شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
نظرتان غير إسلاميتين للصوفية

نظرتان غير إسلاميتين للصوفية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 18 مارس 202301:29 م

أذكر بواكير احتكاكي باللغة الإنكليزية في بدايات المرحلة الجامعية، كان بدافع اكتشاف "بوذية الزن"، وقعت على عناوين كتب مترجمة، وجذبتني كتابات الروحاني الهندي أوشو، وصدمت من الترجمة التي كانت تنشرها مريم نور، وهي معاد صياغتها بطريقة أقرب إلى رواية الأحاديث النبوية، حينها قررت أن أقرأ كتاباته من المنبع.

هل كان أوشو روحانياً يكتب بلغة إسلامية صوفية؟

كانت المرة الأولى التي أقرأ فيها بتمعن بالإنكليزية، وكانت المرة الأولى التي أقرأ فيها عبارات روحانية تتحدث عن معنى الوجود، مكتوبة بلغة بدت لي علمانية، محايدة، تتناغم معنا إن كنا مؤمنين أم ملحدين، باحثين عن معنى للحياة، أو ساعين وراء إلهام نقتبسه في كتاباتنا ورواياتنا.

حينها كنت منتمياً للطريقة الشاذلية التي يرأسها علي رافع، وهو دكتور وباحث في الجامعة الأمريكية، وكان يصر، مثل الكثير من الصوفيين على ضرورة الاعتقاد الديني، والالتزام بشكل الإسلام السني، طقوسه وشعائره المفروضة، كشرط للتحقق في التجربة الصوفية، مما منع الروحانية الصوفية من أن تكون عالمية، أسوة بتجارب مثل بوذية الزن واليوغا التي بدأت مرتبطة هي الأخرى بعقائدها، ولكنها سرعان ما تحررت من جانبها التاريخي، وتواءمت مع التواقين إلى الروحانية من غير المؤمنين بأي عقيدة.

في عصر يتسم بـ"السيولة" في المناحي الأخلاقية والتصورية والروحانية أيضاً، يثير فضولي وتساؤلاتي تقبّل الروحانيين غير المسلمين للصوفية، كيف فهموها، وإلى أي مدى اشتبكوا معها كتابة وبحثاً، أو ذوقاً وعرفاناً.

في هذا المقال سأستعرض تجربتين، هما خارج كليشيه الاستشراق عن التصوف، بل بالعكس إن صاحبيهما ناقدان للحالة الاستشراقية، كتابات تحاول فهم تجربة التصوف الإسلامي من المنبع؛ إحداهما لأكاديمي أمريكي زار الجامعة الأمريكية في بيروت، واختلط بصوفيين وتابع كتاباتهم، والأخرى لمعلم روحاني هندي من خلفية ثقافية بوذية، وهيبية معادية للحضارة.

شيتيك: البعد الثالث للإسلام

ويليام سي. شيتيك، بحسب موقعه الرسمي، ولد في ميلفورد، كونيتيكت عام 1943. أكاديمي متخصص في التاريخ في كلية ووستر (أوهايو)، درس التاريخ الإسلامي في الجامعة الأمريكية في بيروت، وحصل على دكتوراه في اللغة الفارسية في جامعة طهران.

ينتقد شيتيك نظرة المسلم المعاصر الحديث إلى الصوفية، باعتبارها تخلفاً ثقافياً أو بقايا خرافات، أو انحرافاً عن الإسلام الحقيقي، ويعلّق: "هذه الآراء تضر بالتعبير عن التجربة الدينية الأصيلة في العالم الإسلامي"

سأعتمد هنا على كتاب Sufism A Beginner’s Guide "دليل الصوفية للمبتدئين". ما يميز هذا الكتاب أنه موجه إلى غير الأكاديميين، ويحاول أن يعيد تقديم الصوفية. يقول: "أدى رواج الكتب التي تتحدث عن الصوفية في السنوات القليلة الماضية إلى زيادة كبيرة في المعلومات، ولكنها ضاعفت في الوقت ذاته من الارتباك".

ينتقد شيتيك نظرة المسلم المعاصر الحديث إلى الصوفية، باعتبارها تخلفاً ثقافياً أو بقايا خرافات، أو انحرافاً عن الإسلام الحقيقي، ويعلّق: "هذه الآراء تضر بالتعبير عن التجربة الدينية الأصيلة في العالم الإسلامي".

"فعل الجميل" البعد الغائب

يرى شيتيك أن الإسلام يمكن فهمه في ثلاثة أبعاد أساسية: الخضوع، الإيمان، عمل الجميل "الإحسان".

يعتمد الباحث على حديث جبريل، الذي سأله فيه ما الإسلام؟ وما الإيمان؟ وما الإحسان؟ ويترجم الإحسان بأنه "فعل ما هو جميل".

أركان الإسلام الخمسة في الحديث، الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج، بحسب الباحث تمثل الخضوع، ولكنها ليست منفصلة عن فعل الجميل "الإحسان".

ويتساءل حول عدم وضوح هذا المعنى، فعل الجميل، في الكتابات الشرعية الإسلامية مقارنة بوضوح العقائد والشرائع، "فلا الفقهاء ولا اللاهوتيين لديهم اهتمام أو قدرة على التعامل مع فعل الجميل".

ما يجعل الصوفي مختلفاً عن الفقهاء واللاهوتيين أنه يختبر حالة الإحسان تلك، إنه يفهم منطق هذا التقسيم الثلاثي للتقاليد الإسلامية.

"البعد الثالث للإسلام هو الشخصية الإنسانية الأصلية (الفطرة) المخلوقة على صورة الله، وتشير إلى طريق الاقتراب من الله".

يعرف شيتيك الشهادة بأنها أول عمل يطلب من المسلمين، وهي تحدد محتوى العقيدة، وعنصرها الرئيسي.

ويرى أن الأبعاد الثلاثة للإسلام هي موجودة دائماً أينما حل المسلمون وارتحلوا، واتخذت أشكالاً تاريخية مختلفة، أثرت فيها فروع الشريعة والمؤسسات الحكومية، والمدارس الفكرية، ولكن استمرت الأبعاد الثلاثة المذكورة في حديث جبريل داخل المجتمع الإسلامي متمايزة نسبياً، ومترابطة تماماً، وظل الإحسان أو فعل الجميل "حرماً داخلياً مصوناً" غير ملموس، وظل التصوف "حضوراً روحانياً غير مرئي، يُنشط جميع التعابير الأصيلة للإسلام".

الجبار والرحيم، الين واليانغ

ويشبه شيشيتك الرحمة والغضب، اللذان هما من أسماء الله وصفاته، بالين واليانغ، الثنائية الكونية اليابانية، ولكن رحمة الله في الإسلام تسبق غضبه، ويربط تلك الثنائية بالأبعاد الثلاثة للإسلام، فبينما تظهر الشريعة عظمة الله، "وخطورته"، يكمن وعده بالرحمة تحت السطح.

وهذا ما تتعلق به التعاليم الصوفية في البعد الثالث للإسلام، الرحمة الإلهية والوداعة والتحلي بالكمال الروحي الذي يسعى إليه الصوفيون، حيث إن الرحمة والمحبة من أسباب الخلق، أو كما قال ابن عربي: "الخلق رحمة".

وعن الموقف الغربي من الإسلام، المنجذب إلى التصوف كحالة روحانية، والنافر منه كعقيدة، يرى أن الصوفية تعرض الدين في بعد الجمال الإلهي والرحمة، يقول: "عندما ينظر الغربيون إلى الإسلام للمرة الأولى، غالباً ما يشعرون بأنفسهم كأنهم انتقلوا إلى صحراء، وعندما ينجذبون إلى الصوفية فإذا بهم يدلفون إلى حدائق مبهجة، مختبئة بين جدران المنازل الإسلامية التقليدية".

بحسب وصف أوشو كان محمد رجلاً متمرداً، اضطر إلى القتال طوال حياته لأن أعداءه كانوا يطاردونه، وضاعت حياته كلها في القتال، كان من الممكن أن يجلب زهوراً أكثر من المجهول، من الله إلى هذا العالم، ولكن لم تسنح الفرصة... نظرتان غير إسلاميتان للتجربة الصوفية

طور الصوفيون، مقارنة بالفقهاء والمتكلمين، علماً للطبيعة البشرية لا نظير له في التراث، وقدمت تعالم لاهوتية أكثر جاذبية من المتكلمين، الذين حاولوا فهم القرآن بمصطلحات عقلانية مستندة إلى التراث الفلسفي اليوناني.

وشدد معلمو الصوفية على الأبعاد الشخصية للعلاقة الإلهية الإنسانية، واعتمدوا على الخيال وليس العقل للوصول إلى مرحلة الكشف.

يرى الباحث أن الصوفية يمكن وصفها باعتبارها الحياة الداخلية للممارسة الحقة، والعقيدة الحقة، ويراها معادية للإسلام الشرعي.

وترى الصوفية أسماء الله الحسنى أنها أجساد للروح الإلهية التي نفخها الله في كل صورة من صوره، ولكن علينا أن نحب الله حباً يتجاوز حبنا لأسمائه ومعانيها.

أوشو: المؤسسة عدو الدين

"حالة نوعية خاصة تنتقل من شخص إلى آخر مثل بوذية الزن، انتقال يتجاوز الكلمات، ويستلزم حضورك الشخصي مع المعلم"، هكذا يعرف الروحاني الهندي أوشو الصوفية.

ويقول في كتاب "الصوفية أهل الطريق" Sufis. The People of the Path, إن الصوفيين "أشخاص بسطاء لا يعرفون إلا الله، ويقبلون كل ما يحدث منه كهبة".

الصوفي يعيش اللحظة الراهنة تماماً، ينسحب من الماضي والمستقبل، ويصب طاقته الكاملة في هذه اللحظة الصغيرة، ليجد الفرح والبركة، مثل الحلاج الذي وصفه بـ"أعظم متصوف على الإطلاق"، وقال معلقاً على قتله: "إذا بدأت تعيش في الله فلن يتحملك المجتمع، المجتمع يحب الكنيسة ولكنه لا يحب يسوع".

الإسلام والبوذية

يقارن أوشو دائماً بين محمد وبوذا، وبين التصوف وبوذية الزن، يتفقان في الهدف ويختلفان في الطريق، فالصوفي يتخذ طريق الحب، وبسببه أضحت اللغة الفارسية شعرية للغاية لأن الله، في الشعر الفارسي الصوفي، ينظر إليه على أنه الحبيب، ولا يؤمن الناس في الزن بوجود الله، لذا فالوعي هو المطلق.

أوشو، وهو من خلفية هيبية متمردة على الحضارة وما تمثله من أنساق يخضع أفرادها لها، يسرد لحياة محمد مثمناً تجربته الروحية الأولى في غار حراء، يقول: "اعتقد أنه إما أصبح شاعراً أو ممسوساً، وفكر في رمي نفسه من فوق الصخور العالية".

يعلق أوشو مقارناً بين محمد وبوذا: "تتجلى الحقيقة في هذا العالم كلما تواجدت شخصيات مثل محمد أو بوذا، ولكن الحقيقة تدفعك إلى الجنون، وتبدأ في قتلك، ولا يمكن أن ينجو إلا أشخاص نادرين جداً، شجعان، يمكنهم أن يواجهوا الحقيقة".

اسم الله الأعظم هو رقم مائةـ هو الفناء الذي تصفه البوذية بـ"النيرفانا"... نظرتان للتصوف من خارج دوائر الصوفية التي نعرفها

كلما أكد شخص ما على تلك المعاني فإنه يحيي "الدين الجوهري" من جديد، وسيعارض المؤسسة، ويعرفها بـ"الدين الباطل"، والدين الباطل له اليد الطولى، يمكن أن يقتل أو يدمر ولكنه لا يستطيع أن يخلق.

كان محمد رجلاً متمرداً، اضطر إلى القتال طوال حياته لأن أعداءه كانوا يطاردونه، وضاعت حياته كلها في القتال، كان من الممكن أن يجلب زهوراً أكثر من المجهول، من الله إلى هذا العالم، ولكن لم تسنح الفرصة، بحسب وصف أوشو.

بمجرد أن تمأسست حالة محمد، تحول أعداؤه الذين يقاتلهم إلى كهنة للدين الجديد، والكاهن سيغير المؤسسة القديمة وحزبه ويعيد نفس اللعبة، وسيكون عدواً للملسمين.

ويقارن أوشو في كتاب "التأمل" بين بوذا ومحمد في تصور العالم الآخر، يقول إن كليهما استخدموا حيلاً لإغواء الناس بأن يكونوا روحانيين، فبوذا كان يخاطب مجتمعاً ثرياً مرفهاً بحكم نشأته، لذا فالآخرة بالنسبة له نيرفانا، التحرر من الجسد ومتعه، والعذاب هو أن تعود إلى الحياة مرة أخرى.

أما في الصحراء فبسبب كونها مجتمعات ندرة، فكانت الجنة واعدة بالملذات والخضرة والقصور، ولكن بمجرد أن يدخل الواحد منا في عالم الدين والروح، يدرك الحيلة، ويتفهمها، لأنها جذبته إلى التغيير.

يقرب أوشو الصوفية من فهم جمهوره: لا يؤمن الصوفيون بالتفسيرات، يمنحون أساليب وليس عقائد، لديهم منهجية وليست عقيدة واحدة، ومبدأ واحد، يعطون أداة وليس اعتقاداً، تأملاً وليس فرضاً، لنبدأ في اختباره داخلياً.

في كتاب "تسعة وتسعون اسماً للاشيء"، وهو عنوان يفضح فلسفته، يتساءل أوشو عن سر رقم 99، كأنك على حافة أن تقول شيئاً، كأن هناك رقماً ناقصاً. يعتبر أوشو اسم الله الحق هو الاسم رقم مائة، اسم "صامت، لا يمكن أن تحصره شفة، أو يلفظه لسان".

يشبه الطاو، وهو يعني اللااسم، يضيف: "الهندوس أيضاً يعتقدون أن ساتنام هو اسم الإله الحق ولكني أجيبهم بأن اسم الله الحق لا يمكن أن ينطق، لأنه عندما ينطق يفقد جماله".

اسم الله الأعظم هو رقم مائةـ هو الفناء الذي تصفه البوذية بـ"النيرفانا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image