كلما أُعلِنت نتائج مسابقة أدبية ما وأثارت المشاكل، ودارت الأقاويل حول كواليس الجوائز والأعمال الفائزة ولجان التحكيم ومعاييرها، والصراعات الخفية والمعلنة؛ كلما تشبثت بالأصل، أي النص الأدبي، فالإجابة الحاسمة لأي سؤال هو قيمة الأدب ذاته، والجائزة وسيلة وليست هدفاً، لا تمنح أحقية لجهة ولا استحقاقية لكاتب، النص ذاته هو الموقف الجمالي والأخلاقي القابل للخلود. هذا المعنى، يتم تغييبه عمداً في بعض الأحيان لصالح أشياء أخرى.
بعد إعلان نتائج جائزة ساويرس الأدبية هذا العام، أثار رفض الروائي شادي لويس بطرس لجائزة أفضل عمل روائي عن روايته "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" تفاعلاً كبيراً، يكاد يتجاوز التفاعل مع العمل ذاته وغيره من الأعمال الفائزة، كنصوص أدبية تحمل موقفها وصراعها ورؤيتها، وصار موقف الكاتب ذاته وصراعاته ورؤيته أكثر أهمية من منجزه الإبداعي، وفي هذا إشكالية كبيرة.
أنت أمام خيال معتمد على رؤية قصصية مسيحية، لكن الخيال ذاته لا يحده المقدس وإن كان ينزع تجاه فكرة طوباوية، حيث رحلة الأم والابن إلى الخلاص؛ تهدف إلى جنة بلا عنف، بلا سلطة من رجل أو دولة أو طائفة
هموم تنتقل بين القارات
منذ روايته الأولى "طرق الرب"، بدا واضحاً أن شادي منشغلٌ بتفاصيل المجتمع القبطي في مصر، والعلاقات داخل أسر قبطية متوسطة، تعيش في محيط عام يحكمه العنف وعلى شفا لحظة انفجار ما، كمريض يعيش حياته بشكل يبدو طبيعياً، لكن مرضه لا يزال كامناً داخله وقابل للانتشار.
في روايته الثانية "على خط جرينتش" والتي تدور في بلد المهجر، يبدو البطل محملاً بنفس الهموم، كأنه نفس بطل الرواية الأولى ولكن في مكان آخر، وكأن التغيير فقط في تفاصيل الأحداث وليس في عمق الفكرة؛ ما يمكن أن يخلفه الصراع داخلنا، وما يمكن أن يكشفه العنف والخوف في تكويننا الهش. يعود البطل ذاته في روايته "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" إلى طفولته، يتأمل الحياة منذ بداية الخليقة، علاقة الإنسان باللغة وبالأرقام، وكذلك علاقته بالعنف، من خلال حكاية يوم يقضيه البطل طفلاً في شرق القاهرة.
يعيش الطفل مع أبيه وأمه كثالثوث في مساكن حلمية الزيتون (شمال شرق القاهرة)، حيث الخط الفاصل بين حي المطرية الشعبي وحي مصر الجديدة الراقي.
وكما يروي الطفل، فقد بنت المساكن شركة سويسرية وأهدتها لعبد الناصر في أواخر الخمسينيات، في منطقة كانت صحراءً مثل أحياء أخرى تجاورها، يروى الطفل قصة عمرانها بالإنجليين الهاربين من الصعيد في موضع آخر.
الطفل هو الراوي، ويبدو ذلك واضحاً من التفاصيل الصغيرة التي تلتقطها عيناه. لكن هناك وعياً أكبر من وعي طفل بالحياة، وعي من نضج ليحكي عن طفولته، ويربط التفاصيل وينبش في جذورها
كانت البداية مع حلم يقظة رواه العم رجائي وصار أسطورة عائلية، يعاد حكيه في تجمع عائلي في هذا اليوم التي تدور فيه أحداث الرواية، إلى حد رغبة الأب في تسجيله الحكاية صوتياً.
الحكاية عن رحلة خاضها العم بالصدفة، بلا هدف واضح، ليصل إلى مكان مشابه لمنطقتهم وعلى بعد ساعات منها، حتى إنه حين طرق الباب الذي يحمل نفس رقم مسكن الأسرة في الحلمية فتحت له سيدة ترتدي خماراً، وأخبرته أنه لا يوجد رجال في البيت... إنها مساكن إمبابة التي بنتها نفس الشركة. لكن لا مصادفات في الحكي، فالمنطقتين المتشابهتين حد التوأمة كانتا على الحافة مع مناطق صراعات وعنف طائفي، وكان البيت الذي بلا رجال في مساكن إمبابة، بمثابة نموذج للجنة بالنسبة للأم التي تعاني من عنف أسري في مساكن الحلمية، يخرج الطفل مع أمه هرباُ من عنف أبيه، ويخوض رحلة معها خلال ساعات في شوارع شرق القاهرة، في نفس الوقت الذي كانت تشهد هلاله تلك المنطقة جرائم حرق الجماعات الإسلامية للكنائس.
طفولة حاشدة
" يفهم المرء طفولته أكثر بعد أن يضحى بالغاً، بعد أن يدفن الصبي الصغير الذي كانه، ويتحول مع الأيام إلى شخص آخر، فراشة لا تشبه صورتها تخرج من الشرنقة بعد أن دفنت الدودة نفسها حية داخلها، شخص مختلف بقدر كاف لأن يكون محايداً بخصوص ماضيه البعيد، كأنه لا يخصه."
الطفل هو الراوي، ويبدو ذلك واضحا من التفاصيل الصغيرة التي تلتقطها عيناه. لكن هناك وعياً أكبر من وعي طفل بالحياة، وعي من نضج ليحكي عن طفولته، ويربط التفاصيل وينبش في جذورها. أمام الكنيسة التي لجأت إليها الأم في بداية طريقها مع ابنها نحو الخلاص، يحفر الطفل في الأرض مستهدفاً الوصول إلى ما قبل الرماد والحرائق، وهذا ما فعله الراوي في رواية "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة"، حفر في لحظة تاريخية مرتبطة بطفولته، حدثت في نهاية الثمانينيات وظلت تتكرر بشكل مأساوي طوال تسعينيات القرن الماضي، وعادت لتطل في مراحل مختلفة تالية لذلك، في محاولة للوصول إلى ما حدث قبل أن يمارس أبيه العنف ضد أمه، قبل سيطرة العنف على عالمه، بل قبل وجوده في هذا العالم، في بداية الخليقة ذاتها، مرتكزاً على تلك اللحظة التي اختلط فيها العنف الأسري بعنف طائفي وسلطوي في أثناء ما أطلق عليه أحداث عين شمس.
"وفيما كنت أحدق في التمثال، وأفكر في سوء حظه، خطرت لي فكرة، شددت ماما من كم البلوزة لألفت انتباهها، فلماذا لا نمشي إلى المطرية، لن نأخذ أكثر من نصف ساعة أو ساعة إلا ربع، وحين نصل، ننام تحت الشجرة العجوزة مثلما فعلت العذراء مع طفلها، كانا هاربين مثلنا، وبلا مأوى"
مسار رحلة شريف – الطفل بطل الرواية- مع أمه في الشوارع المتاخمة لبيتهم، هرباً من عنف الأب وقنابل ورصاص الإرهابيين والسلطة، توازى مع الحكي عن هذه المنطقة، اعتمد خلاله الطفل على ذكريات والده، كما يمكن أن يعود بنا رمزياً إلى رحلة العائلة المقدسة، إلا أنه نزع عن الأم هذه القداسة، فلم تخل رحلتها من أفعال مشينة من دون تعمد أو خطة، لكنها قائمة في الأساس على شخصية الأم التي عاشت يتيمة في عائلة مستورة لكنها على حافة الفقر، وعاشت على انتهاز الفرص منذ طفولتها، حين كان يتاح لها أن تسرق لم تكن تتردد، فهي تشعر أنها لم تأخذ حقها من الحكومة، وربما لم تأخذ حقها من الحياة التي لم تمنحها الكثير.
كانت حياة شادي لويس في المهجر حاضرة في روايته الثانية، وكذلك ما عايشه خلال مراحل العنف الطائفي في مصر له حضور كبير في رواياته، خصوصاً روايته الأخيرة "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة"
دوائر العنف
"في كل مرة رأيت عن قرب واحدة من أدوات القتل تلك، شببت على أطراف أصابعي للنظر، ولم يكن هناك في داخل الماسورة سوى مهابة لون الظلام الأسود، وخوفي من أن تنطلق رصاصة، وتستقر في رأسي على سبيل الخطأ"
التركيبة النفسية للأم والأب شديدة التعقيد والتماهي مع طبيعة حياتهما، العنف هو المدخل لفهم شخصية الأب، الذي عاش طفولته خلال الحرب العالمية الثانية، وفقد السمع بأذنه اليسرى خلال إحدى الغارات، وكان يتحدث كثيراً عن الخسائر الكبيرة التي أخذت منه كل شيء إلا حياته. إلا أنه مع ذلك، وعلى نقيض الأم المتدينة المتقشفة، منشغلٌ بذاته ومهتمٌ بمظهره، وإن كان يفرغ مخاوفه وهزائمه في الحلقة الأضعف: الأم، التي أفرغت طاقة العنف بدورها في ابنها أثناء الرحلة. والابن الذي عاش في هذا المناخ، يفرغ طاقة عنفه في الحيوانات والحشرات، بل ويجد في ذلك أمراً عادياً يتشابه فيه كل أطفال المنطقة، دوائر من العنف تحكم العالم كما سيكتشف الطفل بنفسه.
وإن كانت قناعات شادي لويس بطرس هي المحرك الأساسي لموقفه من الجوائز، فإن تكوينه الشخصي لا يغيب بطبيعة الحال عن رواياته. كانت حياته في المهجر حاضرة في روايته الثانية، وكذلك ما عايشه خلال مراحل العنف الطائفي في مصر له حضور كبير في رواياته الثلاثة، خصوصاً روايته الأخيرة "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة"، ليس فقط على مستوى الفكرة؛ لكن أيضاً على مستوى الرموز ونظرته لمنبع العنف بين الأب والأم، وعلاقته بسلطة ممنوحة لآدم منذ الخليقة، سلطة لغوية وبلاغية في مقابل احتفاظ حواء بسر الأعداد؛ ارتباط الطفل بالأعداد هو تمسك بما يستطيع التحكم فيه في عالم الكبار المعقد، والذي يسيطر فيه الأقوى دائماً.
يشير الراوي إلى القصص الديني حيث خلق الله لآدم امرأة من ضلعه وأطلق آدم عليها اسم حواء، إلا أن حواء احتفظت بسر الأعداد في مقابل سيطرة آدم على الأسماء، واحتفظت بالسر بعد سقوطها من الفردوس حتى تبقي على شيء من البراءة الأولى، وكأن الطفل قد ورث هذه القدرة من أمه.
يتتبع الراوي كذلك ما حدث للغة مع نزول آدم وحواء من الفردوس، مروراً ببرج بابل واختلاف الألسن، وانتشار البشر في أنحاء الأرض. ارتباط عمار شرق القاهرة وتاريخها في عين الراوي، بتاريخ البروتستانت وطوائفهم المختلفة. أنت أمام خيال معتمد على رؤية قصصية مسيحية، لكن الخيال ذاته لا يحده المقدس وإن كان ينزع تجاه فكرة طوباوية، حيث رحلة الأم والابن إلى الخلاص؛ تهدف إلى جنة بلا عنف، بلا سلطة من رجل أو دولة أو طائفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع