شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لماذا أريد ترك منزل أمي وأبي؟

لماذا أريد ترك منزل أمي وأبي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات الشخصية

الأربعاء 13 سبتمبر 202311:59 ص


أخبرتني الطبيبة النفسية أن شخصيتي حسّاسة زيادة، ولكن لم أكن أتخيل أن هذا الإحساس الزائد يصل حدّ الرعب لمجرّد كلمات تفوه بها أخي، بنبرة صوت عالية وغاضبة، مهدّدة بكسر رجلي، والسبب شعور انتاب أمي بأنني أريد ترك المنزل وأستقل بشقة صغيرة تخصّني وحدي، وعلى الرغم من أنها الحقيقة بل وهذا قرار، إلا أنني كنت أخبر أي شخص به ولا أخبر دائرتي الصغيرة، أسرتي الحبيبة. كيف أخبرهم وأنا أعلم جيداً الرفض والسخرية من قراراتي وكلماتي، بل ومن كتبي وكتابتي ومجال دراستي وحريتي التي تعلقت بها؟

آثرت ألّا أحمّل نفسي طاقة الرفض، حين أكون قادرة مادياً ونفسياً على تحمّل الاستقلال، أفعلها برضاهم أو بدونه، فجملة أخي التي قالها بعلو صوته لأمي: "دا أنا أكسرلك رجليها لو فكرت تعمل كدا"، لا تُنبئ بنقاش محتمل، بل ورأي أمي أيضاً يخبر بأن لا أحد سيكون بجانبي في جدال كهذا، فهي من "فنجلت" عينيها وشدّدت على أن "البنت اللي تسيب بيت أهلها وتعيش لوحدها بنت فاجر". كرّرت لفظ فاجر أكثر من مرة، حتى يمكنني سماع صوتها وأنا بمفردي، دون عناء التذكّر. كم كان لكلماتهم دوي صاخب في ذاكرتي.

ألم يخطر ببالهم أن باستطاعتي فعل كل ما لا يشاءون وأنا بنفس المنزل معهم، في حين يمكنني فرض قيودي بنفسي على نفسي حين أكون بمفردي، لا يراني سوى الله؟!

 "فنجلت" أمي عينيها وشدّدت على أن "البنت اللي تسيب بيت أهلها وتعيش لوحدها بنت فاجر". كرّرت لفظ فاجر أكثر من مرة، حتى يمكنني سماع صوتها وأنا بمفردي، دون عناء التذكّر. كم كان لكلماتهم دوي صاخب في ذاكرتي

السؤال الأهم الذي صمّمت أن أسأله لنفسي، قبل أن يسألني أياه مخلوق لا يشعر بمعاناة من مثلي: لماذا أريد الاستقلال؟ لماذا أريد ترك منزل يأويني ويحميني من نظرات مجتمع لا يتسامح، بل مجتمع يطلق أحكاماً كأحكام أمي، بأن الفتاة الوحيدة "فاجر" والمرأة الممسكة للسيجارة "ست مش كويسة"؟ لماذا أترك منزلاً يتوفر به من يدفع مصاريف طعامي وشرابي، ومصاريف كهرباء أستطيع بسببها شحن جهاز اللابتوب لأكتب هذه الكلمات، ونور يظل مشتعلاً، ومياه وغيره؟

وضع أبي نظاماً في البيت، قوامه أن "بعد تخرجكم من الجامعة لا أعطي مصروفاً لأحدكم". لن أبخس حقه، فالرجل في كل عمل جديد كان يعطيني مصاريف مواصلاتي وأكلي، وأحياناً لا يكفي ما يعطيه، ولكن لا عتاب عليه من ناحية الماديات: العتاب من ناحية المشاعر.

تعلمت في سن صغير الاعتماد على نفسي، وأن أعمل في أماكن وأعمال لا أفهمها ولكن أتعلمها، من بائعة في مكتبة مستلزمات أدوات دراسية، لسكرتيرة، لممسكة بفرشاة ألون التماثيل في ورشة تعلمت فيها أن صنع كوب شاي (خمسينة) هو طريقة مثلى للهروب من الجلوس على كرسي خشبي عدة ساعات، وغيرها وغيرها من الأعمال الروتينية التي لا تمت لسارة الكاتبة بشيء.

أعوام قضيتها لا أجلب مالاً يرضي ولا راحة لجسدي. فقط أعمل لكي يكون بجيبي المصاريف التي قطعها أبي عني، أو إن أعطاها لا تكفي، فأنا من أشتري لنفسي ملابسي وأدفع مصاريف مواصلاتي و أطعم نفسي. أحياناً كنت أقضي معظم النهار بالشارع، بين عمل ودراسة أو عمل وذهاب للمسرح بعده، كي أرضي سارة الأخرى التي تريد أن تكتب من حين لآخر، وأضف لهذه المصاريف، شراء سجائري، دون الشكوى من ارتفاع أسعارها.

تواجدي بأماكن عمل روتينية لا أخجل من ذكرها كاد يقتل الأديبة التي تحتاج الكثير والكثير من العمل على نفسها وعلى أسلوب كتابتها، ولكنه علمني أهمية المال الذي كنت أكرهه بشدة في سنوات مراهقتي، علّمني أن أصرف ما بجيبي بتأن، كيلا يتكرّر موقف المترو، ففي يوم وأنا عائدة من الجامعة، بعدما أشبعت بطني بساندويتش بطاطس سوري، فوجئت بأن ما تبقى بجيبي لا يكفي تذكرة المترو، ووقفت وحيدة، خجولة من العاملين بالمحطة، طالبة أن أمر دون الدفع.

موقف كان يجب حفره في عمق ذاكرتي كي لا أخطئ وأصرف كل ما بجيبي على أشياء يمكن تأجيلها، حتى وإن كانت الطعام، ولكني تعلمت أيضاً ألّا أحرم تلك النفس الذائقة للتعب كي تنال مرتباً، فلا داعي للحرص الزائد أمام كوز ذرة أو علبة كسكسي.

دعني أخبرك أسبابي التي توصلت إليها للإجابة على سؤال: "لماذا أريد الاستقلال وترك منزل أمي وأبي؟"، ولكن قبل الإجابة دعني أذكّرك أن الأشياء البسيطة بالنسبة لك هي كبيرة بالنسبة لي، ألم أخبرك في البداية أنني حساسة زيادة؟

أول أسبابي هو عدم شعوري بالانتماء، لا للمكان كبيت ولا للأشخاص، مهما أحببتهم لا أستطيع تجاهل كم يؤذونني وكم أؤذيهم، تخيل كم المعاناة لأشرح كلمة خصوصية و أنني أريد غلق باب غرفتي على نفسي؟ لن تستطيع التخيل، فلم أخبرك كم الصراخ والغضب، لم أخبرك كيف يستفز أخي الطفلة التي بداخلي ويفتح الباب دون طرق، وبعدها يترك الباب مفتوحاً، حينها ينطلق جدال ينتهي بتدخّل أمي وأبي، ولا أجد من يقف بصفي، بل يعطونه الحق كاملاً، ويعطونني هذا السؤال الكريه: لماذا تغلقينه؟

يتكرّر السؤال والاستفزاز والغضب، لأطلق في وجههم كلمات جريئة أو شجاعة صفها كما تشاء، أخبرهم فيها بما يمكن أن أفعله خلف بابي المغلق: أريد الرقص، أريد البكاء واللطم والانهيار دون أن يراني أحد، أريد مشاهدة أفلام إباحية، لماذا أعيش خوف فتح باب الغرفة وفتح باب قلبي لأب كاهن في جلسة اعتراف بكنيسة.

دعك من هذا، أليس من حقي الجلوس بملابس مريحة دون انتظار الانتقال لمنزل زوج، ففي عائلتي ومجتمعي تخرج الفتاة من منزل أبيها لمنزل زوجها، أين ومتى يكون لها منزلها؟!

أليس من حقي الجلوس بملابس مريحة دون انتظار الانتقال لمنزل زوج؟ أليس من حقي أن أقرّر متى أنظف منزلي، ومتى أتناول وجباتي، دون أن تكون معدتي مضبوطة على مزاج من بالمنزل؟ أليس من حقي أن أرغب في السهر دون الارتياب من كلمات اللوم والعتاب: "سهرانة ليه وبتعملي إيه؟"

أليس من حقي أن أقرّر متى أنظف منزلي، ومتى أتناول وجباتي، دون أن تكون معدتي مضبوطة على مزاج من بالمنزل؟ أليس من حقي أن أرغب في السهر دون الارتياب من كلمات اللوم والعتاب: "سهرانة ليه وبتعملي إيه؟".

لن أحرمك من تعديد الأسباب ولن أحرم نفسي من متعة الفضفضة والصراخ بالكتابة، اكتشفت أن شخصيتي فيها مشكلة صغيرة، وهي أنني لا أعرف كيف أطلب ما يمكنني فعله دون طلب، لماذا أطلب إذناً بفتح باب الشقة وإعلامكم بكل خطوة أخطيها خارجها؟ كيف وأنا نفسي أحياناً أغيّر الخطط، وأترك العنان لقدمي تكتشف طرق ومتعة السير دون معرفة الوجهة.

أرغب بإشعال سيجارتي وأنا أكتب، أو وقتما أشاء، دون انتظار نومهم أو غيابهم كسارقة، أرغب باكتشاف نفسي، بل حتى أرغب بطهو المكرونة بالصوص الأبيض دون النظر إلى أنني الوحيدة بالمنزل التي تحبها، حتى في أبسط الأشياء ينقسم منزلنا لواحد وثلاث، لا أعلم متى سيرون هذه الحقيقة، فجميع ردودهم تقول بأنني مخطئة، وأنه لا يمكن أن أكون وحدي على صواب في حين هم الثلاثة مخطئون!

لا أرغب بأن أكون العنصر المفسد لصفائهم ولحنيتهم، لا أرغب أن أكون سارة السيئة العصبية على الدوام، أريد إنقاذي وإنقاذهم مني، أريد تغييري رغم صراخي المتكرّر: اقبلوني كما أنا، والحقيقة هي أن اقبلوا ما صنعتموه، وما تركتوني أصنعه بنفسي لنفسي، فلم أكتف بأخطائكم غير المقصودة، وذهبت لأبحث عن أحضان فاسدة وأشخاص حاولوا تلويث برائتي، ولكني رغم كل ذلك أقسمت على قلبي ألا يشرب من وحل.

كان العَدْو حلاً لطيفاً ولكني أرغب بالسير هذه المرة ممسكة بمفتاح شقتي . 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard