في لقاء تلفزيوني جمعه بالشاعر الكبير صلاح جاهين، يصف الأديب المصري الرائد يحيى حقي، أجواء أغنيات سيد درويش عن الطوائف (أي أصحاب المهن، كالشيالين والسقايين)، والتي حضر صاحب "قنديل أم هاشم" عروضها في "الكباريه" في شبابه، بالقول: "كان الجو جو مرح، جوّ انبساط، جوّ تهريج.. ليس هناك وطنية، ولا خطب ولا مواعظ".
ويتابع صاحب "كناسة الدكان" قائلاً: "بالعكس، أراد سيد درويش أن يداعب هذه الطوائف، ويضحك ويّاهم".
يُبدي صلاح جاهين موافقة على هذا الرأي، ويقترح أن "الجو العام في تلك الفترة"، أي فترة ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي، كان "جوّ سياسي" يتطلب أن تشير الأغاني فيه إلى قضايا اجتماعية وسياسية، كالرأسمال الوطني والمهن الشعبية، وإلا "تكون الأغنية ناقصة". حتى أن نشيد "بلادي بلادي" (والذي أصبح فيما بعد النشيد الوطني المصري) كان ذا روح شعبية، كأنه "أغنية يغنيها الناس في جلساتهم".
يصف الأديب المصري الرائد يحيى حقي، أجواء أغنيات سيد درويش عن الطوائف (أي أصحاب المهن، كالشيالين والسقايين) بالقول: "كان الجو جو مرح، جوّ انبساط، جوّ تهريج.. ليس هناك وطنية، ولا خطب ولا مواعظ"
سواء كانت موافقة صاحب "الرباعيات" حقيقية، أو محض مجاملة لرأي الرائد الكبير، فإن "وطنية" سيد درويش طالما علت - لأسباب كثيرة – فوق الكثير مما تعنيه حياة وأعمال الموسيقي العبقري المؤسّس، الراحل في شرخ شبابه، فيتم استعادة سيد درويش عادة، خصوصاً من قبل المؤسسات الرسمية، في صورة أقرب إلى "البطل الوطني"، الذي يمتزج صوته بهتافات ثورة 1919 والتظاهرات ذات الطرابيش والبراقع، التي أحسن في تصويرها سينمائياً، حسن الإمام في أفلام ثلاثية محفوظ، حتى صارت المرجع البصري في ذهن الجمهور والأعمال الفنية اللاحقة، وبالمثل، فإن الخصوم الذين عاداهم سيد درويش، وفق هذه النظرة، ليسوا الفقر والإهمال والطبقية والفساد والطائفية والوصولية وأغنياء الحرب، بل المندوب البريطاني وكونستابلات الجيش الإنجليزي والملك جورج الخامس.
هكذا يمكن قراءة أخبار عديد الصحف الرسمية وهي تحيي – على استحياء – مئوية سيد درويش الأولى التي حلّت هذا الأسبوع، فتشير إلى "أعماله الوطنية" ونداءاته الغنائية ضد الاحتلال، وفي هذا الضوء تتناول لقبه كـ "فنان الشعب"، لا من خلال تعبيره الموسيقي عن طبقات الشعب وفئاته، بالمعنيين الاجتماعي والاقتصادي وحتى السيكولوجي، ولا بتمثّله بالحشاشين بالقدر نفسه الذي تمثّل فيه الصنايعية، اللذين ربما يكونان أحياناً الشخص نفسه، وفهمه، وتفهّمه، لنفسية الموظفين، أو تصويره شقاء الفقراء و"السقايين".
لكن هذا الاختصار المقصود والمخلّ لا يقتصر على التركيز على زاوية ضيقة، ولا حتى على رقابة تتذكر أغنيات ومقاطع من مسرحيات وتتناسى غيرها، بل كثيراً ما امتد على نحو بالغ الغرابة، إلى "استبدال" بعض كلمات الأغنيات، على نحو يُبقي على "الوطنية" كما تصورها هؤلاء، ويستبعد النقد الاجتماعي، ومن المدهش أن ذلك تمّ في مناسبات كانت مخصصة للاحتفاء بسيد درويش نفسه، كما في افتتاح "أوبرا سيد درويش" في الإسكندرية، سنة 2004، بحضور الرئيس مبارك، في الأوبرا التي أقيمت محل مسرح سيد درويش القديم (والذي حل بدوره محل مسرح زيزينيا الذي يعود إلى القرن 19)، وقفت الفرقة الموسيقية تغني النشيد الشهير "قوم يا مصري". وقد رأت ربما أنه لا يليق أن تقول مع مؤلف النشيد بديع خيري: "دول فاتولك مجد وانت فوتّ عار"، فاستبدلتها بعبارة: "دول فاتولك مجد، خليه في ازدهار" (!).
هل كان هذا حدثاً استثنائياً؟ لا. لقد كان (ربما لا يزال) دارجاً جداً في المناسبات والأماكن الرسمية؛ لا ينبغي أن يطلع تلاميذ المدارس مثلاً، على توبيخ جدهم سيد درويش لأجدادهم ووصفه لهم بأنهم "دنّسوا الآثار"، ولأن النسيان ينتهي إلى أن يعيد التاريخ نفسه، فإن الكلمات المحذوفة من الحفلات الرسمية لم تستعد بقوة إلا على وقع الجرافات وهي تعبث مؤخراً بآثار مدينة الموتى في القاهرة.
الاستبعاد والحذف في "الوطنية الجديدة" تجاوز اليهود، ليطال معظم الطوائف التي لا ترتاح لها الغالبية، لا يهم إن كانت بهائية أو شيعة أو أكراد أو حتى محافل ماسونية. صارت وطنية مركزية أحادية "زاعقة/ خطابية/ وعظية"
أما المناسبات غير الرسمية، فقد طبقت الحذف على طريقتها الخاصة، في النشيد نفسه مقطع ينتقد التفرقة الطائفية: "إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود، دي العبارة نسل واحد م الجدود"، لكن "الوطنية" المعاصرة، وطنية ما بعد الصراع العربي الإسرائيلي، رأت أن كلمة "يهود" لم تعد مناسبة، وعند قراءة كلمات النشيد على شبكة الإنترنت، كثيراً ما سوف تجد الكلمات قد تحولت إلى "نصاري ومسلمين لازم نسود"، بدلاً من "اليهود" الذين كانوا ممثلين في لجنة وضع أول دستور مصري سنة 1923، أي للمفارقة، نفس عام رحيل سيد درويش، ويبدو أنه لم يكن ممكناً لـ "دول المواجهة"، لأسباب عديدة ومعقدة، أن تصارع إسرائيل وتحتفظ بمواطنيها اليهود في الآن نفسه.
لقد أصبح ذلك زمن أغنية "والله زمان يا سلاحي" التي صارت نشيداً وطنياً منذ عام الوحدة المصرية السورية 1961 ولمدة 10 سنوات، وكانت، لمفارقة أخرى، من كلمات صلاح جاهين (هل كانت أيضاً تتمتع بالروح الشعبية، كما وصف فيما بعد نشيد "بلادي"؟).
غير أن الاستبعاد في "الوطنية الجديدة" سرعان ما تجاوز اليهود، ليطال معظم الطوائف التي لا ترتاح لها الغالبية، لا يهم إن كانت بهائية أو شيعة أو أكراد أو حتى محافل ماسونية. صارت وطنية مركزية أحادية "زاعقة/ خطابية/ وعظية" وفقاً للكلمات التي استخدمها يحيى حقي في وصف "ما خلت منه" أغنيات سيد درويش، وربما ذهب حقي بعيداً باستخدامه كلمات "انبساط" و"تهريج" في وصف أغنيات صاحب "الحلوة دي"، لكنه كان صادقاً في أن هذا النوع من "الوطنية" لم يكن ما انتمى إليه سيد درويش، الذي إذا كان لابد من وصف فنه بـ "الوطني"، فإنها وطنية نقدية، متعاطفة، ساخرة، وبهذا المعنى استطاعت، ولا تزال، التعبير عن "الشعب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...