طوال عقود، اعتبرت حركات السلفية الجهادية، وخصوصاً تنظيم القاعدة، أن لبنان هو أرض نصرة وليس أرض جهاد. ومع أفول نجم القاعدة وظهور داعش وتفاقم الأزمة السورية، صار هذا التصنيف محط مراجعة.
خلال السنوات الثلاثة الماضية، دخل لبنان إلى حلقة العنف المحيطة به، ونشطت الجماعات الإرهابية فيه. ولكن، رسمياً، لا يمكن القول أن لبنان أضحى أرضاً للجهاد. هناك خلاف بين جبهة النصرة وداعش، أهم التنظيمات السلفية الجهادية الناشطة في لبنان وسوريا، حول تصنيفه لا بل أن ذات الخلاف مطروح داخل كل من التنظيمين. يتفق الطرفان على أن الصراع هو مع حزب الله. لكنهما يختلفان حول أسلوب مواجهته. ثمة من يرى ضرورة مدّ المعركة إلى لبنان بأسره، فيما يفضل البعض الآخر مواجهة حزب الله حصراً.
نشاط الحركات السلفية الجهادية في لبنان أدى إلى ولادة خلايا ومجموعات يمكن تقسيمها إلى فئات عدّة: فئة المهاجرين اللبنانيين الذين تم تجنيدهم في الخارج وإعادتهم إلى لبنان للقيام بمهمات محددة (مثل منذر الحسن)؛ فئة المنشقين عن الجيش، وهي فئة هامشية لكنها الأكثر خطورة كونها تعكس نيّة تقسيم الجيش اللبناني؛ فئة المقربين من حالات سلفية سابقة اندثرت كحالة الشيخ أحمد الأسير (منها منفذا التفجير الذي استهدف السفارة الإيرانية العام الماضي)؛ فئة المقرّبين لأسباب مصلحية من هذه الجماعات، ولها دور أساسي في التجنيد والتدريب والتنفيذ (مثل أسامة منصور وشادي المولوي وأحمد ميقاتي)؛ وأخيراً فئة الأجانب المجندين في المخيمات الفلسطينية أو في بيئات اللاجئين السوريين أو القادمين من الخارج (حالة الموقوف الفرنسي والقتيل السعودي أثناء مداهمة الأمن اللبناني لفندق في بيروت).
إضافة إلى تعاظم نشاط الجماعات الإرهابية داخل لبنان، لا يقل نشاطها خطورة خارج لبنان. مؤخراً، كشف معهد كويليام Quilliam Foundation لمكافحة التطرف أن 900 لبنانياً يقاتلون مع داعش في سوريا. وإن كان البعض يعتبر أن هذا الرقم مبالغ فيه، إلا أن محاولة استثمار هؤلاء مستقبلاً في الساحة اللبنانية الداخلية يبقى أكثر ما يقلق اللبنانيين.
بدايات السلفية
بدأت الحركة السلفية اللبنانية مع بروز تيارات السلفية الدعوية بعد الإستقلال وكانت مدينة طرابلس السباقة في استيراد هذه الأفكار. في العام 1964، أسس الشيخ سالم الشهال رسمياً، في طرابلس، أول حركة سلفية، وأطلق عليها اسم "شباب محمد" وذلك بعد تعمقه في الدعوى لسنوات وبعد زيارات عدة إلى المملكة العربية السعودية.
لم تستطع تيارات الفكر السلفي التي ظهرت في الخمسينات أن تبني شعبية حول طروحاتها. مرد هذا الفشل يعود أساساً إلى مدينية قسم كبير من أبناء الطائفة السنّية المتمركزين في المدن الرئيسية (بيروت، طرابلس، وصيدا) إضافة إلى التنوع والاختلاط في الأرياف السنّية.
إلى السلاح
لم يحمل السلفيون اللبنانيون السلاح إلا بعد بداية الحرب الأهلية. رغم ذلك، لم يتحولوا إلى سلفيين جهاديين بالمعنى القاعدي.
في العام 1974، أسّس الشيخ داعي الإسلام الشهال، نجل سالم، "الجيش الإسلامي"، ليكون بذلك أول تنظيم سلفي مسلح في لبنان. ظل التنظيم سرياً ولم يُعلن عنه حتى العام 1982، حين دارت اشتباكات عنيفة بين الجيش السوري وحركة فتح الفلسطينية. مهدت هذه المعركة لظهور حركة "التوحيد الإسلامي" التي سيطرت على طرابلس، بدعم من حركة فتح، وكان أميرها سعيد شعبان قد شارك مع سالم الشهال في تأسيس التيار السلفي. أقامت حركة التوحيد إمارة بين العامين 1982 و1985 وطبقت الشريعة في المدينة إلى أن انهزمت بعد هجوم عنيف شنّه الجيش السوري والقوى المتحالفة معه.
السلفية الفلسطينية في لبنان
كما في طرابلس، ظهرت التيارات السلفية المقاتلة في المخيمات الفلسطينية. دخل الفكر السلفي إلى مخيمات لبنان، عبر الشيخ ابراهيم غنيم، الذي عادل في نشاطه، نشاط داعي الإسلام لبنانياً. عام 1984، أعلن غنيم عن تأسيس "الحركة الاسلامية المجاهدة"، التي كانت نواتها قد تشكلت مع بدايات الحرب الأهلية اللبنانية في مخيم عين الحلوة. قاتلت حركته المدعومة من حركة فتح ومن إيران الجيش الإسرائيلي، ثم تحوّل عناصرها إلى طرائد للجيش السوري.
وخلال الحرب الأهلية، لمع نجم "أنصار الله" المقرب من "حزب الله"، وخاض إلى جانبه معارك طاحنة ضد حركة "أمل" الشيعية. كانت هذه الحرب جزءً من الصراع على النفوذ في لبنان بين الإيرانيين والسوريين. حركة فتح التي كانت مقربة من إيران آنذاك، نقلت المعركة إلى داخل المخيمات وطردت قيادات "أنصار الله" إلى خارج المخيم. وبعد مقتل قائدها هشام شريدة، انقسمت "أنصار الله" إلى "عصبة الأنصار" و"عصبة النور"، قبل أن ينتهي عملياً التنظيم الأخير على أثر قيام الأول بتصفية كوادره سنة 2003.
برز إسم "عصبة الأنصار" في أكثر من محطة لعل أبرزها عملية اغتيال رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية الشيخ نزار الحلبي في العام 1995. اليوم، تعتبر العصبة من أهم التنظيمات السلفية العسكرية في المخيم. ولكن العلاقات التي تربطها بإيران وحزب الله، تجعلها تبتعد عن الارتباط بتنظيم القاعدة.
في مخيّم عين الحلوة أيضاً، برز إسم "جند الشام". يعتبر هذا التنظيم الأكثر قرابةً من القاعدة. بعد تأسيسه، عام 2004، بفترة، دخل في غيبوبة نتيجة خلافات بين قياداته، مما أفسح المجال أمام "عصبة الأنصار" لاحتضان عدد من كوادره.
التجربة الأبرز في المخيمات بعد الحرب الأهلية، لم تكن في مخيم عين الحلوة بل في مخيّم نهر البارد. فبعد اشتباكهم عام 2006 مع حركة فتح في مخيم البداوي، انتقل عناصر تنظيم فتح الإسلام إلى البارد وخاضوا في العام التالي معركة طاحنة ضد الجيش اللبناني أدت إلى تدمير المخيم ومقتل عدد من عناصر التنظيم وفرار عدد آخر بينهم قائده شاكر العبسي.
من طرابلس إلى لبنان
ظلت الحركات السلفية اللبنانية ضمن الإطار الدعوي إلى أن اندلعت، عام 2000، معركة شرسة بين مجموعة سلفية وبين الجيش اللبناني في منطقة جرود الضنّية القريبة من طرابلس. ففي ليلة رأس السنة، تلقت مخابرات الجيش اللبناني معلومات عن وجود مسلحين في جرود الضنية، يقودهم اللبناني بسام كنج المعروف باسم "أبو عائشة" والذي قاتل في أفغانستان وفي الشيشان والمقرب من أسامة بن لادن. بعد ستة أيام من المعارك، نجح الجيش في القضاء على الجماعة وقتل قائدها.
وفي منطقة البقاع، برزت بلدة مجدل عنجر باعتبارها المركز الثاني للحركة السلفية في لبنان بعد طرابلس. منها انتشر الفكر السلفي في قرى عدّة ولكن دون أن تبرز تنظيمات متماسكة. بروز إسم مجدل عنجر أتى مع توقيف مجموعة اسماعيل الخطيب، عام 2004، واتهامه بالتخطيط لتفجير السفارة الإيطالية في بيروت وبأنه أمير تنظيم القاعدة في لبنان.
وفي الجنوب اللبناني، تعتبر صيدا حاضنة لنشاط سلفي- دعوي وذلك نتيجة لمجاورتها مخيّم عين الحلوة. ولكن نشاط السلفيين الصيداويين بقي متواضعاً إلى أن لمع نجم الشيخ أحمد الأسير، عامي 2012 و2013، قبل أن يقضي الجيش اللبناني على ظاهرته.
القتال خارج لبنان
تعتبر مرحلة القتال في أفغانستان ضد السوفيات البداية الفعلية لتحول عدد كبير من اللبنانيين من الفكر السلفي، إلى الفكر السلفي الجهادي. جنّد عدد كبير من السلفيين اللبنانيين ليكونوا جزءً من الأفغان العرب. قتل عدد كبير منهم وعاد قسم آخر إلى لبنان لاحقاً، وبقي مصير البعض مجهولاً.
ثم مع احتدام الحرب الدولية على الإرهاب في أفغانستان ثم في العراق، توجه شباب لبنانيون للقتال إلى جانب القاعدة في أفغانستان وإلى جانب أبي مصعب الزرقاوي في العراق. بقيت معظم الحالات طي الكتمان باستثناء حالتين حصلتا قبل الحرب على الإرهاب، الأولى هي حالة "أبي عائشة" في الضنية والثانية هي حالة الإرهابي اللبناني الأشهر زياد الجراح، أو "أبو طارق اللبناني"، الذي كان أحد منفذي اعتداءات 11 أيلول 2001. ولكن الآن، لا يكاد يمرّ شهر دون أن نسمع عن انضمام شاب لبناني إلى مجموعة إرهابية في العراق وسوريا أو عن مقتله.
كما تنامت ظاهرة السلفية الجهادية بالارتباط مع عوامل خارجية كحربي أفغانستان والعراق، ها هي تتنامى في السنوات الأخيرة على إيقاع الحرب الدائرة في سوريا. رغم أن هذا التيار لا يلاقي استحساناً في البيئة اللبنانية السنّية، إلا أن أعماله تكسب تأييد الفئات المتحمسة، ما يفتح الباب اللبناني على احتمالات كثيرة خاصة في ظل توجّه داعش إلى اعتبار لبنان أرض جهاد لا أرض نصرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين