يُنتج فكرة نخبوية تصلح لأفلام مهرجانات في قلب فيلم تجاري اعتلى صدارة الإيرادات من أول أيام عرضه. يهرب الفيلم من وطأة الثقل والخفة المبالغ فيها، في منطقة وسط ترضي النقاد والجمهور

إلى جانبه صديقه أمجد الذي لا يجد عمل أيضاً لكنه يريد السفر والحرية الموهومة في الخارج، ومعه قدرة الشاب الذي يكتشف أثناء توصيل الطعام إلى شقة فاخرة في الدقي أن حبيبته القديمة فتاة ليل تقضي سهرتها مع الرجل لأنه لم يستطع الزواج منها بسبب ضيق الحال أيضاً بالرغم من عمله المتواصل الذي لا يسد جوعه، والمدرب الذي يبحث يومياً عن فرصة عمل دون نتيجة.

هل تبرر هذه الأشياء والمجتمع الذي لا يترك مساحات كافية نتيجة الفساد الزائد عن الحد ما يفعله هؤلاء للهروب؟ يبدو هذا التساؤل الأول على المكتوب، لكنه لا يبدو تبرير، لأنهم لن يجدوا الأيدي التي تحنو عليهم من غدر الزمن في الخارج، بل تبدو مصائرهم التي اختارها الفيلم مرعبة، لا يبدو سفرهم أو نجاحهم في السفر حتى مكافأة، لذلك لا يبدو حديثنا مشغولاً بالتبرير أو الإدانة قدر المسئولية الحقيقية التي يتعامى عنها المجتمع كله، يحاول إنتاج حلول من داخل قبل إطلاق أحكام على مجموعة "غلابة" فكروا في الهروب ربما يعدل القدر موازينه في بلاد أكثر رحمة ويمكنهم الحصول على حياة عادية تُعاش.

يقف الفيلم في منطقة ذكية جداً لأنه يُنتج فكرة نخبوية تصلح لأفلام مهرجانات في قلب فيلم تجاري اعتلى صدارة الإيرادات من أول أيام عرضه. يهرب الفيلم من وطأة الثقل والخفة المبالغ فيها، في منطقة وسط ترضي النقاد والجمهور، وربما في ذلك ما يبدو استثناء ذكياً. فيلم جيد يتعلق به الجمهور ومتماس مع المجتمع فعلاً دون ادعاءات.

بالرغم من أن الموسيقى التصويرية كانت هي الحلقة الأضعف في عناصر الفيلم، لكنه استطاع أن يتحكّم فيها إخراجياً لتخفّف حدة الخطاب الذي تحمله القصة، ولم يكن هناك أقوى من استخدام أغنية منفردة لويجز، ابن الجيل الذي يقدم الفيلم أبطاله الهاربين في الخارج المحاصرين في الداخل

هروب أم انتحار؟

صودف أننا قبل أيام نستقبل أخباراً عن لاعب آخر من لاعبي المصارعة المصريين وقد نجح في الخروج "الهروب" من مصر، بعد أشهر وربما أسابيع قليلة من نجاح لاعب آخر، وبالتوازي مع لاعبين يهربون سراً، أو يتم تجنيسهم لدول أخرى، ما السبب يا ترى لو ظللنا نتعامى عن الأسباب الحقيقة قبل أن نتهم هؤلاء بالتقصير أو "الاحتيال". لماذا يلجأ الشباب أساساً للهجرة غير النظامية؟ وإلى أي مدى تبدو مأساة على أصحابها؟

العمى عموماً ضد التفاصيل، الأعمى الحقيقي هو من لا يهتّم كثيراً بالأشياء الصغيرة، أو يحاول تحليلها، لذلك يبدو سطحياً تماماً الوقوف أمام احتيال هؤلاء دون الدخول أكثر حول التعامي المجتمعي الذي يحوطهم.

بالرغم من أن الموسيقى التصويرية كانت هي الحلقة الأضعف في عناصر الفيلم، إذ استخدمها بكثرة نسبية وأحياناً دون داع قوي، لكنه استطاع أن يتحكّم فيها إخراجياً ربما لتخفّف حدة الخطاب الذي تحمله القصة، ولم يكن هناك أقوى من استخدام أغنية منفردة لويجز، ابن الجيل الذي يقدم الفيلم أبطاله الهاربين في الخارج المحاصرين في الداخل. أشاهد الفيلم بينما أتذكره يكرر: "قلنا المدينة مش هتسيعنا قلنا المدينة مش هتسيعنا قلنا المدينة مش هتسيعنا". الشاب نفسه الذي يعرف أن جيله منحوس "جيل عارف قيمته برا" ويجز الشاب الذي قدم قبل وقت أحزن قصائده وقال "شباب ع المراكب والحارس بيراقب روما مش بعيد، الشباب غرقانة" كان يدرك جيله الذي يهرب ويرمي نفسه في البحر، فعلاً يا سيد ويجز الشباب غرقانة دون أن يراها أحد، يتعامى عنها المجتمع بينما يتعامون عنه، كل قصة شبيهة هي دعوة للجدال ربما نفهم أن الخسارة للجميع.

حدوتة الشاطر حسن الجديدة تحكي عن شبح رجل متحسراً على زمن لم يجد فيه أي فرصة، في معادلة يخسر فيها المجتمع ويقع فيها الشاطر، حدوتة تماماً مثل الرواية التي ذكرناها يمكن أن نرى من خلالها "عمى المجتمع الأكبر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard