منذ أيام، وفي لقاء له على تلفزيون بلومبرج، صرّح جون ويليامز، رئيس فرع البنك المركزي بنيويورك، بأن حفلات نجمة البوب الأمريكية تايلور سويفت، مَثّلت عاملاً لتحفيز الاقتصاد الأمريكي في غضون الأشهر القليلة الماضية، حيث يأتى الناس لحضور حفلاتها، يقيمون في الفنادق يشترون السلع والخدمات، وعلى هذا النحو حققت جولتها الغنائية حوالي مليار دولار، وقال: "عامل تايلور سويفت واضح على الإنفاق الإستهلاكي". فإذا أزدهرت صناعة ما، فلا يكتمل هذا الإزدهار ويُدّر الربح المرجو إلا بإزدهار صناعات مكمّلة تابعة، تخّدم عليه. ولم تخالف صناعة الترفيه هذه القاعدة، فمنذ أن تبلورت، بكل فروعها، المرئية منها والمسموعة، وهى تُسهم كواحدة من أهم عوامل إنماء اقتصاد الدول.
من بيوت القيان إلى "عامل تايلور سويفت"
لم تكن أمريكا هى الدولة الأولى التى تُنتج مغنية تثري اقتصادها وتأخذ صناعة الترفيه الغنائية تحديداً إلى مستويات مختلفة أعلى، فقد سبق العرب الأمريكيين إلى هذا الأمر، ويحكى عن مغنيات عديدات أثّرن في الحركة التجارية وفي الذوق والموضة السائدتين.
عادة ما يرتبط الغناء والترفيه عموماً بالرخاء وترف العيش، لكن في كثيراً من المؤلفات التاريخية، كـ "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وهو المرجع الذى استندت إليه أغلب الدراسات عن الفن قديماً، تدلنا على أن هذه الصناعة، الغناء للترفيه، بدأت من أوائل العصر الجاهلي في بلاد الحجاز، ورغم شظف العيش الذى عاشه العرب في مراحل عدة من تاريخهم إلا أن ديوانهم كان الشعر، ولا يكون الشعر إلا بتوأمه، الغناء.
لم تكن أمريكا هى الدولة الأولى التى تُنتج مغنية تثري اقتصادها وتأخذ صناعة الترفيه الغنائية تحديداً إلى مستويات مختلفة أعلى، فقد سبق العرب الأمريكيين في هذا الأمر، ويحكى عن مغنيات عديدات، أثّرن في الحركة التجارية، وفي الذوق والموضة
ثم اتخذ الغناء أشكالاً جديدة في عصر الإسلام، نتيجة التمازج الثقافي مع الحضارات الأخرى كبلاد الفرس والروم، الأمر الذى أثرى الغناء بأشكال وآلات طرب ومعازف جديدة.
بدأ العرب بالتفطّن إلى اقتصاد الترفيه الغنائي مع بداية رواج مهنة "النخاسة"، فلم يكن الغرض من شراء أو بيع جارية إلا الترفيه عن سيدها، أياً كانت وسيلتها للترفيه، رقص، عزف، غناء، جنس، وكلما كانت الجارية ماهرة في فنها زاد ثمنها، بيعاً وشراءً.
بيوت القيان
انتشر وازدهر لدى العرب ما يعرف بـ "بيوت القيان" وهو "كازينو" بالمفهوم الحديث، مكان تقدم فيه ألوان غنائية، يدفع الداخل إليه رسوماً، ويدفع ثمن مأكله ومشربه فيها. وكان اقتصاد المغنيات يساهم في خزائن الدولة بما يدفعه التجار من ضرائب، حيث تُجلب أجمل المغنيات من الخارج، وتباع بأسعار كبيرة، بحسب جمالها واحترافية غنائها، تباع للأثرياء أو في بلاط الملوك بأثمان مختلفة.
ولم يزدهر اقتصاد الغناء والجواري وحده، لكن نمت معه صناعة الآلات الموسيقية وملابس المغنيات والراقصات ومدربي الرقص ومدربي الغناء، وصناعة المجوهرات التى ترتديها الفنانات، والمشروبات التي تقدم في مجالس الغناء وتأثيث هذه المجالس.
جميلة
رغم أن المدينة المنورة كانت الحاضرة الثانية بعد مكة، كمنهل روحي وديني للمسلمين، إلا أنها لم تخل أبداً من مغنيات عشن فيها وأمتعن آذان وأرواح السمّيعة، وتنافسن أيضاً على مَن يزدهر بيتها بالمجذوبين لشدوهن أكثر، ومن هؤلاء مغنية أسمها جميلة.
يقول الأصفهاني عن جميلة: "أصل من أصول الغناء، وعنها أخذ معبد وابن عائشة وحبابة وسلامة وعقيلة العقيقية والشماسيتان خليدة وربيحة (جميعهم مغنيون من ذاك العصر) فكانت مُعلّمة للغناء". لكن ممن أخذت هى تعليمها؟
حظيت جميلة بشهرة واسعة في العصر الأموي، فكانت بمثابة كبيرة المطربات في هذا العصر، ورغم ذلك أشادت بمغنيات أخريات في عصرها، نلن نفس السمعة الذهبية في الغناء ومنهن عزة الميلاء.
انتشر وازدهر لدى العرب ما يعرف بـ "بيوت القيان" وهو "كازينو" بالمفهوم الحديث، مكان تقدم فيه ألوان غنائية، يدفع الداخل إليه رسوماً، ويدفع ثمن مأكله ومشربه فيها. وكان اقتصاد المغنيات يساهم في خزائن الدولة بما يدفعه التجار من ضرائب
عزة الميلاء
من أهم مغنيات العصر الإسلامي، ومن أوائل المطربات اللاتي أنشأن بيتاً خاصاً بالغناء. ويقول النويري شهاب الدين، في كتابه "الآراب في الفنون والآداب": "كان بعض الصحابة من رواد مجالس جميلة وعزة الميلاء، كالصحابي حسّان بن ثابت، والنعمان بن بشير،
وكانت الميلاء، من أوائل المطربات اللاتي تلقين تعليماً فنياً أجنبياً على يد الفرس حينها، فجمعت بين أنواع مختلفة من مقامات الطرب الذي أضافت إليه الكثير من رونق وعذوبة صوتها، وكانت مطربة ذائعة الصيت خارج المدينة المنورة، فكان الذهاب للاستماع إليها فقرة أساسية في برنامج الحاجّ العربي بعد انتهاء طقوس حجّه.
ويذكر الأصفهاني سيرة الميلاء فيقول: "كانت جارية لأحد الأنصار، تسكن المدينة ومن أقدم من غنّت من النساء في الحجاز، وكانت أجمل النساء صوتاً وأجملهن جسماً، وكانت من أحسن من يضربن العود"، وكانت تقيم مجلس الغناء أول كل شهر، فتأمر جواريها بترتيب جلوس الناس الذين يلبسون أفضل الملابس، بناء على طلبها، وها ما يصنع حركة تجارية إضافية.
وفي العهد الأموي، كثرت بيوت ومجالس القيان، وهى الأماكن التى تعرّضت للازدهار أو التضيق والاضمحلال، بحسب الحالة السياسية في الخلافة. فمثلاً في فترة من عصر المأمون ظهر المتشدّدون الذين يحرّمون هذه المجال، فكان الناس مُقلّين في ارتيادها مخافة العقاب.
شارية
جاء العصر العباسي ليُمثّل العصر الذهبي لكل الفنون والعلوم من بين أمور أخرى، وخلفاء العصر العباسي، خاصة هارون الرشيد، هم الرعاة الأهم لصحوة الفنون تلك. ويقول الجاحظ، لم تكن قصور الخلافة دائما تشتري هؤلاء المغنيات اللاتي كن في الأصل جواري، لكن أحيانا كن يُرسلن إلى دار الخلافة من الأقاليم بدلاً من الضرائب.
ومن أهم مغنيات ذلك العصر، شارية، جميلة الصوت والصورة، تلك المؤهلات التى نقلتها من بيوت القيان إلى أرقى مكانة في قصور الخلفاء والأمراء.
شارية مغنية من البصرة، اشترتها أمرأة من بني هاشم وعلّمتها حرفة الغناء والموسيقى على يد أشهر موسيقيي عصرها، إبراهيم بن المهدي، الذي صقل الموهبة الفنية لديها بجانب بقية الفنون والآداب التي تدربّت عليها في كنف بني هاشم بالموصل، ما جعل ثمنها يتعدى آلاف الدنانير حينئذ، وفي قصتها الكثير حول ثمنها الذي تدرّج من بضعة مئات إلى مئات الألوف من الدنانير.
نشاط المغنيات ومهاراتهن في الغناء والتأليف والتلحين، قدّم خدمات ليست بالقلية للاقتصاد الإسلامي الناشئ في تلك الفترة، لناحية تداول الأموال ونشوء صناعات جديدة أو استمرارها، لضمان مواكبة صناعة الترفيه، وهو ما أصبح يعرف حالياً بـ "عامل تايلور سويفت"
ذات الخال
يذكر الأصفهاني مغنية أخرى كان قد اشتراها الرشيد بسبعين ألف درهم، وكان اسمها ذات الخال، وكانت جارية لأبى الخطاب النحاس، المعروف بقرين، مولى العبّاسة بنت المهدي، وكانت ذات الخال من أجمل النساء وأكملهنّ، وكان لها خال فوق شفتها العليا. ولما كان إبراهيم الموصلى يعشقها، وهبها الرشيد بعدما اشتراها إلى أحد جُلّاسه يقال له حمويه، ولما اشتاق الرشيد يوماً لسماع صوتها، أخرجها له حمويه وكانت ترتدي قميصاً وعقوداً من الجواهر ثمنها أثنا عشر ألف دينار، استغرب الرشيد من أين له بكل هذه الأموال ليشتري لجاريته كل هذا، فأحب الرشيد أن يزيد على كرم حمويه، فأرسل لصنّاع الجواهر واشترى جواهر بقيمة أكبر من هذا وأهداها لها.
عريب المأمونية
يقال إن والدها كان الوزير جعفر البرمكي، باعتها امرأة كانت تتولى رعايتها لرجل يدعى المراكبي، في البصرة، ملجأ محترفي فنون الغناء والتلحين، ولما بلغت شهرة كبيرة، اشتراها الأمين، ثم المأمون بعد مقتل الأمين، وهى المغنية التى جمعت بين الحسنيين، كتابة الشعر والغناء، والتى يقال إنها عاصرت ثمانية خلفاء، ومنهم الأمين والمأمون والمعتصم والواثق، وكان كل منهم يبذل لها الكثير من الأموال إرضاء لها، فأصبحت من أشهر وأثرى مغنيات وشاعرات عصرها، ولا يزال الكثير من شعرها محفوظاً حتى الآن.
*****
مما سبق، نستنتج أن نشاط أولئك المغنيات ومهاراتهن في الغناء والتأليف والتلحين، قد قدّم خدمات ليست بالقلية للاقتصاد الإسلامي الناشئ في تلك الفترة، لناحية تداول الأموال ونشوء صناعات جديدة أو استمرارها، لضمان مواكبة صناعة الترفيه، وهو ما أصبح يعرف حالياً بـ "عامل تايلور سويفت"، وقياساً يمكن أن نسميه عامل "دنانير، أو عريب أو شاريه"، ناهيك عن الأثر الفني الذي صنع مجد تلك العصور الغابرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع