شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لم يرضع في رمضان وخرج بيبرس للقائه… سيَر صوفية بنكهة أسطورية

لم يرضع في رمضان وخرج بيبرس للقائه… سيَر صوفية بنكهة أسطورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

السبت 16 سبتمبر 202302:08 م

عملت الطرق الصوفية في الإسلام على بناء شكل تنظيمي تراتبي خاص بها، وظهرت مجموعة من المصطلحات الخاصة بالمتصوفة، والتي صار لكل منها دلالة على سمات معينة وقدرات محددة في البنيان الهرمي للتصوف. من أهم تلك المصطلحات كلّ من: الأقطاب، والغوث، والأبدال، والأوتاد، والنجباء، والنقباء. يًطلق على مجموع تلك المصطلحات، اسم رجال الغيب.

عرّف الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي (المتوفى 638هـ) "القطبَ" في كتابه "المنزل القطب ومقاله وحاله" بقوله: "مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق، عليه مدار العالم، له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق، بالخير والشر على حد واحد، لا يترجح واحد على صاحبه، وهو عنده لا خير ولا شر، ولكن وجود ويظهر كونها خيراً وشراً في المحل القابل بحكم الوضع وبالعرض والعقل عند بعض العقلاء". يمكن القول إن القطب هو أعظم الأولياء مرتبةً ومكانةً عند الصوفية، وأن بقية المراتب تأتي من بعده.

عملت الطرق الصوفية في الإسلام على بناء شكل تنظيمي تراتبي خاص بها، وظهرت مجموعة من المصطلحات الخاصة بالمتصوفة، والتي صار لكل منها دلالة على سمات معينة وقدرات محددة في البنيان الهرمي للتصوف

تفرع عن مصطلح القطب مصطلح آخر شهير، وهو "الأقطاب الأربعة". ظهر هذا المصطلح في توقيت غير محدد في أواخر العصر المملوكي في القرن العاشر الهجري. وقُصد به الإشارة إلى أربعة من كبار الأولياء المتصوفة عند أهل السنة والجماعة، وهم عبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي، وأحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي.

نُسجت الكثير من الحكايات والقصص الخرافية حول الأربعة، ومنحتهم الذاكرة الصوفية الشعبية دوراً مهماً في خلق الكون وتصريف أموره؛ الأمر الذي يتشابه مع مفهوم الولاية التكوينية عند أئمة الشيعة الاثنى عشرية. تجدر الإشارة إلى أن مصطلح الأقطاب الأربعة اشتُهر داخل الصوفية الطرقيّة على وجه التحديد، ولذلك لم يشمل أي من الأولياء الصوفية المشهورين الذين ذاع صيتهم عبر القرون، من أمثال الجنيد، والحلاج، وابن عربي، وجلال الدين الرومي.

الجيلاني: صحب الخضر، وصام عند ولادته!

هو عبد القادر بن موسى بن عبد الله، المشهور بعبد القادر الجيلاني، حنبلي المذهب. ولد في عام 470هـ بمدينة جيلان في إيران، وتوفي في عام 561هـ بمدينة بغداد في العراق، وتُنسب له الطريقة القادرية.

مدحه العديد من علماء السنة. وصفه ابن تيمية الحراني (المتوفى 728هـ) في "مجموع الفتاوى"، بأنه "من أعظم مشائخ زمانهم أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية".

كذلك تحدث عنه شمس الدين الذهبي (المتوفى 748هـ) في كتابه "سيَر أعلام النبلاء" فذكر أنه "إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح دين خير، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة". أما ابن كثير (المتوفى 774هـ) فقد ذكر شيئاً من ترجمته في كتابه "البداية والنهاية"، فقال عنه: "فيه زهد كبير، وله أحوال صالحة ومكاشفات... كان من سادات المشايخ الكبار".

اشتهر مصطلح الأقطاب الأربعة داخل الصوفية الطرقيّة على وجه التحديد، ولذلك لم يشمل أي من الأولياء الصوفية المشهورين الذين ذاع صيتهم عبر القرون.

ظهر التناول الصوفي -الأسطوري- للجيلاني في العديد من المصادر الصوفية، منها كتاب "الطبقات الكبرى" لعبد الوهاب الشعراني (المتوفى 973هـ). يفتتح الشعراني الحديث عن الجيلاني بذكر المعجزة التي رويت على لسان أم الجيلاني، والتي جاء فيها "لمّا وضعت ولدي عبد القادر كان لا يرضع ثديه في نهار رمضان ولقد غم على الناس هلال رمضان، فأتوني وسألوني عنه فقلت لهم إنه لم يلتقم اليوم له ثدياً، ثم اتضح أن ذلك اليوم كان من رمضان واشتهر ببلدنا في ذلك الوقت، أنه ولد للأشراف ولد لا يرضع في نهار رمضان".

يذكر الشعراني أن الجيلاني قد قضى فترة طويلة في صحراء العراق، ويؤكد على أن القطب الأول لم يعرف رفيقاً له في تلك الفترة إلا الخضر -وهو نفسه العبد الصالح الذي وردت أخبار قصته مع النبي موسى في سورة الكهف وتدور عنه كثير من القصص والأساطير في التراث الإسلامي والصوفي-. ينقل الشعراني هنا على لسان الجيلاني قوله: "ورافقني الخضر عليه السلام في أول دخولي العراق، وما كنت عرفته وشرط ألا أخالفه، وقال لي اقعدْ هنا. فجلست في الوضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين، يأتيني كل سنة مرة، ويقول لي مكانك حتى آتيك!". يذكر الشعراني الكثير من الأخبار المؤكدة على سعة علم الجيلاني. من ذلك قوله: "كانت فتواه -أي الجيلاني- تُعرض على العلماء بالعراق، فتعجبهم أشد الإعجاب، فيقولون سبحان من أنعم عليه".

كما يذكر الشعراني أن بعض العلماء الكبار قد حضروا مجلس علم الجيلاني يوماً ما "فأطربهم سماع هذا الكلام، ودهشوا من حسن إفصاحه... ومزق جماعة ثيابَهم وخرجوا عرايا إلى الصحراء". تظهر المبالغة واضحة في تلك الأوصاف؛ الأمر الذي يبيّن مكانة عبد القادر الجيلاني في الوجدان الصوفي الجمعي.

الرفاعي: الزاهد الذي عطف على الحيوانات والأفاعي!

هو أحمد بن علي الرفاعي، الشافعي المذهب. ولد في مدينة البصرة في العراق في عام 512هـ، وتوفي في عام 578هـ بمدينة بغداد، وتُنسب له الطريقة الرفاعية التي تنتشر في العراق ومصر وبلاد الشام. تحدث الذهبي في كتابه "العبر في خبر من غبر" باختصار عن الرفاعي، فقال: "وكان شافعياً تفقّه قليلاً، على مذهب الشافعي".

ترسم المصادر الصوفية صورة مثالية للرفاعي، ولا سيما في ما يخص تسامحه مع أعدائه ومبغضيه. يسجل الشعراني في كتابه العديدَ من القصص التي تعبر عن ذلك الاتجاه. من ذلك أنه قد "لقيه مرة جماعة من الفقراء فسبوه وقالوا له يا أعور يا دجال يا من يستحل المحرمات، يا من يبدل القرآن يا ملحد يا كلب"، فلم يزد الرفاعي عن كونه قد عاملهم بكل لين ورفق وتواضع، وكشف لهم عن رأسه وقبل الأرض، وقال لهم: "يا أسيادي، اجعلوا عبيدكم في حلّ"، وبالغ في استعطافهم واسترضائهم، حتى قالوا: "ما رأينا قط فقيراً مثلك، تحمل منا هذا كله ولا تتغير".

يروي الشعراني أن الرفاعي كان إذا عرف أن الصوفية يريدون أن يضربوا أحد إخوانهم لزلة وقعت منه. قام باستعارة ثيابه ونام فيها، وضُرب بدلاً منه، حتى إذا ما انتهوا من فعلهم، قال لهم: "ما كان إلا الخير، كسبتمونا الأجر والثواب"!

تروي المصادر الصوفية عشرات القصص التي تؤكد على اهتمام الرفاعي بالمجذومين والمرضى والمكفوفين والعجائز والمساكين والحيوانات. يذكر الشعراني أن الرفاعي كان "إذا نامت على كمه هرة، وجاء وقت الصلاة، يقطع كمه من تحتها ولا يوقظها، فإذا جاء من الصلاة، أخذ كمه وخاطه ببعضه"، وأنه لما وجد ذات مرة كلباً أجربَ أخرجه الناس إلى البرية "خرج معه إلى البرية، وضرب عليه مظلة، وصار يطليه بالدهن ويطعمه ويسقيه ويحت الجرب منه بخرقة، فلما برئ حمل له ماءً مسخناً وغسله"!. تشي كل تلك القصص بقرب الرفاعي من الحيوانات؛ الأمر الذي انعكس في ما بعد على أتباع طريقته، والتي اشتهروا بقدرتهم الفائقة في التعامل مع الحيّات والثعابين!

البدوي: هزم فاطمة بنت بري وخرج بيبرس للقائه!

هو أحمد بن علي بن يحيى البدوي، المشهور بالسيد البدوي، الشافعي المذهب. ولد في مدينة فاس بالمغرب في عام 596هـ، وتوفي في مدينة طنطا بمصر في 675هـ، وتُنسب له الطريقة الأحمدية.

تذكر المصادر الصوفية أن البدوي كان يعيش في مكة المكرمة، ولكنه سمع هاتفاً في يوم من الأيام يأمره بالتحرك إلى مصر. يذكر الشعراني تلك القصة فيقول: "في شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، رأى –أي أحمد البدوي- في منامه ثلاث مرات قائلاً يقول له قمْ واطلبْ مطلع الشمس، فإذا وصلت إلى مطلع الشمس، فأطلب مغرب الشمس، وسِرْ إلى طنطتا –مدينة طنطا- فإن بها مقامك أيها الفتى".

يتحدث الشعراني عن تفاصيل رحلة البدوي إلى مصر. ويذكر أن القطب الثالث قد أظهر شجاعته وبطولته مراراً في الطريق. ينقل الشعراني على لسان شقيق أحمد البدوي أنهما لما فرغا من زيارة أضرحة الأولياء في العراق، وخرجا قاصدين مصر، هجم عليهم الكثير من الرجال "فأومأ سيدي أحمد إليهم بيده فوقعوا أجمعين، فقالوا له: يا أحمد أنت أبو الفتيان، فانكبوا مهزومين راجعين".

تذكر القصص الصوفية الشعبية في مصر تفاصيل اللقاء بين البدوي وفاطمة بنت بري، وهي بحسب ما جاء في وصفها "امرأة لها حال عظيم وجمال بديع، وكانت تسلب الرجال أحوالهم". جاء في السيرة الشعبية للبدوي أن فاطمة بنت بري حاولت أن توقعه في شباكها، ولكنه تمكن من الانتصار عليها "وتابت على يديه أنها لا تتعرض لأحد بعد ذلك اليوم، وتفرقت القبائل الذين كانوا اجتمعوا على بنت بري إلى أماكنهم، وكان يوماً مشهوداً بين الأولياء".

ظهر مصطلح "الأقطاب الأربعة" في أواخر العصر المملوكي في القرن العاشر الهجري. وقُصد به الإشارة إلى أربعة من كبار الأولياء المتصوفة عند أهل السنة والجماعة. وهم عبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي، وأحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي

تتحدث السيرة الأسطورية للقطب الثالث أيضاً عن مكانته العظيمة التي تمتع فيها في مصر. يقول الشعراني: "وكان الملك الظاهر بيبرس، أبو الفتوحات، يعتقد في سيدي أحمد اعتقاداً عظيماً، وكان ينزل لزيارته، ولما قدم من العراق، خرج هو وعسكره من مصر، فتلقوه وأكرموه غاية الإكرام". تظهر المبالغة الواضحة في ما ذكره الشعراني هنا خصوصاً أن الأغلبية الغالبة من المصادر التاريخية لم تتحدث أبداً عن وقوع اللقاء بين بيبرس والبدوي.

الدسوقي: تحدث مع الطيور والوحوش، وبشر السلطان بفتح عكا

هو إبراهيم بن عبد العزيز أبو المجد بن قريش، المشهور بإبراهيم الدسوقي، الشافعي المذهب. ولد في مدينة دسوق بمصر في عام 633هـ، وتوفي بالمدينة نفسها في عام 696هـ، وتُنسب له الطريقة البرهامية أو البرهانية.

جاء في السيرة الشعبية للدسوقي أنه قد خُلق من نور النبي. نُقل عنه في هذا المعنى: "كنت أنا وأولياء الله تعالى أشياخاً في الأزل بين يدي قديم الأزل وبين يدي رسول الله، وإن الله عز وجل خلقني من نور رسول الله". تحدث الشعراني عن سعة علم الدسوقي وغزارة معارفه، فقال: "كان يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الطيور والوحش".

وردت أيضاً بعض الروايات الخرافية التي منحت الدسوقي دوراً في الولاية التكوينية. من ذلك أن النبي قد قال له ذات مرة عندما زاره في المنام: "يا إبراهيم، سِرْ إلى مالك وقل له يغلق النيران، وسِر إلى رضوان وقل له يفتح الجنان، ففعل مالك ما أمر به ورضوان ما أمر".

لُقب الدسوقي في الأوساط الصوفية بأبي العينين. يُقصد بهذا اللقب أن الدسوقي يرى بعين البصر وعين البصيرة، وأنه يرى الكثير من الأمور الخفية التي يعجز باقي الناس عن رؤيتها. تحتفظ المدونات الصوفية بقصتين مشهورتين للدسوقي؛ تحكي القصة الأولى عن المرأة التي وقع منها طفلها في النيل فأكله التمساح. فجاءت إلى الدسوقي باكية، فطمئنها القطب الرابع وأمر التمساح أن يلفظ الطفل. فخرج حياً سليماً أمام عيون الناس المندهشة! تحكي القصة الثانية عن قدوم السلطان الأشرف خليل بن قلاوون للقاء الدسوقي، وكيف أن أبا العينين قد بشر السلطان بفتح عكا وتحريرها من الصليبيين. تحقق هذا الأمر فعلًا بعد عدة سنوات، وصار علامة على كرامة القطب الرابع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image