أثار قرار افتتاح كلية الفقه الحنبلي في جامعة العلوم الإسلامية العالمية بالأردن، تساؤلات كثيرة، بين من يراها خطة لتفريغ الفقه الحنبلي من محتواه وصناعة سلفية جديدة على هوى السلطة، وبين من يراه خطوة جديرة بالاحتفاء في مسار فتح المنافذ للجميع.
بين هذه وتلك، يتحرّك هذا التقرير في محاولة للفهم لا التشكّك.
هكذا غزت السلفية الأردن
تاريخياً، ظلّ الأردن يتحرّك في نطاق الثقافة الشامية الصوفية الحنفية أو الشافعية، حيث صبغت المؤسسات الدينية الرسمية بتلك الثقافة لعقود.
لكن مع بداية الثمانينيات، حدث تحوّل ملحوظ على الصعيد الديني في الأردن، مع قدوم محمد ناصر الدين الألباني إليها، جالباً معه أفكاره السلفية، بعد تركه السعودية إثر خلافه مع علماء السلفية في السعودية على بعض القضايا الفقهية.
قوبل الألباني برفض ومقاومة من التيار الصوفي والشافعي المهيمن على المشهد حينها، مدعوماً بأجهزة الدولة التي منعته من إعطاء دروس في المساجد، لكن ذلك لم يحل دون انتشار أفكاره كالنار في هشيم المجتمع الأردني، بالتزامن مع ما عُرف باسم "الصحوة الإسلامية" التي غزت المنطقة، لتصبح الثمانينيات بمثابة البوابة الذهبية للمدّ السلفي في الأردن.
وبطبائع الأمور وتقلباتها، انقسمت السلفية أقساماً وشيعاً، وإن كانت السلفية الجهادية تمثل الخطر الأكبر بالنسبة للأمن والدولة.
بزغ اسم المقدسي والزرقاوي في أواخر التسعينيات، وخصوصاَ بعد انتقال الأخير إلى أفغانستان ليكوّن جماعته "التوحيد والجهاد"، والتي اتُهمت لاحقاً بالضلوع في عمليات تفجيرات الفنادق في عمان 2005.
وبرغم من تصفيته في 2006، إلا أن جماعته لم تمت، وانتهى بها المطاف في تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
إلى متى يظل اشتباك الدولة الأردنية وتعاملها مع التيارات الفكرية والدينية يحكمه الشق الأمني، لا الفكري أو التنويري؟
نظرة الدولة الأردنية للسلفيين
اشتباك الدولة وتعاملها مع التيارات الفكرية والدينية عموماً يحكمه بالأساس الشق الأمني، لا الفكري أو التنويري.
فمن جانب، دعمت الدولة السلفيين لمواجهة المدّ القادم من جماعة الإخوان المسلمين، لكنها على الجانب الآخر، شنّت حرباً ضروساً على ما عرف باسم "السلفية الجهادية"، حيث تجاوز عدد القضايا التي تمّ تحويلها إلى محكمة أمن الدولة المئات، فضلاً عن التوسع في عمليات الاعتقال.
وبالرغم من استخدام الدولة لفتاوى السلفية "المعتدلة" في مواجه السلفية الراديكالية، إلا أن التعامل مع الملف برمّته ظل أمنياً بالأساس.
سعياً للتدجين
"إنّهم يعدون العدة لتدريس مذهب حنبلي مشوّه يتناسب مع أدبياتهم"، هكذا استهلّ الباحث في شؤون المذهب الحنبلي، عصر النصر، حديثه لـ رصيف22، قبل أن يكمل قائلاً: "إن ما جرى لا يعدو كونه محاولة من قبل الدولة لتغيير الهوية الدينية في الأردن، وتوجيهها لدراسة المذاهب الفقهية بدلاً من السلفية المنتشرة في الأوساط الثقافية والعلمية. فقد كان هناك قرار من جهات عليا بإلغاء المذهب الحنبلي، كما أنّها لا تريد السلفية، فجعلت الحنبلية والسلفية في درجة واحدة في المنع".
يضيف النصر: "كنت ممن قدموا أوراقهم للتدريس في الجامعة، بالرغم من أنني كنت على علم سابق بأنّهم لن يقبلوا، فهم لا يريدون تدريس المذهب الحنبلي، وبعد مسارات عدّة من الشدّ والجذب، وصلت إلى حد أنّهم نفوا وجود حنابلة في المنطقة كله، لا الأردن فحسب".
ثلاثة مذاهب فقط
سارت الأمور في الكليات الفقهية في جامعة العلوم الإسلامية بوتيرة هادئة يتم فيها تدريس المذاهب الثلاثة، متجاهلة المذهب الحنبلي.
لكن الضغوط زادت والأسئلة تعالت حول سرّ تجاهل المذهب الحنبلي، وهو ما دفع النظام في النهاية للرضوخ - وفقاً لنصر - والسماح بتدريس المذهب الحنبلي، لكن على أن يظل محصوراً في أفكار من يسمونهم بـ "فضلاء الحنابلة"، ليُخرجوا من المذهب الحنبلي كبار علماء الدعوة النجدية، وعلى رأسهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابن تيمية، بل ويكثرون نقدهم في كتبهم.
ماذا وراء التحالف السلفي - الإخواني الذي بدأ يظهر مؤخراً على السطح في الأردن؟
ندرة العلماء هي السبب
لكن على صعيد آخر هناك من ينزع عباءة نظرية المؤامرة عن الملف برمته، ويحيلها لأسباب تقنية بحتة.
أحد أساتذة الكلية (طلب عدم ذكر اسمه) تحدث لـ رصيف22، قائلاً: "التأخر في افتتاح كلية الفقه الحنبلي ضمن كلية المذاهب في جامعة العلوم الإسلامية يرجع إلى عدم وجود أستاذ أردني مجاز في المذهب الحنبلي، عقيدة وفقهاً، حتى يُعهد إليه بتولي مهام عميد الكلية، وحين وجدوا أخيراً الشخص المطلوب الذي سيعهد إليه بتلك المهمة، تحركت الأمور صوب افتتاح الكلية".
من جانبه يؤكدّ الباحث في الفكر الإسلامي بسام ناصر لـ رصيف22، أنّه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّ منهجية الجامعة الدينية تتبنى فقهياً المذاهب الأربعة، كمرجعية فقهية معتمدة ومقرّرة، كما تتبنى عقائدياً مذهب الأشاعرة والماتريدية وفضلاء الحنابلة، وهو ما يعني بالضرورة رفض الخط السلفي الذي يُشكل امتداداً لمنهجية ابن تيمية واختياراته العقائدية والفقهية، ومن هنا، فإنّ السلفية الوهابية، أو السلفية الألبانية، في الأردن تدرك تماماً، بحسب رؤية ناصر، أنّ كلية الفقه الحنبلي، وفق المنهج الذي تسير عليه الجامعة، لن يعبّر عن الخط السلفي عقائدياً وفقهياً، بل يعبر عن توجهات واختيارات "فضلاء الحنابلة".
أما نائب مدير المعهد الملكي للدراسات الدينية، عامر الحافي، فيرجع في حديثه لـ رصيف22، السبب في تأخير افتتاح الكلية، إلى الخلط الحادث بين المذهب الحنبلي والسلفية "المتشدّدة"، فهنا يجب التمييز بين السلفية المعتدلة والسلفية المتشدّدة، لكون الأخير سحب عليها الوصف بأنّها تتبع المدرسة الحنبلية.
تحالف سلفي- إخواني
المتابع للمشهد السياسي في الأردن يمكنه ملاحظة أن هناك تحالفاً سلفياً- إخوانياً بدأ يظهر على السطح مؤخراً، وذلك لوقف ما يعتبرونه مؤامرة عليهم، لتقليص نفوذهم في المنابر الدينية في الأردن، سواء على مستوى وزارة الأوقاف والمساجد التابعة لها، أو عبر الجامعات والكليات الشرعية.
هنا يؤكدّ عامر الحافي أنّ هناك فوارق منهجية كبيرة بين التيار السلفي والإخواني، لكن على المستوى السياسي، قد يكون هذا التحالف موجوداً وقائماً على المصالح النفعية المتبادلة.
جدل كبير وأسئلة أكبر تدور حول كلية الفقه الحنبلي الوليدة في الأردن، بين من يراها خطوة لتدجين واحتواء السلفية الوهابية، عبر إنتاج حنبلية جديدة تختلف عن الحنبلية الوهابية، ومن يؤمن أن الدولة تفتح الباب على مصراعيه للجميع لاحتواء حالة الغضب والمزايدات التي صدرت في حقها الفترة الماضية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...