شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"مصنّفة على لائحة التطنيش"… هل كلّنا عنصريون؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الأحد 6 أغسطس 202311:54 ص

تشكّل تجربة الشتات فرصةً استثنائيةً لنشاط كتابة السير الذاتية، بسبب ما طرأ على الذات الكاتبة من أحداث وتغيرات جذرية في حياتها الخاصة، تتسبب عادةً في تصدّعات وشروخ حادة تدفع بها إلى رفع مرآة كبيرة أو صغيرة لاستعادة الملامح أو التساؤل عن هويتها في فضاءاتها الجديدة التي وصلت إليها، إما طوعاً عبر هجرة نظامية أو غصباً، أي فراراً من حروب أو ملاحقات أو مجاعات أو منافٍ.

ثم إن إقدام كاتب في المنفى على كتابة سيرته، أمر لا يشكّل حدثاً غريباً في ذاته، بل يظلّ القراء ينتظرون من الكاتب المهاجر أو المنفي أن يعلن عن ذاته أو يروي قصته، إما عبر الأجناس (السير الذاتية) أو عبر إقحامها في أعماله التخييلية، فهو عادةً لا يصمد أمام تلك الحاجة إلى كتابة الذات أو البحث عنها عبر الكتابة، كذلك فعل إدوارد سعيد وسلمان رشدي وألبرتو مانغويل، وساراماغو وغيرهم.

غير أن الروائي الكردي السوري، حليم يوسف، المقيم في منفاه الألماني، يرى أن هذه الكتابة السيرية ما زالت قليلةً في عالم الكتابة الكردية، ويقول في حوار أجراه معه الكاتب جوان تتر، إن عنده "مأخذاً على الأدب المكتوب بالكردية، وهو الغياب شبه التام لروايات السيرة الذاتية التي تحتل مكانةً لافتةً في آداب اللغات الأخرى وخاصةً الأوروبية منها".

  في هذه السيرة هي أننا كلنا عنصريون بالضرورة لكننا ننكر ذلك ونكابر.

يقول هيثم حسين في مفتتح كتابه: "لا أبالغ إن قلت بأن كل واحد منا يخفي في داخله جوانب عنصرية، أو يتكتّم على شخصيات عنصرية متصارعة في أعماقه، بحيث يكون الجانب الوحشي غير المفلتر منّا مشتملاً على نقائض يمكن تأثيم أي كان، قريب أو بعيد، بناءً عليها أو انطلاقاً منها" 

والحق أن الكتّاب الأكراد الذين يكتبون بالعربية جرّب بعضهم كتابة الذات عبر أشكال مختلفة، ولعل أشهرها ما قدّمه سليم بركات الذي كتب أجزاء من سيرته في لبنان وقبرص عبر كتابَيه "سيرة الطفولة" و"سيرة الصبا"، ويوميات "كنيسة المحارب"،

وجرّب جان دوست، كتابة اليوميات في منفاه الألماني واستغل تجربة الكورونا سنة 2020، ليقتحم ذلك النوع الصريح، فتوغل في سيرته الماضية عبر تأملاته في الحاضر وضمن هذا الحراك الكتابي السيَري يأتي كتاب "العنصري في غربته" للكردي السوري المقيم في لندن هيثم حسين، ليضيف إلى هذه المدوّنة الكردية نصاً جديداً من شأنه أن يوسّع من آفاق مشروع كتابة الذات الكردية عبر الأجناس "السير الذاتية" الصريحة والمخاتلة.

كتابة الذات بلغة الآخر

يمكننا إقحام ما يكتبه الكتّاب الأكراد في السيرة الذاتية بالعربية ضمن خانة "كتابة الذات بلغة الآخر"، ولغة الآخر هنا هي اللغة العربية، وبرغم الحساسيات التي يطرحها موضوع عدّ العربية "لغة آخر" لأسباب قومية وسياسية، فإن هذه حقيقة لا يمكن تجاهلها إذا ما تعاملنا مع الظاهرة بعقلانية صرفة، حيث اللغة العربية هي لغة المهيمن السياسي والأيديولوجي والديني والثقافي الذي يسعى إلى محو الآخر والأقلّي داخله عبر دمجه وتذويبه تدريجياً بشكل مرن أو عنيف عبر المحو والتهميش والإنكار.

ومن هنا تأتي صعوبة التحدّث عن الذات والتوغل فيها بلغة الآخر؛ فيدخل الكاتب في تحديات بلاغية ولغوية تفقد تلك العلاقة الأصيلة للكاتب باللغة، وهو يتحدث عن حميمياته وذاته. فالكاتب الكردي كما الأمازيغي عاش تاريخاً من القمع اللساني تحدث عنه محمد شكري في المغرب، وسليم بركات، وتنتج عنه مشكلات كثيرة في التعامل مع اللغة الحاضنة وينعكس ذلك جلياً في ما حصل مع سليم بركات الذي توغل تدريجياً نحو العجمة، بسبب رهاناته اللغوية التي تحوّلت إلى تحدٍّ للمؤسسة اللغوية العربية من داخلها عبر الكتابة بالحوشي والمهمل منها، ليقف المتلقي العربي والناقد حائرين أمامها فهي من ناحية مكتوبة بالعربية ومن ناحية أخرى ملغزة وصعبة. بل دفع بالبعض الآخر إلى عدّها منفى كما مالك حداد، الذي قال بعد قرار اعتزاله الكتابة: "اللغة الفرنسية منفاي ولذا قررت أن أصمت".

إتقان لغة الآخر لا يعني أننا أصبحنا قادرين على التعبير عن ذواتنا عبرها بكل سهولة، فهناك شيء ما يحول بيننا وبين التمظهر بشكل صريح بلغة الآخر، حتى لو كانت لغته هي اللغة الوحيدة التي نتقنها، فنحن في تلك الحالة منفيون في لغة الآخر الذي لا يعترف بنا كجزء أصيل منه بل يتعامل معنا كأصحاب جنسيات، والجنسية اعتراف حقوقي مدني.

وظلّ الكتّاب الوافدون على البلدان الأخرى والثقافات الأخرى يعيشون متقوقعين داخل ذواتهم برغم كتابتهم بلغة الأرض التي هم عليها، فظل كونديرا تشيكياً يكتب بالفرنسية وتودوروف بلغارياً وأيضاً يكتب بالفرنسية، وظل كافكا تشيكياً يكتب بالألمانية، ونابوكوف روسياً يكتب بالإنكليزية، والطاهر بن جلون مغربياً يكتب بالفرنسية، وظل محمد شكري ريفياً-أمازيغياً يكتب بالعربية، وكذلك محمد خير الدين مغربياً وأمازيغياً يكتب بالفرنسية، ومثلهم ظل سليم بركات وجان دوست وهيثم حسين ومها حسن وغيرهم أكراداً يكتبون بالعربية.

الذات الكاتبة أو المتكلمة بمجرد أن تعلن هويتها المختلفة عرقياً على وجه خاص، فإنها تصبح محل شبهة وريبة ومرمى تمييز، ينحرفان بحركة التلقي من تلقّي متن الكتاب إلى مراقبة لغة الكاتب أو المتحدث. ولعل الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، قد تعمق في هذا الموضوع كثيراً في كتبه، خاصةً كتابه "لن تتكلم لغتي". وإذا صدّقنا ما أورده في كتابه عبر القصص والأمثال من أن "تعلم اللسان الأجنبي يكون على حساب اللسان الأًصلي"، فإن كتابة الذات بلغة الآخر تدخل مأزقاً أشدّ لأن جزءاً كبيراً من ذواتنا يرقد في لساننا الأصلي، ولا يغادره، فإذا فقدناه فُقد معه ذلك الجزء من ذواتنا.

السيرة الذاتية الأطروحة

كما كل الأجناس الأدبية، عرف فن السيرة الذاتية الكثير من الأشكال عبر اجتهادات المبدعين في الخروج به من قوالبه الكلاسيكية، والتي صارت مثل الكليشيهات المعادة. فالسيرة الذاتية كما نظّر لها كبار المنظرين وأولهم الفرنسي فيليب لوجون، ليست سوى "المحكي الاسترجاعي النثري الذي يقوم به شخص واقعي لوجوده الخاص عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة" .

لم يلتزم الروائي الكردي السوري بهذا الشكل المتعارف لكتابة السيرة الذاتية التي تجعل من الذات الكاتبة مركز الاهتمام، بل جعل من تيمة العنصرية مركز الاهتمام وانهمام الذات.

وهي بذلك تنتزع أحقية وصفها بالسيرة الذاتية التجريبية التي تختبر فن الأوتوبيوغرافيا عبر مركزية التيمة، حتى أننا يمكن أن نجترح لها اسماً تقفيةً على عبارة الرواية الأطروحة بالسيرة الأطروحة.

وأطروحة هيثم حسين في هذه السيرة هي أننا كلنا عنصريون بالضرورة لكننا ننكر ذلك ونكابر.

 اللغة العربية هي لغة المهيمن السياسي والأيديولوجي والديني والثقافي الذي يسعى إلى محو الآخر والأقلّي داخله عبر دمجه وتذويبه تدريجياً بشكل مرن أو عنيف عبر المحو والتهميش والإنكار.

يقول في مفتتح كتابه: "لا أبالغ إن قلت بأن كل واحد منا يخفي في داخله جوانب عنصرية، أو يتكتّم على شخصيات عنصرية متصارعة في أعماقه، بحيث يكون الجانب الوحشي غير المفلتر منّا مشتملاً على نقائض يمكن تأثيم أي كان، قريب أو بعيد، بناءً عليها أو انطلاقاً منها" .

لا تتخلى السيرة الذاتية عن مبدأ التعرّي أمام المرآة، وفكرة الاعتراف منذ اعترافات القديس أوغسطين إلى اليوم مروراً بكل كتّاب السيرة الذاتية مع اختلاف أهدافهم من ذلك التعرّي وتلك الاعترافات، لكنها ظلت محصورةً في ما يُعرف بالثلاثي المحرّم: الجنس والدين والسياسة، وتهيمن كل تيمة على كل منجز حسب انتماءات الكاتب العرقية والسياسية والدينية. يطرق هيثم حسين موضوعاً قديماً وأزلياً ما زال يراكم ألواناً منه كل يوم، وهو العنصرية، وخلافاً لتوقعات التلقي في أن يشتكي الكاتب المنفي من عنصرية الآخر في منفاه، يعكس الفكرة ليوجه المرآة إلى ذاته ويتوغّل فيها ليوجّه إليها الاتهام ذاته بأنّها بدورها عنصرية، وينعكس ذلك منذ العنوان، فالعنصري ليس مالكاً لأرضه ولا يقاوم الآخر الوافد والأقلي، بل هو يعيش الغربة.

تبدأ الفكرة الأطروحة في التشكل تدريجياً عبر فصول الكتاب لنفهم شيئاً فشيئاً تلك العلامة "الأجناسية" المخاتلة التي وضعها الكاتب على الغلاف "سيرةً"، فهذه السيرة التي ترجمناها في البداية كعلامة غير دقيقة، مقصدها السيرة الذاتية، تستعيد معناها الحقيقي باعتبارها سيرةً غيريةً لنكون أمام سيرة الإنسان في كل مكان باعتباره عنصرياً ولا تستثني السيرة ذات الكاتب. ومن هنا تتعالق السيرة الذاتية بفن السيرة الغيرية لنصبح أمام هذه الأطروحة الفلسفية للإنسان باعتباره كائناً عنصرياً.

يكتب هيثم حسين: "أوقن أنّ العنصرية عابرة للأعراق والقوميات واللغات والأشكال والألوان، وكأنّي بها تكاد تكون حقيقةً عابرةً للأزمنة والأمكنة، حيث تحفر لها وجوداً متجدّداً، وكأنها لعنة من لعنات الوجود البشري نفسه" .

هكذا يؤسس هيثم حسين في كتابه ما يشبه الكوجيتو الجديد: "أنا عنصري إذاً أنا موجود". فالعنصرية صارت تعبيراً من تعبيرات إعلان الذات لوجودها، ويعطي مثالاً على ذلك في الفصل الثاني من الكتاب "بطاقة حمراء"، عندما يروي ممارسة رجل أسود عنصريةً تجاه رجل أبيض جاء ليساند السود في اليوم الوطني لمناهضة العنصرية ضد السود. كانت ذريعة الأسود أن الأبيض نبّهه إلى أنه ركن سيارته في المكان الخطأ. يحاول هيثم حسين أن يحلّل ردة فعل الأسود فيكتب: "لعل الرجل الأسود شعر بالعنصرية من قبل النحيل الأشقر، حين نبّهه بشأن سيارته، ولعله لخّص فيه تاريخ العنصرية التي مورست من قبل البيض على أبناء جنسه تاريخياً، فأراد أن يبالغ في ردة فعله عليه، ويريه أن ارتداء كنزة حمراء مع إظهار بعض التعاطف لا يجديان، ولن يكون قادراً على تصحيح أخطاء الماضي أو غفرانها والتسامح بشأنها..." .

هذه الحكاية التي يرويها هيثم حسين، تطرح قضيةً أكثر تعقيداً في مسألة العنصرية وأزمة الإنسان المعاصر في التعاطي معه وسبل الخلاص منها. فالمبادئ الإنسانية وما يُعرف بحقوق الإنسان ومؤسساتها وجمعياتها وأنشطتها وتظاهراتها لا يمكن أن تمحو الواقعة العنصرية بل لعلها تذكّر بها لتذكيها أحياناً. ومن ثم فالغفران مسألة مشكوك فيها وفي جدواها وإن أُعلنت.

وهنا يمكننا أن ننعطف على الجنس الأدبي نفسه، لنسائله: هل السير الذاتية التي نشأت في ما يسمى بالاعترافات كافية لتصديق أصحابها بأنهم كتبوها بحثاً عن الغفران؟ ألم ينحرف جنس الاعترافات ليصبح جنس الاستعراضات عندما انقلبت القيم وصار اللا أخلاقي هو المميّز؟ ألم ترتدّ بعض الشعوب التي عُرفت بتسامحها ونضالها ضد العنصرية وتحوّلت إلى شعوب عنصرية حتى على بعضها البعض، وصارت اليوم تطرد اللاجئين من مدنها وترميهم في الصحراء ليموتوا عطشاً وجوعاً مثل المثال التونسي اليوم مع أفارقة جنوب الصحراء؟

يجيب هيثم حسين في كتابه، بأن ضحية العنصرية تحوّل اليوم إلى جلاّد لأبناء ملّته وجنسه عندما يروي قصة الشرطي الأسود. ويسمّيها الكاتب بـ"عنصرية الانسلاخ". يقول: "يبالغ ذاك الشرطي بالعدوانية تجاه أبناء بلدانهم الأصلية، يحاولون التنكر لتلك الخلفيات التي يعدّونها عاراً لا ينفك يلاحقهم، ويلقي بظلاله المعتمة عليهم، ويشوّش عليهم حياتهم التي يحاولون المضي فيها بعيداً عن مستنقعات الماضي التي تطاردهم... وهو في أثناء محاولته التأكيد على هويته الجديدة كشرطي يحمي قوانين هذا البلد، ويسهر على تطبيقها، يكافح ليثبت لزملائه أنه مختلف عن أولئك الذين يتسببون بالمشاكل ويثيرونها هنا وهناك من أبناء قومه، وأنه يتعامل معهم باحتقار لأنهم يضعونه في موقف مخز، ويبقونه موضع تشكيك دائم من قبلهم" .

يراوح هيثم حسين بين إدانة ضحايا العنصرية، من خلال ردود أفعالهم تجاه الآخر والذات نتيجة وطأة التاريخ العنصري وبين استمرارية السلوك العنصري للآخر والتي تبدو مقنعةً وغير معلنة، فالأنظمة نفسها التي تحمي اللاجئين والفارين من الممارسات العنصرية ومن الحروب والملاحقات هي نفسها في مراكز اللجوء تمارس سلوكيات عنصرية ميكروفيزيائية.

ويروي حادثةً شخصيةً تبدو بسيطةً ليفككها بعد ذلك في ظل هذه الأطروحة الكبرى "العنصرية "، وتروي القصة استنجاده أحياناً بالشرطة للتدخل لتوقيف الإزعاج الذي يحدثه الجيران وكيف تجاهلته الشرطة ممثلةً السلطةَ ولم تأتِ أبداً إلى الحي، وأمام استغرابه من هذا السلوك الغريب، حيث تهرع السلطة لنداء أي مواطن إذا ما اشتكى من الأمر نفسه في أحياء أخرى، فيجيبه صديقه ألبيرت: "هل تعلم لو أن مثل هذا السلوك صدر عن أحد الجيران في منطقتنا لاجتمعت دوريات الشرطة في المدينة لتحاصر الضجيج، وتعاقب الجناة؟". فالشرطة "تتصرف بناءً على المنطقة، وهي تعلم أن بنايتكم من البنايات التابعة للبلدية، والتي يسكنها اللاجئون أو من تعينهم البلدية، لذلك فهي ضمن دائرة التجاهل ولا تستحق أن تهدر أي موارد أو تضيع أي وقت بحل مشاكل اللاجئين والغرباء في منطقة تقع عندهم تحت بند اللامبالاة، أو مصنّفة على لائحة التطنيش" .

يسير هيثم حسين تدريجياً في أطروحته، ليقبض على اللحظة العنصرية الكردية حتى بين الأكراد أنفسهم، وليثبت أصل أطروحته "كلنا عنصريون"، عندما يروي قصة ما حصل بين الأكراد إثر زواج كردية من رجل أسود. وكيف "حول بعض العنصريين المسألة إلى قضية حياة أو موت، إلى مشكلة تاريخية تهدد مصير الأكراد في راهنهم ومستقبلهم، وتسمم العرق الذي يتباهون به وبنقائه وتمايزه" .

وبيّن هيثم حسين المفارقة التي يبديها الأكراد المتباهين بنقاء عرقهم بين اختلاط الفتيات الكرديات بالأعراق الأخرى واختلاط الشباب الكردي بالأجناس الأخرى، ففي حين يعتبرون ارتباط فتاة كردية بأجنبي عاراً، يتهتبرون زواج أو مصاحبة الشباب الأكراد لفتيات من ذوي البشرة السوداء "فتوحات الكردي الجنسية في مهاجره"، وهنا نصبح أمام قضية عنصرية وتمييز داخل المجتمع الكردي نفسه والذي تعيشه المجتمعات العربية نفسها.

يقلب هيثم حسين في كتابة العنصرية على كل وجوهها القومية والدينية والجهوية والعنصرية العابرة للهويات والعنصرية الملتفة والموجهة إلى ذاتها، وينقب عليها في عالم المهاجرين واللاجئين باعتبارهم خلاصة الإنسانية ليكشف أيضاً أن الضحايا هم أيضاً عنصريون ومدانون وأن "اللاجئون هم الآخرون... هم الجحيم"، بالنسبة إلى الآخر أيضاً ليطاردهم في كل مكان بعد أن استقبلهم أو تسربوا إليه.

الذات الكاتبة أو المتكلمة بمجرد أن تعلن هويتها المختلفة عرقياً على وجه خاص، فإنها تصبح محل شبهة وريبة ومرمى تمييز، ينحرفان بحركة التلقي من تلقّي متن الكتاب إلى مراقبة لغة الكاتب أو المتحدث

ليتنقل الكاتب بين عقول اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا وأوروبا كاشفاً واقع الإنسانية السوريالي الذي يقول الشيء ونقيضه، ليعبر إلى جنسيات أخرى شرقية وغربية مؤكّداً البعد الكوني للعنصرية باعتبارها مرضاً أصيلاً في الكائن البشري مهما أنكره وهي المرض الحميمي الذي يعيش به ويموت به ويورّثه للأجيال.

كما يربط هيثم حسين بين العنصرية وتمظهراتها اللغوية وعلاقتها بسلطات الاستبداد والديكتاتوريات التي تذكيها فهي شكل من أشكال تمظهرات العنف والعنف المضاد؛ الوجه المظلم للإنسانية. ويحاول حسين تفكيك هذا العنف من خلال الإشارة إلى شموليته باعتباره الشيء الأكثر توزيعاً بالعدل بين الناس فالكل يعنّف الكل.

إن جرأة هذا الكتاب تتجلى في أنه يطرح أسئلةً مصيريةً على الكائن البشري اليوم ويرفع ورقة التوت عنه ويعمم الإدانة كاشفاً زيف القيم الإنسانية التي صارت جزءاً من تجارة العالم، وهذا النوع من الكتابة ما درج على تسميته بما بعد الحداثة التي لا تكتفي بتحطيم المقدسات بل تذروها في العالم وتقلب الطاولة على الراوي نفسه باعتباره ليس محل ثقة.

ليقلب هذا الكتاب الطاولة على أبجديات الجنس الأدبي نفسه فيقول الذات عبر الآخرين قبل أن ينعطف عليها في الآخر ويذكر بتمها واستعدادها الحميم للتلاشي عبر الموت؛ الغربة والمنفى. ذلك المنفى الآخر أيضاً الذي تعيشه السيرة الذاتية في المقال حيث تحللت السيرة الذاتية في هذا الكتاب في ما يشبه المقالات، وهي نبوءة قديمة كانت تتردد ومفادها أن الرواية ستتحلل في "المحاولة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image