في صناعة السينما (كأي صناعة) لا تريد المنظومة أن يظهر قبحها أو أخطاؤها الكبيرة التي تكلفت ملايين لصناعتها؛ على سبيل المثال عندما يخرج فيلم يستاء منه الجمهور يكتفي صنّاعه بتجاهله، أو التذمر من سوئه في الخفاء، أو تكريس جهود وأموال أكثر لدفعه للأمام بكافة الطرق خشية من الخسائر الفادحة، مع تجنب تكرار التجربة لاحقاً.
إلا أنه ثمة نماذج تاريخية قديمة وحديثة لم يكتف صنّاعها بالتعبير عن سوئها في الخفاء، يظهر ذلك أحياناً بشكل يستدعي الشفقة على صناع الفيلم، كأن يُرفع فيلمهم من السينما بعد أيام قليلة من نزوله، أو يزيحه أصحاب دور العرض من دون الرجوع إلى المنتج والموزع لصالح أفلام أخرى. مثل تلك القصص تدخل في جانب النميمة النقدية التي لا يرغب في سماع حكايتها غير أهل الصناعة، لكن أحياناً يصبح من الضروري حكيها لإيضاح أشياء أخرى.
عندما قررت الذهاب لمشاهدة فيلم "البطة الصفرا"، أحد أفلام الموسم السينمائي المصري في الصيف الحالي، بدا ذلك قراراً بسيطاً غير مجهد، لكنه جعلني في قلب صراع لم أدخله من فترة طويلة، ولم أدخله بهذه القوة من قبل؛ رُفع الفيلم من عدد من دور العرض فجأة باجتهاد شخصي من أصحابها، بشكل ضمني بالفعل يعلمه المستقصي فقط:
وسط موسم صيف مزدحم جاء فيلم "البطة الصفرا" حاملاً كل المواصفات التي تكفل له أن يكون فيلم الموسم، لكن اجتمع عليه إهمال التسويق وسوء اختيار التوقيت فمر من دون أن يشعر به أحد
الفيلم موجود ظاهرياً، لكن صالة العرض تستغل القاعة في عرض أفلام أخرى، في الأيام القليلة التي كان لا يزال يُعرض فيها؛ لم أستطع دخوله نتيجة حجزه وحدي فقط، ترفض السينما أن تفتح الصالة لشخص واحد، لذلك لم يوافق شباب الدار إلّا عندما دفعت مقابل ثلاثة تذاكر وبعض التودد للمشاهدة، ما الذي أدّى إلى ذلك؟ أين ذهب الفيلم؟ ربما أفهم بعد ذلك، لكن بعد أن أجد صالة عرض أشاهد الفيلم فيها وحدي، أفهم أكثر عندما أدرك أين ذهبت الكوميديا أولاً.
لماذا يضحك المصريون؟
في الفيلم الوثائقي "لماذا يضحك المصريون"، يقول المخرج أحمد شلبي إن الضحك سمة ثابتة تميز المصريين على مدار السنين، هم ضيوف دائمون في أي حديث عن الضحك، لأن الضحك هو مشروع المصريين القومي الوحيد، كان السؤال الأعمق الذي طرحه الفيلم ليس السبب عن ضحكهم الذي يتجاوز شقاءهم بينما كان "كيف يضحك المصريون؟" وما الذي يتحكم في تقديم نوع كوميدي على آخر في لحظة مرتبكة؟ كالتي نعيشها، وربما يظهر نسبياً في الحديث الخاص والعام من وحي "البطة الصفرا".
كثير من الأفلام، قليل من الكوميديا
بحكم ترددي على دور العرض السينمائي باختلافها بشكل دوري لقتل الملل أحياناً، وأحياناً لادعاء ممارسة عملي للمشاهدة والكتابة، أصبحت علاقتي جيدة نوعاً ما ببعض تلك الدور. أحياناً أسمع من إحداها مأسآة فيلمٌ ما يدّعي أصحابه أن حفلاته كاملة العدد بينما يُدفع للصالات في الخفاء من الأبطال للحفاظ على الصورة العامة، وأحياناً أخرى يرغب أحد أصحاب دور العرض في رفع فيلم وعرض آخر لمصالح يدّعي أنها بدافع "الذوق" فقط لا المال الجاهز تحت المقاعد، وهكذا، بينما تظل حالات قليلة مثل الرغبة الصادقة في رفع فيلم من الصالة بمجرد نزوله نتيجة شح الإقبال عليه من كل اتجاه، وهو ما حدث مع عدد من أفلام هذا الموسم الصيفي كان على رأسهم "البطة الصفرا".
بعد أن نذهب في جولة سريعة على عروض هذا الموسم نحتاج أن نقف أكثر عن رد الفعل المتطرف الغريب نوعاً ما تجاه الفيلم، هل ابتعاد الجمهور ناجم عن مشاهدته والاستياء منه بعد ذلك كما حدث مع غيره، أم كان هذا التجاهل له أسباب تتجاوز الفيلم نفسه؟
بدأ الإعلان عن موسم الصيف الذي جاء دسماً بشكل أكبر من المعتاد، بعد فترة فراغ طويلة أصابت حتى المواسم التقليدية مثل مواسم الأعياد. ليشهد الموسم عدداً كبيراً من الأفلام، منها فيلم "ع الزيرو" لمحمد رمضان في فئة أفلام الحركة، فيلم "وش في وش" الإجتماعي للثنائي محمد ممدوح وأمينة خليل، اللذين لم يقدما من خلاله تصوّراً جديداً في إطار الأعمال التي قدمها الثنائي كزوجين يحاولان التأقلم بعد مرور سنوات على حبهما القديم، إلى جانب هذه الأفلام عدد هائل من الأفلام "الكوميدية" أو التي ادعت ذلك.
كانت مفاجأة الموسم الأكبر في فيلم "العميل صفر" الذي بدا فيه أكرم حسني في أولى بطولاته المطلقة للسينما غير متشكك في موهبته، يستغل أقصى إمكاناته الكوميدية لإثبات ذاته في لحظة قاسية سقطت فيها أغلب الأعمال الكوميدية الحديثة في فخ الاستظراف وثقل الظل
فيلم "بيت الروبي" سريعاً ما خرج من أسر منافسات الموسم منذ لحظة طرحه، كسر عدداً من الأرقام القياسية التي حققها في شباك التذاكر، ورفع رصيد كريم عبد العزيز البطل إلى واحد من أكثر من حققوا إيرادات في السينما المصرية، تحتاج تجربة كريم عبد العزيز تحديداً إلى إعادة نظر في إيراداته المذهلة منذ بطولاته الأولى.
لسخرية القدر فتح الفيلم ملف تأثير مواقع التواصل في إطار اجتماعي بسيط خفيف الظل، كشف الفيلم إلى أي مدى أصبحت مواقع التواصل تتحكم في الذوق، بينما كانت تجربة "البطة الصفرا" تأكيداً على كل ذلك بشكلٍ عملي: إن لم يكن لك تواجد لافت على شبكات التواصل الاجتماعي، فلا وجود لك عموماً.
إلى جانب "بيت الروبي" خرج فيلم "مرعي البريمو" الذي خيّب رهان جمهوره. بات محمد هنيدي في أزمات ما بعد منتصف العمر، أفكار عجوزة وكوميديا قديمة مترهلة وحبكة مخجلة استدعت اعتذار البعض عن المشاركة في الفيلم أساساً مثلما فعل زميل هنيدي العزيز علاء مرسي.
كانت مفاجأة الموسم الأكبر في فيلم "العميل صفر" الذي بدا فيه أكرم حسني في أولى بطولاته المطلقة للسينما غير متشكك في موهبته، يستغل أقصى إمكاناته الكوميدية لإثبات ذاته في لحظة قاسية سقطت فيها أغلب الأعمال الكوميدية الحديثة في فخ الاستظراف وثقل الظل، استطاع الرجل أن يقدم فيلم خفيف كوميدي يعتمد على كوميديا الموقف التي يصعب تقديمها، ويحكي قصة بسيطة يمكن أن تصل للجميع.
فيلم "مستر إكس" كان تجربة متواضعة من أحمد فهمي، يمكن أن يبقى منها أغنية أحمد سعد التي نالت شهرة واسعة لم يحصل عليها الفيلم "اختياراتي مدمرة حياتي" بينما لم يسمع كثيرون عن فيلم "مندوب مبيعات" الذي لم تقبله بعض الصالات أساساً نتيجة هذا الزخم الإنتاجي.
وفيلم "مطرح مطروح" رفعته دور العرض السينمائية المصرية من السينمات من دون خجل بعد أيام قليلة من عرضه بسبب ضعف الإيرادات، إذ لم يحقق سوى ما يزيد قليلاً عن مليوني جنيه فقط خلال فترة عرضه، مما دفع دور العرض الى رفعه على الرغم من وجود نجوم شباب فيه، وإلى جانبهم الفيلم الذي نتناول الحديث عنه هنا والآن: "البطة الصفرا"، الذي امتلك كل مقومات العمل الجيد، ولكن لم يتحدث عنه الكثيرون.
"البطة الصفرا"… فيلم جيد في لحظة مزدحمة
يقول الاقتصاديون إن السينما مثل أحمر الشفاة تماماً، فالنساء يقبلن على شراء أحمر الشفاة بكميات كبيرة في لحظات الركود الاقتصادي لأنهن لن يعدن قادرات على شراء حقائب اليد والأحذية الباهظة السعر، فيصبح أحمر الشفاه تعويضاً جيداً عن أشياء أكبر. أما عندما يقررن إلقاء أحمر الشفاه السيىء/ الفيلم السيىء في القمامة، فإن ذلك يحتاج إلى تفسير أكثر، لذلك كان ثمة نظرة شديدة الأهمية تجمع بين الاقتصاد والسينما، تفهم الثانية أنها تعتمد كلياً على نجاحها الاقتصادي، أحياناً تخيّب ظن النقاد من أجل تحقيق الرضا الاقتصادي وأحياناً تضحّي بعمل عمل فني خالص لا يصلح للمشاهدة الجماهيرية.
البعض ينجح أحياناً قليلة جداً في تحقيق معادلة الجمع بين النجاح الجماهيري والنقدي، بينما يحدث في مرات قليلة جداً، سيئة على كافة مستوياتها، أن يفشل تماماً فيلمٌ ما بالنسبة للجمهور والنقاد، ويحتاج الجميع أن يسقطه من كل الحسابات كأنه لم يكن، هذا لا يتعلق بالفيلم فقط أو الجمهور وحده، بل باللحظة الحالية سياسياً وإجتماعياً التي لم تعد تحتمل أي شيء يحاول إزعاجها.
السقطة الأولى في الفيلم كان تتمثل في التريلر الإعلاني الذي ظهر للجمهور، يمثل التريلر الدفعة الأقوى لترغيب الجمهور في المشاهدة، بينما كان ذلك التريلر متهوراً، كاشفاً لأغلب خيوط الفيلم و"إيفيهاته" وغير متناسق عموماً
فيلم "البطة الصفرا" اكتفى بإيرادات ضعيفة، جمع في أول أسابيع عرضه مليون ومئتي ألف جنيه، ولم يتجاوز هذه الرقم رغم التوزيع الجيّد. عندما تشاهد دور العرض التي لا يزال عدد منها يعرض الفيلم ستجدها موزعة بين مناطق وطبقات مختلفة.
"البطة الصفرا" خرج من حسبان أصحاب أربع دور عرض مختلفة بعد أول أيام عرضه الذي مر دون أن يسأل عنه أحد، بينما أجمع عدد منهم على سماع السباب والغضب بعد الخروج من بعض الحضور في اليوم الأول بسبب "ثقل ظل" الفيلم. لكن؛ إذا كان عدد من الأفلام التي ادعت الكوميدية فشلت كذلك في تحقيق ذلك مثل "مرعي البريمو" مثلاً، لماذا لم يحدث هذا معها؟
يحكي الفيلم قصة عصابة "البطة الصفرا" التي يتورط معها أستاذ جامعي مختص في علم النفس، وتتغير حياته بسبب عمله معها.
الفيلم عادت من خلاله الفنانة غادة عادل، ومثّل بطولة سينمائية مطلقة أولى للفنان الشاب محمد عبد الرحمن، مع أبطال مثل صلاح عبد الله، المضحك القديم، وفرح الزاهد، إخراج عصام نصار وكتابة محمود عزت المؤلف الذي كان يقود ورشة كتابة المسلسل الكوميدي الأفضل في رمضان: "الصفارة"، لذلك يصعب الجواب عن السؤال: ما الذي أدّى للوصول إلى الدرجة التي وصلت إليها الفيلم؟ أين الخلل؟ أين ذهبت الكوميديا؟
السقطة الأولى في الفيلم كان تتمثل في التريلر الإعلاني الذي ظهر للجمهور، يمثل التريلر الدفعة الأقوى لترغيب الجمهور في المشاهدة، بينما كان ذلك التريلر متهوراً، كاشفاً لأغلب خيوط الفيلم و"إيفيهاته" وغير متناسق عموماً.
"البطة الصفرا" بإدارة جيدة للنص، وتسويق جيد للعمل، واختيار مثالي لأبطال مختلفين، كان له أن يصبح فيلم الموسم دون شك: مضحك وخفيف وهادف، تركيبة مثالية لقطاع كبير من الجمهور المصري
يبدو أن التريلر فشل في تحقيق هدفه، بل كان سبباً إضافياً في تجاهل الفيلم، الذي لم تلتفت إليه مواقع التواصل الاجتماعي عموماً منذ اللحظة الأولى؛ فهو بطولة مطلقة لشاب غير مشهور نوعاً ما، وعودة أخرى باهتة لغادة عادل، وسط موسم مزدحم على غير العادة لم يسمح بالتجربة والمقامرة غير المضمونة.
سقطة الفيلم الكبرى كانت في المخرج الذي لم يستغل مناطق كوميديا كبيرة من النص، فقدم عمل متواضع إخراجياً غير منتبه لأقرب التفاصيل أو أبعدها، ليصبح المخرج عصام نصّار هو نقطة الضعف الأكبر في الفيلم على الإطلاق، بينما يحمل سيناريو الفيلم قصة يمكن أن تنتج كوميديا لا تتوقف: أستاذ جامعي محافظ كلاسيكي يحتاج أن يحصل على الدكتوراة في علم النفس عن طريق التعامل مع جنائيين ومجرمين لفهم نفسيتهم، يتورط من خلالهم في بيع مخدرات على الإنترنت.
الفيلم يمثّل قالباً قصصياً كوميدياً يعتمد طوال الوقت على المفارقة التي تنتج الضحك، بين المحافظة والتهور، ونجح إجمالياً في تحقيق ذلك.
"البطة الصفرا" إذا قورن مع أعمال الموسم الأخرى المتواضعة وغير المتواضعة؛ يظهر أنه أنتج ضحكاً لا بأس به، في قصة متماسكة ومنطقية وشديدة الذكاء في أغلبها. "البطة الصفرا" بإدارة جيدة للنص، وتسويق جيد للعمل، واختيار مثالي لأبطال مختلفين، كان له أن يصبح فيلم الموسم دون شك: مضحك وخفيف وهادف، تركيبة مثالية لقطاع كبير من الجمهور المصري.
بدت اللحظة التي خرج فيها "البطة الصفرا" لا تحتمل أي مغامرة: عدد أفلام أكثر من العادة، تسويق جيد لبعضها بالاعتماد على أبطالها حتى لو فقدوا بريقهم في فيلم سيء، بينما أبطال "البطة الصفرا" أو بطله الشاب تحديداً لا يملك تأثيراً قوياً على مواقع التواصل الاجتماعي التي يمكنها أن تحي الموتى.
كيف يضحك المصريون إذن؟
وجد الفيلم الوثائقي الذي سبقت الإشارة إليه أن المصريون يقتنصون الضحك عبر البحث الدائم والرغبة في المقامرة التي يعتمدون عليها لاستكشاف مناطق جديدة للضحك، عبر تجاهل الاعتماد على الضحك القديم أو تحكمات أصحاب السلطة.
تغيرت اللحظة تماماً، تراجع كل شيء، وأصبح من المضمون أن نضحك على ما يقول عنه "الآخرون" إنه مضحك حتى لو كان غير ذلك، أغلب من رفض "البطة الصفرا" أو غيره، رفضه ربما لأنه لم يُحدث صخباً، سواء بالجودة أو الاستياء، وهذا الأمر قد يُغضب أصحاب دور العرض لدرجة رفعه من السينما، لذلك قبل أن تطرح فيلم، اعتمد على فرقعة ما في أي سياق ثم فكّر أن تكون إيجابية أو سلبية، أنت وذوقك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون