يُمكننا ونحن نتصفح أحدث إصدارات الكاتب والروائي المصري شادي لويس بطرس "سياحة الموت... كوميديا الغرباء"، أن نحصل نحن أيضاً على صورة "سيلفي" لنا مع الموت، كتلك التي حصل عليها الكاتب، أثناء زيارته لمحطة تشيرنوبل. ذلك الاسم المروع الذي يُذكرنا بأكبر كارثة نووية شهدها العالم في الربع الأخير من القرن العشرين، حتى أن المنطقة التي كانت تابعة لأوكرانيا السوفياتية آنذاك، أصبحت غير صالحة للحياة لعشرين ألف سنة مقبلة. يُمكننا أيضاً أن نتأمل صروح الديكتاتوريات في دول أمريكا اللاتينية على وجه التحديد، وأن نرى الدماء التي سالت من أجل التحرر، ونقف على حافة الفناء، ونحن نتنقل مع الكاتب داخل المتاحف التي تحتفظ أو تُحنط أطلال الماضي بالأحرى خرائب الماضي مثل هيروشيما والهولوكوست.
قبل أن يُباغتنا الحضور العربي الكبير في عواصم أمريكا الجنوبية، ونستمع إلى غناء المطرب السوري علي الديك في أحد مطاعم العاصمة الكوبية، هافانا، وفي الأخير سنحصل على صورة قديمة وحديثة للعالم في كادر واحد، فالماضي في بعض العواصم التي زارها الكاتب، لا يزال حياً ومشتعلاً، يكاد أن ينقض على الحاضر؛ هذا الحاضر المضطرب الذي تحركه العولمة بأدواتها من رؤوس الأموال، واقتصاديات السوق، والنيوليبرالية الجديدة، في تسارع محموم، يدهس في طريقه كل المعاني والقيم الإنسانية الكبرى التي يبحث عنها شادي لويس، وينحاز إليها بشكل راديكالي لا ينحو إلى التواطؤ أو المهادنة.
يُمكننا ونحن نتصفح أحدث إصدارات الكاتب والروائي المصري شادي لويس"سياحة الموت... كوميديا الغرباء" أن نحصل نحن أيضاً على صورة "سيلفي" لنا مع الموت، كتلك التي حصل عليها الكاتب أثناء زيارته لمحطة تشيرنوبل
وقبل أن نتنقل مع الكاتب في مدن وعواصم العالم، تلك التي اختارها بشكل متعمد، عاكسةً لانحيازاته، وتوجهاته الأيديولوجية، ربما علينا أن نقترب أكثر من شادي لويس الذي يعيش في منفاه الاختياري في العاصمة البريطانية لندن منذ ما يقرب من عقدين. وذلك سيقودنا بالطبع إلى الاقتراب من السياق التاريخي أو اللحظة الزمنية التي قرر فيها الكاتب الهجرة إلى الغرب. فمع نهاية القرن الماضي وسقوط الاتحاد السوفياتي، جاءت "العولمة" بوعودها البراقة، عن عالم "القرية الواحدة"، "والحدود المفتوحة" و"الأسواق المفتوحة"، لخلق ما سُمي بـ"المواطن الكوني الواحد"، الذي يبدو كدمية في يد العولمة، تصنع منه ملايين النسخ المتشابهة.
وبصرف النظر عمّا أتت به العولمة من جرائم اقتصادية وسياسية في المنطقة العربية تحديداً، وفي بلدان العالم الثالث إجمالاً، إلا أنها أتاحت فرصاً للهجرة إلى الغرب أمام شرائح واسعة من المصريين (جيل التسعينيات خصوصاً)، بعد أن كان أقصى طموح للأجيال السابقة هو "عقد عمل" في إحدى دول الخليج. عرفت مصر مع العولمة موجات هجرة إلى الشمال لم تشهدها طوال تاريخها، وطالت كافة فئات الشعب المصري، بمن فيهم الفلاحون وأصحاب المهن (والذين بلا مهن) وصولاً إلى "النخبة" بمن فيهم المثقفون والسياسيون والفنانون والروائيون والشعراء.
الكاتب والروائي شادي لويس بطرس هو أحد أبناء الجيل الذي بدأ خطوات شبابه الأولى مع الألفية الثالثة، واستطاع كبقية أقرانه أن "يقتنص" فرصة للهجرة، أتاحت له أن يكون الغرب منصة انطلاق إلى شعوب مختلفة وثقافات مغايرة، عبر رحلات إلى أثينا، بوليفيا، هافانا، لشبونة، بيونس آيريس، طوكيو، جنيف، وارسو، ألبانيا، كييف، بكين، شنغهاي، وغيرها، وثّقها في هذا الكتاب الصادر حديثاً عن دار صفصافة للنشر بالقاهرة.
يقف الكاتب على النقيض من عالم "ماريز"، صديقته البريطانية، التي تنوي زيارة 100 دولة، من أجل المتعة والتقاط الصور، و"امتلاك العالم" على حد قولها له؛ فعالم "ماريز"، هو بمثابة تجسيد لقيم العولمة، يتشكل من الحركة والنهم والالتهام، لا الثبات والتأمل، والانغماس مع الأعراق والجنسيات والإثنيات المختلفة، للخروج برؤية كونية للعالم، كما يطمح شادي الذي يتنقل بخفة طائر وبعيني صقر بين بلدان عديدة، لا كرحالة قديم هدفه رصد الجغرافيا والعادات الغرائبية للسكان، ولا كسائح سطحي هدفه تمضية الوقت في متعة عابرة، بل يسعى إلى تعرية العالم، للوصول إلى الحقيقة.
وفي طريقه يزيل الكثير من الأوهام حول الديمقراطية، وحرية الأقليات، وأساطير التسامح الغربي، كما يرصد آثار الأيادي السوداء للعولمة والأسواق المفتوحة والنيوليبرالية الجديدة على بلدان العالم الثالث، وكذلك يرصد أيضاً ما خلفته الديكتاتورية في ذاكرة شعوب هذه البلدان.
يشير لويس إلى السياسة المنهجية القاسية التي اتبعتها سويسرا تجاه اللاجئين السوريين، في الوقت الذي تفتح فيه جنيف ذراعيها على اتساعهما للسياح الخليجيين، بحسب ما أخبره سائق تاكسي تونسي.
وثمة حنين إلى "خرائب الماضي" يجتاح الكاتب، فيتجه إلى نصب الإبادة في "أورشليم الشمال" (ليتوانيا)، وهيروشيما، وتشيرنويل، وغيرها من الأماكن التي شهدت أبشع الكوارث البشرية. إنه يتجول وسط الخرائب وأطلال المآسي الكبرى، ربما ليكشف لنا زيف وأكاذيب سرديات الماضي السعيد. وعلى مستوى آخر، يُخبرنا أنه لا توجد حقبة تاريخية أفضل من أخرى، فلكل فترة زمنية نصيبٌ من الكوارث أو التراجيديا، وعلى أطلالها يتكون العالم الجديد، وهكذا في ديمومة لا تتوقف إلا بانقطاع الحياة.
في العاصمة اليونانية أثينا، يكشف صاحب الروايات "طرق الرب"، "على خط جرينتش"، "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة"، زيفَ ما يُسمى بحرية الأقليات، خاصة في إقامة شعائرهم الدينية؛ فالمدينة التي يوجد بها أكثر من 200 ألف مسلم، خالية من المساجد، بل إنها "العاصمة الأوروبية الوحيدة التي لا تحوي أي مسجد على الإطلاق"، وعلى الرغم من موافقة البرلمان اليوناني في عام 2011 على بناء مسجد، إلا أن القرار تم تعطيله بمناورات سياسية ودعاوى قضائية، إلى أن أصبح مصير المسجد الموعود رهن اقتراح بطرح الأمر لاستفتاء شعبي.
ومن أثينا يرتحل الكاتب إلى جنيف التي وصل إليها في يوم احتفالات "التسلق"، كاشفاً عن زيف أساطير التسامح التي اشتهرت بها المدينة تجاه الغرباء واللاجئين، يقول نصاً: "في اليوم السابق لاحتفالات 'التسلق'، حكمت محكمة عسكرية على أحد ضباط الحدود السويسريين بالسجن ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ، بعدما ثبت أنه تسبب في إجهاض إحدى اللاجئات السوريات، بعدما منع عنها المساعدة الطبية عمداً، وتركها تنزف لساعات في أحد عنابر الاعتقال، بالرغم من توسلاتها هي وزوجها".
يشير لويس إلى السياسة المنهجية القاسية التي اتبعتها سويسرا تجاه اللاجئين السوريين، في الوقت الذي تفتح فيه جنيف ذراعيها على اتساعهما للسياح الخليجيين، بحسب ما أخبره سائق تاكسي تونسي: "تحب جنيف العرب وهي متسامحة تجاههم كعادتها، بالطبع طالما أنهم ليسوا لاجئين ولديهم ما يكفي لينفقوه".
"يمكن أن تبني جسراً من الفضة ليربط بين بوتوسي ومدريد مما استخرج من المناجم هنا، وجسراً آخر للرجوع مصنوعاً من عظام من ماتوا في استخراجها". هذه العبارة التي تحتوي على مفارقة قاسية، كتبها الكاتب الأورجواني إدواردو جاليانو، في سرده للسيرة المأساوية لمدينة بوتوسي البوليفية، التي زارها لويس، متلمساً ومتأملاً في "السقوط العظيم للمدينة" التي كانت في الماضي البعيد واحدة من أكثر مدن العالم سكاناً، وثراءً، حسبما ذكر جاليانو في كتابه الشهير "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية"، "فثمة 8 ملايين من عمال المناجم من السكان الأصليين، فُرض عليهم الموت تحت نظام إسباني للسخرة الإجبارية، جنباً إلى جنب مع العبيد المجلوبين من إفريقيا".
وبعد أن أفرغت مناجم المدينة من ثروتها، بعد سنوات عديدة من الاستغلال والنهب من جانب الإسبان، أصبحت عملية الاستخراج غير مجدية اقتصادياً، فهجرتها شركات التنقيب. وأصبح يعمل في المناجم عدد من القصر، لاستخراج القصدير بعد أن نفذت الفضة، وهؤلاء العمال، غالباً ما يموتون من الأمراض الصدرية، أو جراء حدوث انهيار صغير فوقهم وهم يعملون، فيما السياح الغربيين، يلتقطون الصور معهم، بالأحرى مع "الموت"، ويتركون لهم السجائر، والكحول وأوراق الكوكا، ويُسرعون لمشاهدة إحدى الرقصات الطقسية التي يؤديها السكان الأصليون أمام الفوج الأجنبي.
هذه سيرة مختصرة ودرامية لبوتوسي البوليفية، سردها لنا لويس، من واقع رحلته إلى بوليفيا (إحدى دول أمريكا الجنوبية). وثمة الكثير من مدن القارة اللاتينية التي كان لها نفس المصير. يتجول لويس في هافانا، موطن جيفارا، فيجد هذا الرمز الثوري حاضراً في الأذهان، أيقوناته، وصوره في كل مكان، وعلى النقيض، يُصادف الكاتب في تجواله من يكره جيفارا: "جيفارا أفضل وهو ميت، أكثر مما هو حي"، (قالها سائق تاكسي للكاتب). وفي عاصمة الأرجنتين، يترحم المواطنون على أيام الديكتاتور، فهو –بحسب تعبيرهم- "لم يضع رقابهم تحت سيف صندوق النقد الدولي".
وفي بوخارست أثناء تجوله في إحدى الحدائق، التي تضم تماثيل نصفية لمشاهير في السياسة والفن والأدب، وجد شاهدة قبر لمطرب البوب الشهير مايكل جاكسون بجوار تماثيل لـتشيخوف، دوستويفسكي، شوبان، موزارت، والكثير من الرموز العالمية. هذا المشهد، أعاد الكاتب إلى عام 1992، وهو العام الفارق في تاريخ بوخارست؛ ففي هذا العام انتقلت جولة عالمية لجاكسون حول بعض دول العالم الغربي، وكانت بوخارست هي البلد الوحيد من الكتلة الشرقية السابقة التي توقفت بها الجولة، وكان ذلك – بحسب تعبير لويس- "اعتراف بأحقية رومانيا في الانتماء لأوروبا الغربية والسوق الرأسمالية".
شادي لويس -شأن معظم أبناء جيله- لا يُقدم في كتاباته "بكائيات كلاسيكية" حول "المنفى" و"المهجر" التي شاعت قروناً طويلة، بما تستدعيه من ألم ميلودرامي أو غربة قاسية أو نوستالجيا رومانسية، وإنما نلاحظ حساً إنسانياً يحتوي كافة الأجناس والأعراق، ينحو إلى الطرافة أحياناً
ثمة حضور عربي لافت في مدن وعواصم أمريكا اللاتينية على وجه التحديد؛ فمنذ قرون، هاجرت أسر وعائلات شامية على وجه التحديد، إلى هذه القارة، وهناك من حققوا نجاحات كبيرة هناك وكونوا ثروات طائلة، هذا التواجد العربي الممتد والمتجذر في أقصى بلاد العالم، كان مصدر دهشة كبيرة لدى الكاتب، لكنها لا ترجع إلى زهو بالانتماء –بحسب تعبيره– بل "إلى ذلك العجب التي يُثيره تكشف الطبقات السميكة لتاريخ البشر وعمرانهم، ومسارات ارتحالهم، وما حملوه معهم وما تركوه خلفهم، وهم يُغالبون الجغرافيا حيناً، وتفعل هي فعلتها بهم حيناً آخر".
الملفت أن شادي لويس -شأن معظم أبناء جيله- لا يُقدم في كتاباته "بكائيات كلاسيكية" حول "المنفى" و"المهجر" التي شاعت قروناً طويلة، بما تستدعيه من ألم ميلودرامي أو غربة قاسية أو نوستاليجيا رومانسية، وإنما نلاحظ حساً إنسانياً يحتوي كافة الأجناس والأعراق، ينحو إلى الطرافة أحياناً، ويعري أساليب القمع والعنف وكبت الحرية التي تطال الإنسان في البلدان التي زارها، واختلط بثقافاتها وتعامل مع ناسها وكأنه واحد منهم، لا كضيف غريب أو عابر سبيل. ربما ساهمت ثورة الاتصالات التي واكبت العولمة، في الحد من مشاعر اغتراب المهاجرين الجدد، مقارنة بمهاجري الماضي.
وربما كان التدهور الاقتصادي والتضييق السياسي (خاصة بعد انتكاسات الربيع العربي)، سبباً جوهرياً في تخفيف الإحساس العتيق بالغربة، وتأجيل "حلم العودة" القديم إلى أجل غير مسمى، أو وأده إلى الأبد، غير أن المنفى هو الآخر لم يعد مكاناً آمناً للمهاجرين بعيداً عن بطش السلطة، فهو بالنسبة لشادي لويس، أصبح "السلطة المطلقة للرعب"، خاصة بعد الملاحقات الأمنية والأحكام الجائرة التي أودت بالكثير من السياسيين والنشطاء والصحافيين إلى السجون، أثناء عودتهم من المهجر، في زيارات قصيرة إلى عائلاتهم، ومن ثم فالجميع – وفقاً لتعبير الكاتب "منفيون بصورة أو بأخرى، لأنه في ظل الديكتاتورية ينتفي المنفى. وهكذا فالعالم أصبح إمبراطورية كبيرة للاغتراب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع