إن أغنية بسيطة بصوت فيروز "أهو دا اللي صار" أو "الحلوة دي"، تُعيدك قرناً من الزمن لتسأل نفسك: كيف لأغنية أن تعيش كل هذه السنوات لو لم يكن صاحبها يمتلك حسّاً مرهفاً عابراً للزمن، وعبقريةً لا مثيل لها؟
ونحن على أبواب الذكرى المئوية لوفاة سيد درويش الزعيم الروحي في الموسيقى العربية للأغنية الخفيفة والبسيطة في كلماتها ولحنها، والطربية في الوقت نفسه... لا يمكن أن تمر ذكرى تلك الثروة الموسيقية العربية مروراً عادياً، ويبدو الوقوف عندها أو الحديث عنها فرضاً على كل مهتم بالموسيقى أو عاشقٍ لها، فلا يصحّ العشق دون ذكر مناقب المعشوق. الموسيقى عشقي وسيد درويش من مناقبها، وله أوجز بعضاً مما قدمه والحيثيات التي أحاطت به وبأعماله، علني أفي هذه الظاهرة الموسيقية بعضاً من حقها.
درويش وبدايات النهضة الموسيقية العربية
ارتبط اسم سيد درويش ببدايات النهضة الموسيقية العربية في الربع الأول من القرن الماضي ارتباطاً وثيقاً، لما كان له من تأثير في تجديد الموسيقى العربية والمصرية على وجه الخصوص.
تتحدث الكاتبة الصحافية شيماء جابر عن تلك الفترة بالقول: "في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت حركات التحرر تجري على قدم وساق في الأراضي العربية، وكانت مصر شعلة الثقافة والتنوير ومركزاً للإبداع الموسيقي في المنطقة بعدما تحررت من الاحتلال وأصبحت مستقلة بعد ألفي عام من الحكم الأجنبي، ليتم إحلال الأغاني الإنكليزية أو الفرنسية أو التركية بالموسيقى المصرية الوطنية".
تقول الكاتبة الصحافية شيماء جابر: "سيد درويش كان مُجدداً ومطوراً للموسيقى العربية وباعثاً للنهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي، ورغم رحيله عن الحياة الفنية في سن مبكرة، فقد كان له أثر عميق في تطور الموسيقى العربية"
كان من رواد النهضة الموسيقية في تلك الفترة على سبيل المثال، لا الحصر، الشيخ سلامة حجازي (1852- 1917) والشيخ أبو العلا محمد (1884- 1927) والذي تلاه سيد درويش (1892- 1923) وهذا الأخير كان الأكثر تأثيراً، نظراً لعبقريته وموهبته الموسيقية. وبحسب جابر فإن "سيد درويش كان مُجدداً ومطوراً للموسيقى العربية وباعثاً للنهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي، ورغم رحيله عن الحياة الفنية في سن مبكرة، فقد كان له أثر عميق في تطور الموسيقى العربية".
نعم، رغم وفاة سيد درويش المبكرة عن عمر يناهز 31 عاماً فقط، إلا أن إنتاجه الموسيقي كان غزيراً، فقام بتلحين عشرات الأدوار والطقاطيق والأوبريتات، إلى جانب الحفلات التي كان يقيمها في مقاهي الإسكندرية والقاهرة.
من زاوية أخرى ينقل لنا حازم صاغية في كتابه "الهوى دون أهله" الصورة في مطلع القرن العشرين ليرى أن "أبرز المشتغلين في الغناء والموسيقى في القاهرة مطالع القرن وفي نصفه الأول مشائخ أزهريين أهمهم يوسف المندلاوي، وأبو العلا، ومن بعدهما زكريا أحمد والقصبجي، أو متفرعين عن عائلات فيها مشايخ ورجال دين". وطبعاً كان من هؤلاء الشيخ سيد درويش الذي أرسله والده وهو صغير إلى مدرسة في الحي ليتعلم القرآن، ثم ليدخل المعهد الديني، أحد أفرع الأزهر في الاسكندرية، وهنا ظهرت مواهبه الموسيقية فأصبح مؤذناً لمسجد الشوربجي لمدة من الزمن.
في كلتا الصورتين ومهما كانت العوامل التي ساهمت في نهضة الموسيقى العربية، لا يمكن أن نختلف على أهمية سيد درويش، ودوره العمود في تلك النهضة بدايات القرن الماضي، وتأثير موسيقاه وأغانيه التي ما تزال متداولة إلى يومنا هذا وتتردد على ألسنة الفنانين اليوم وعامة الناس أيضاً.
"النزعة القومية" في أعمال سيد درويش
إن الاتصال بالغرب ومتابعة فنونه في بدايات القرن الماضي وتنامي حركات التحرر... كلها أدت إلى نشوء وعي قومي ثقافي جديد، وبدأ معه البحث عن وسائل أوسع للتعبير عن القيم الثقافية الجديدة كالفن التشكيلي والنحت، وأثر أيضاً على الموسيقى، بطبيعة الحال، فانتقلت من الطابع الديني والطربي في الغالب، إلى الطابع الحركي البسيط والأكثر قرباً إلى قلوب العامة من الشعب والناس البسطاء وليس المثقفين فقط.
وموهبة سيد درويش الكبيرة قادته إلى الخروج من هذا الإطار الديني ومن عالم الموشحات والأدوار إلى المسرح والأوبريت، وفي هذا تقول الدكتورة سمحة الخولي في كتابها "القومية في موسيقى القرن العشرين" إن سيد درويش "أبدع في أوبرتاته الشهيرة مثل "العشرة الطيبة" و "الباروكة" و"الست هدى" وغيرها، ألحاناً وأناشيد وطنية لمست وتراً وطنياً كان له صدىً عميقاً عند مواطنيه، وكانت أغانيه لطوائف العمال، تمجيداً للإنسان المصري البسيط، وتشخيصاُ صادماً –لفظاً ولحناً- لأنماط مرفوضة ارتبطت بالاستعمار والاستغلال".
أصبح سيد درويش رمزاً من رموز الإصلاح الاجتماعي، ومن رموز الوطنية والثورة على الظلم، ما دفع سعد زغلول إلى اعتباره زعيماً وطنياً.
وفي السياق نفسه وضمن ما يمكن أن نسميه "الوعي القومي" في تلك الفترة، يمكن أن نضع سيد درويش في المقدمة لدوره الرائد في تعزيز الهوية المصرية ومساهمته الفاعلة بشكل كبير في نشر هذا الوعي من خلال أغانيه ومسرحياته التي تلامس هموم الناس وتعيش معهم في تفاصيلهم الصغيرة والبسيطة، وعن هذا تقول الخولي: "سيد درويش مثل أعلى لما يمكن أن نسميه "الملحن القومي"، ولا نقول المؤلف، لأن مفهوم التأليف الموسيقي لا ينطبق عليه، ولكن هذا لا يقلل من دوره الرائد في تمهيد الطريق لموسيقى مصرية متطورة، نابعة من وعي متزايد بالهوية المصرية واستجابة لأحداث المجتمع وتحولاته".
وفي معرض حديثه في كتابه "سيد درويش والموسيقى العربية الحديثة" يرى إدوارد لويس أن "الشيخ سيد درويش ينساق في تيار وطني يعم البلاد"، ولا شك أن إحساسه بآلام شعبه وأحلامه، والتي عاشها معه كأي مواطن مصري بسيط يعشق بلاده جعله "يستوحي شعاراً كهذا الشعار المأخوذ عن مصطفى كامل "بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي" أو قصيدة من تلك القصائد التي كانت تعج بها الصحافة العربية آنذاك كقصيدة "مصر والسودان" التي تطالب بالوحدة بين البلدين لمواجهة المؤامرات البريطانية".
تميزه وتفرّده عن غيره
فتحت موسيقى سيد درويش آفاقاً جديدة في الموسيقى المصرية والعربية على وجه العموم، وحررت الغناء المصري من تعقيداته، كونها ارتكزت إلى أسس بسيطة ولكن عميقة في الوقت نفسه، فهو ترجم حياة الناس وأحاسيسهم إلى ألحان، وشكل في موسيقاه وعياً جديداً في الموسيقى الشرقية وفي مفهوم السمع، فكان ما يسمى بدايةَ "الملحن" فيما بعد. ويؤكد إدوارد لويس هذه الفكرة حيث "إن سيد درويش بنبوغه وثقته بنفسه، يُعتبر مرحلة في هذا الانقلاب الشاق الذي يتمثل في النهضة العلمية للشعب المصري، فقد نفخ في موسيقى بلاده روحاً جديدة كل الجدّة، واستطاع أن يرتفع بها إلى مستوى ليتمكن معه المرء من أن يعبر عن عواطفه ونزعاته بوساطتها".
لا شك أن سيد درويش من خلال اطلاعه على الموسيقى الغربية والمغنيين الأوربيين استطاع أن يشدد على الرابط بين ألحانه ومعاني الكلمات، أي على توافق اللحن مع الكلمة، لا أن يغني قصيدة يأسٍ بلحن راقص كما كان يحدث سابقاً على سبيل المثال، ما جعله منافساً للفنانين الكبار في تلك الفترة، بل ومتقدماً عليهم، إذ "أضحى من مصاف فناني القاهرة كاللاوندية وأسماء القمسارية وابراهيم القباني. ويمتاز سيد درويش عن هؤلاء بأنه لا يستهدف التطريب فقط، وأن أسلوبه طريف وأخّاذ، وفي حين أن زملاءه يضيعون في متاهات الارتجال التي تجعل دور الملحن ثانوياً، فإن سيد درويش لا يحاول أن يخلب سامعه بقدرته التقنية فقط، إنه يشدد أو بالأحرى يبتدع صلة بين أنغامه وبين معاني الكلمات".
سيد درويش في عيون موسيقيين ومثقفين عرب
السؤال المطروح والمنطقي هنا: لماذا ما تزال ألحان سيد درويش، وبعد قرن من الزمن، حية كأنها ولدت بالأمس، بينما اندثرت، تقريباً، أعمال أقرانه في تلك الفترة وباتت حكراً على الباحثين فقط؟ وهذا ليس تقليلاً من شأن معاصريه بطبيعة الحال.
أعتقد أن ذلك يعود إلى أن سيد درويش أصبح رمزاً من رموز الإصلاح الاجتماعي، ومن رموز الوطنية والثورة على الظلم، ما دفع سعد زغلول إلى اعتباره زعيماً وطنياً. وبحكم أن الظلم والقهر يحكمان الشعوب العربية إلى يومنا هذا، والشعوب المقهورة لا تنسى رموزها، فإن سيد درويش بقي رمزاً حيّاً من رموز هذه الأمة. هذا على الصعيد السياسي والاجتماعي إن صح التعبير.
يقدم الكاتب والشاعر والناقد الموسيقي اللبناني فادي العبدالله توصيفاً وتفسيراً لاستمرارية درويش بالقول إن "استمراريته تعود أساساً إلى مسألتين هامتين: الأولى هي الاستعمال السياسي له من قبل الأنظمة وبعض الفنانين، كنموذج للفنان الوطني الشعبي المجدد الأصيل وما إلى ذلك، وهذا في الحقيقة يضرب عرض الحائط بإنتاجه الحقيقي وعلاقته بزمنه، ويبتكر أسطورة عن الفنان المضطهد والمُعتم عليه بعد وفاته المبكرة، لكنه سمح باستمراره أيقونة حاضرة، باستغلال بعض أغانيه المسرحية خصوصاً. أما الثانية فهي في كون سيد درويش من مؤسسي الجملة الموسيقية التي بني عليها القرن العشرين عموماً، أي الجملة التي تخلت عن أساليب طرب القرن التاسع عشر بسبب ضرورات العمل المسرحي أساساً كما بسبب تأثيرات الحداثة والتلاقح مع مجال تركي متأخر ومجال أوروبي حضر في القاهرة والإسكندرية".
إن متابعة أعمال سيد درويش من الموسيقيين المعاصرين والمواكبين لما يجري من تطورات في المنطقة العربية، وما يرافقها من تطور في الموسيقى بطبيعة الحال، تؤكد فرادته وتميزه، وحول ذلك تقول الكاتبة والموسيقية السورية المقيمة في ألمانيا، غيثاء الشعار، إن "إطلاق اسم فنان الشعب وحب الناس له واستمتاعهم بأغانيه حتى اليوم لم يأت من فراغ، لأنه كان من التنويريين الذين ربطوا الغناء بقضايا الناس وجاء بالموسيقى من قصور الأغنياء إلى بيوت الفقراء. فقد تحدثت اغانيه عن الفقر والفوارق الطبقية وتحرير المرأة ووحدة الشارع بجميع طبقاته وأديانه، وهو انشغل وتفاعل مع الإنسان البسيط وعبر عن روح الشارع وآماله بموسيقى جميلة متماسكة عصرية وربما مازالت أغانيه ملهمة للشارع، لأننا مازلنا نعاني بشكل أو بآخر في عالمنا العربي. بالإضافة طبعاً وأساساً إلى جمال موسيقاه وعصريتها".
أسس الكاتب والموسيقي اللبناني خالد صبيح مع عدد من أصدقائه فرقة "الراحل الكبير" في بيروت، وذلك عامي 2012-2013، وهي تشبه بتجربتها، إلى حد ما، تجربة سيد درويش، من حيث "تحرير اللحن والكلمة وحتى الأداء من قيود وشروط الماضي". خرجت الفرقة بأعمال رائعة لا تلامس الواقع فقط، بل تحكيه كما هو كقصة قصيرة ملحّنة. يجيب صبيح عن سؤال الاستمرارية معتبراً أن "الحديث عن الشعبية المستمرة لسيد درويش بعد مئة عام يقودنا بالدرجة الأولى للحديث عن أغانيه الأكثر انتشاراً، وتحديداً الأغاني السياسية والاجتماعية، وهي قد لا تكون المفضلة من بين سائر أعماله بالنسبة لكثير من الموسيقيين. ففي هذه الأغاني ذائعة الصيت اختار سيد درويش، وبخلاف السائد آنذاك، مواضيع تلتصق بيوميات الناس، صورت ملامح مجتمع بمشاكله وهمومه وأفكاره وتطلعاته، وصولاً إلى توثيق المهن والحرف وطبائع أصحابها وأصواتهم وحركاتهم أيضاً.
وفي الوقت الذي كان معظم الغناء يدور حول الموضوعات التقليدية والقصائد المتواترة وهند وليلى، كان سيد درويش يغني عن الاستعمار والواقع السياسي، واستغلال التجار، وهموم الشيالين والعربجية وشجارات الحواري".
وحيث أن الظروف السائدة في المجتمعات العربية لم تتغير، بل ربما هي نسخ معدّلة في ظاهرها، يرى خالد صبيح أنه "ومع مرور مئة عام في منطقة لا تبدو في مطلع القرن الحالي أفضل من مطلع القرن الماضي، فإن أغانيه ليست شاهداً شيقاً على عصرٍ مضى فحسب، بل تبدو اليوم كمرثيّة شرقية هزلية صالحة لكل عصر وزمان.
كان سيد درويش يحكي بموسيقاه قصصاً ليجعلها أغانٍ خالدة، وقرّب الجملة الموسيقية إلى ذهن المستمع من دون أن يُسطح موسيقاه، أو يُسخّفها، كما هو الحال اليوم.
ويتابع: "يُظهر سيد درويش في فئة من أغانيه (الأدوار والموشحات) جذوراً ضاربة في التقليد الموسيقي الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين ، والذي وصلتنا منه الأدوار والموشحات والقصائد وتلاوة القرآن، لكنه في أغنيته السياسية والاجتماعية، جعل من اللحن أداة للتعبير عن المعنى، غير مبال بالقوالب اللحنية المعروفة والسكك المقامية المتبعة وأسلوب الغناء السائد. لقد نزع عن أغنيته السياسية والاجتماعية أصول التراث وقيوده، واختار لأغنيته اللحن المعبر بنغمه وإيقاعه عن المعنى، اختار لها خلطة الصوت المناسب لتكون مشهداً متحركاً ناطقاً، فعاشت هذه الأغاني مئة عام ولا يبدو أنها مقبلة على الأفول في المئة سنة المقبلة".
يستانف فادي العبدالله حديثه حول الجملة الموسيقية لدى الفنان الراحل، باعتبارها "الجملة الأرشق والأكثر ارتباطاً بالكلمة الملحنة والمصنوعة لتؤديها أصوات ليست بالضرورة مشايخ الطرب، بل أصوات ممثلين مسرحيين، والتي ستتحول شيئاً فشيئاً لتصبح هي "الأغنية" ككل، وليصبح كثيرون من المغنين أساساً "يمثلون الإحساس" على المسرح في معنى ما. استمر سيد درويش لأن معظم الجمل الموسيقية بعده كانت في ظل عباءته أو عباءات جيله المسرحي، لذا لا تأتي استعادته اليوم من الفرق أو المؤدين، ولم تأت استعادات حفيده له في السينما والكاسيت، نافرة على الأسماع ولا مستغربة، بخاصة بعد أن خضعت الكلمات البديعة لخيري وصدقي، لعملية إخصاء محافظ حصراً على صور العائلة وقيمها وعدم خدش أسماعها".
كان سيد درويش يحكي بموسيقاه قصصاً ليجعلها أغانٍ خالدة، وقرّب الجملة الموسيقية إلى ذهن المستمع من دون أن يُسطح موسيقاه، أو يُسخّفها، كما هو الحال اليوم، ما جعل أغانيه تأخذ الصفة الشعبية، وتنتقل عبر الأجيال، كما تنتقل الحكايا والأمثال الشعبية، ونقل معاناة الإنسان الفقير التي تلامس جميع الفقراء على مرّ الأجيال لتُصبح موسيقاه لغة الشارع. لم يبدأ من العدم، ومن الغباء أن نسخف تجربة من سلفه أو عاصره، بل إن تجربته هي امتداد لنهضةٍ كبرى، ولكن عبقريته هي التي شكلت الفارق هنا، فقد بث في المسرح روحاً جديدة تواكب الحالة الثورية حينها، وفي ألحان رواياته هناك أكثر من 200 لحن لم تتكرر فيها جملة واحدة، وفيها اختلاف بالمواقف ما يكفي لعرض كافة حالات الشعور الإنساني، ما يعكس غنى الموضوعات التي تطرق لها والتي اقتفى بها شعور الإنسان و"خاطب الجماعة كما خاطب الفرد، وخطا خطوات كبيرة نحو عالم الإنسانية الواسع".
وتدور غيثاء الشعار في الفلك نفسه لجهة ألحان درويش، حيث ترى أن "سيد درويش كان مجدداً ومطوراً في زمنه، وقد يكون من أوائل الموسيقيين الذين استخدموا التوزيع الموسيقي والهارموني وجدد في استخدام الإيقاعات، كما "نقل الموسيقى من التطريب إلى التعبير الصادق، أي جعل اللحن ينسجم مع موضوع الأغنية أو المسرحية الغنائية التي يلحنها، لم تكن الألحان متكلفة أو استعراضية بشكل مجاني".
وفي نقاش مطوّل مع الكاتب والباحث السوري عبدالله أمين الحلاق، ولدى سؤالي له عن الأثر السياسي في أغاني سيد درويش والذي كان أحد أسباب استمراريته قال: "لا أستسيغ تسييس الفن دائماً، وخصوصاً في حالة سيد درويش، لكن لا يمكننا إلا التوقف عند سبب رئيسي من بين أسباب كثيرة تجعله حاضراً بيننا، نسمعه ونستمع بفنه، ومنها: أن الأزمات السياسية لم تنته منذ زمنه وحتى اليوم، والاحتلالات والظلم والقهر النازل بالبشر على حاله في عالمنا العربي، وإن اتخذ أشكالاً وتمثلات مختلفة".
قدم سيد درويش كثيراً من الأعمال الموسيقية التي جعلته على ما هو عليه بين الناس، وصولاً إلى يومنا هذا، ولنكتب عنه اليوم بعد قرن من رحيله، وهي تثير الفضول وتجعلنا نطرح سؤالاً: ماذا كان سيفعل سيد درويش لو عاش أكثر من ذلك؟
وركز الكاتب عبدالله المهتم بالموسيقى إلى حد ما، على الجانب الموسيقي في أعمال سيد درويش ملاحظاً أن "ثمة طقطوقات غير سياسية تغنى اليوم بتقنيات جديدة وحديثة ولكنها تبقى محافظة على اللحن الأول والخام الذي ألّفه سيد درويش، أو على الأقل يخيم فنه وأسلوبه على "الجو" لحظة سماعها. هذه ملاحظة لا أملك تفسيراً لها فعلاً، وإن كانت تبعث على البهجة وعلى التأكيد على كون ألحانه عابرة للحظتها. قد يقول قائل إن هذا يحصل مع عبد الوهاب وفريد وأم كلثوم أيضاً وغيرهم، وهذا صحيح، لكن سيد درويش عاش قبلهم بعقود، وسبقهم في الرحيل قياساً بأعمارهم التي توفوا فيها، وهم كانوا محظوظين بتقنيات تسجيلية وموسيقية لم تكن متوفرة له، وهذا فارق أساسي كما أعتقد".
ويختم الحلاق كلامه قائلاً: "أنا بدأت تعلم العزف على العود في فترة متاخرة من حياتي، صحيح أنني ما زلتُ عازفاً في الطور الاول، لكنني أعزف "أهو ده اللي صار" بشغف وبحب، وهي الأغنية الاولى التي عزفتها مستعيناً بنوتة".
الرحيل المفاجئ... خاتمة الحديث
رحل سيد درويش في أيلول/سبتمبر عام 1923م وانتهت حياته في ظروف غامضة، حيث أن سبب الوفاة ما زال مجهولاً إلى يومنا هذا، وقد أثارت وفاته جدلاً واسعاً، وطُلب تشريح جثته لمعرفة سبب الوفاة في حينه، إلا أن الطلب قُوبل بالرفض.
تقول إحدى الروايات التي تناولت وفاته، إنه توفي بسبب جرعة زائدة من المخدرات، حيث عُرف عنه إدمانه على الشراب وعلى المخدرات، غير أن أحفاده نفوا تلك الرواية مستندين إلى خطاب بخط يده يقول فيه لصديقه أنه أقلع عن السهر، بينما تقول رواية ثانية إن سبب وفاته هو التسمم بمادة الزرنيخ، وكان مُدبّراً من الانكليز والملك فؤاد بسبب أغانيه التي تحث الشعب على الثورة.
وبعد سنوات طويلة وتحديداً منذ سبع سنوات فقط، خرج محام مصري شاب وطلب إخراج رفات الموسيقار الراحل للكشف عن سبب الوفاة، ويتقدم ببلاغ للنائب العام في ذلك، لكن المحامي لم يتواصل مع أي من أفراد الأسرة، وتم إهمال البلاغ.
توفى سيد درويش مبكراً وهو ما يزال شاباً لا يتجاوز عمره الابداعي 12 عاماً. وهو قدم خلال هذه الأعوام القليلة كثيراً من الأعمال الموسيقية التي جعلته على ما هو عليه بين الناس، وصولاً إلى يومنا هذا، ولنكتب عنه اليوم بعد قرن من رحيله، وهي تثير الفضول وتجعلنا نطرح سؤالاً: ماذا كان سيفعل سيد درويش لو عاش أكثر من ذلك؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون