شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لقد قطعوا حبلي السريّ، والآن خرجت إلى الحياة حين غادرت هذا البلد

لقد قطعوا حبلي السريّ، والآن خرجت إلى الحياة حين غادرت هذا البلد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الأحد 10 سبتمبر 202311:28 ص

لا يمكن أن أنجب أولاداً في هذا البلد، ولا أتخيّل فكرة أن يبدأ ابني/ابنتي بعدّ الخسائر من عمر السّادسة، ولا أظن أن هناك استحقاقاً أسوأ من أن يولد طفل جديد هنا.

أحمل الجنسية السّورية وجواز السّفر الذي يفي بالغرض لأن أسافر من اللاذقية إلى دمشق لا أكثر. إنا فخورة بجواز سفري، لأنني من ضمن قائمة المحظوظين الذين استلموا دفتر الأحلام قبل انتشار أزمة جوازات السفر السورية! فهذه المعاملة باتت تشبه الحلم لشدة صعوبتها وغلاء ثمنها، وتحتاج إلى عشرات "الواسطات" لتستلم جواز السفر الذهبيّ الذي ستفتل به العالم بأكمله، من غرفتك.

لا تنتظروا مني إطلاقاً أن أنجب أبناءً في هذا البلد، لتذهب نصف أعمارهم بتوقيع معاملة رسميّة، ولن أسمح لشّعارات المجتمع بالاقتراب من أذن ابنتي، ابنتي التي لو أهديتها وردةً سيهديها العالم رصاصة أو نظرةً حقودة، أو كلمات تحفر في عمق وجدانها ولا يذهب أثرها للأبد.

أنا فخورة بنفسي فقط، لكن هذا البلد لم تقدّم لي شيئاً كي أصل إلى هنا.

لن أجعل أحلام ابنتي الوظيفة الحكومية التي لا يتعدى راتبها ثمن حذاء واحد، أو ثمن غداء وجبتين من مطعم شعبي، ولن أسمح بأن تصل لعمر الثّلاثين وهي تبحث عن عملٍ يليق بها، دون أن تستنزف طاقتها وشبابها في 8 ساعات يومياً، دون أن تحصّل 2% من قيمة مجهودها الذي يذهب سدى.

نحن نتخلى لأن هذا البلد تخلى عنّا، لكن الندم الذي يصاحبنا لترك أشخاص مكسورين وراءنا، يخلق لدينا حنجرةً مليئة بالدموع. الفقد جزء من الأشياء التي أخاف منها، الفقد المليء بالعجز، إلا أنني وعلى الرغم من كل ذلك! سأغادر

لن أنجب أولاداً في البلد الذي يرفضنا أساساً، كان ينقصه جرائم الشّرف ولم تكفه كل الجرائم التي حصلت. لن أنجب ابنةً في هذا البلد ليقول شخص ما رأيه القبيح بها، وينعتها بملافظ معيبة، فقط لأن نمط حياتها لا يتوافق مع معتقداته الغبية.

لا أسمح بأن يكون شيخاً ومرشداً ظلامياً ويعطيها نصائح تمنعها تماماً عن كل معاني السعادة، نصائح تجعل حياتها عبارة عن تابوت مظلم وواجبات يومية ودينية، بعيداً عن كل الوسائل التي تجلب سعادةً وفرحاً وجنوناً. هذا المجتمع لا يكاد يطيق السعادة، ويستمتع بالحرمان ونشر الحرمان وثقافة الحرمان.

سأحكي لأطفالي قصةً قبل النوم تكبّر من أحلامهم وتزيد من طموحهم وخيالهم، لا أريد أن يتحدّثوا عن آلامهم في عمر الطّفولة وعن شهواتهم ورغبتهم بالبرينغلز الذي لا أستطيع دفع ثمنه، وبالألعاب والدمى التي يتجاوز ثمنها راتب شهرٍ كامل.

للأسف، أطفالنا يرضعون الأحزان في حبلهم السّرّي، ولن يكفيني للاعتذار لهم العمر كلّه!

هذا البلد لم يعد يحتمل أطفالاً في الشّوارع. لا أحرض أحداً ولا أقول إنّ أوروبا هي الأفضل، لكنني أصف الواقع هنا بحرفيته، بمآسيه وأحزانه، بفقره الدفين وبحضارته المنسية.

وذلك يؤلمني جداً، لأن سوريا لم تعد كما كانت بتاتاً. أحاول أن أعيد برمجة عقلي لأرسخ صورة سوريا ما قبل 2011، وأنام كل يوم وأنا أحلم بأن أعود إلى ما قبل عشرة أعوام، وبالأخص أن فكرة اللجوء تبدو صعبة لشخص مثلي. لقد ربّيت الذكريات في كلّ مكان، لديّ دائماً أفكار قلتها في المقاهي، شربت الماء المليء بالكلس، غرقت برغيف الخبز الساخن دائماً، وغنّيت كثيراً في الأزقة القديمة، وفكرة اللجوء دون عودة ليست سهلة.

تصلني الأخبار وأعرف كيف يعملون في أوربا كالآلات، لا أقول أبداً إنّ حفلة عيد الميلاد في أوربا ستكون مختلفة، وآلة الكمان والغيتار لن تعزف بطريقةٍ أفضل لكونها ببلدٍ آخر.

أحبّ بلادي وأريد الرحيل عنها، وهذا التناقض المخيف لا يعتريني أنا فقط. هذه قصة آلاف من الشباب مثلي. نحب بلادنا ونرغب الرحيل، وأعرف أن هذا البؤس سيسافر معي ونعيش سويّاً في بيتٍ آخر.

لقد ضيّعت نفسي هنا ولا علاقة للأماكن بذلك، والحزن موجود في كلّ مكان، وأؤمن أيضاً أنّ الشخص الذي لا يبدأ ببلده لن ينجح بمكانٍ آخر. لا أنكر أن البصمة في بلادنا مختلفة ولها رونق آخر، لأن انتماءنا لهنا، إن رغبنا بذلك واعترفنا به أم لم نفعل.

لكنّي يا الله حاولت كثيراً. ربّما إن حان الوقت وسافرت، لن أسافر كلّي، فكلّ محاولة منّي كانت تأخذ شيئاً من روحي ومن جسدي. أنا لم أمت هنا، ولم تصبني رصاصة، رغم أنّ ذلك كان ممكناً لو لم يكن هناك قدر آخر. أنا فقط أريد التحديق بسقفٍ آخر، رؤية السماء من جهةٍ أخرى، العدل غير موجود لكنّي أريد الظلم من الجهة المقابلة من العالم، "أريد أن أغلق باب بيتي دون أن أعرف أن العالم سيكون مغلقاً في وجهي بمجرّد خروجي من البيت".

أريد أن أغضب على أشياءٍ كبيرة، أشياء تستحق أن نحزن ونصرخ لأجلها، أمور مفجعة وضخمة لا تشبه غضبي أثناء انقطاع الكهرباء في الطقس الحار، وعدم وجود مواصلات في الطريق. أريد أن أضع سماعتين في الطريق وأستمع إلى الموسيقى، سماعتين دون أن أخاف أن يحدث انفجار وإطلاق نار ولا أسمعه. أعلم أن الموت محتم على الجميع، ولكننا في هذا المكان نعيش الموت ونخافه في كل لحظة، لأن احتمالات الموت أكثر بكثير من أي مكان آخر.

لأنه لا يوجد كهرباء في هذه المدينة، والشوارع مظلمة تماماً، والسرقات تكمن في هذه الشوارع، والجرائم تكثر في الظلام لأنه لا يوجد كاميرات مراقبة، والسيارات تدهس أشخاصاً وتهرب وتغلق القضية جريمة ضد مجهول، لأن الجوع جعل من معظم المساكين لصوص، لأن السرقة باتت المهنة التي تجلب طعاماً يكفي لشهر، الأسباب كثيرة لنموت هنا لذلك أرغب بالرحيل، وأعرف حين أغادر سأقضي الطريق وأنا أسمع  "احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي"، وأشرب الاسبريسو مع أم كلثوم. أريد أفكاري وعقلي وجسدي نفسه، سمعت مرةً بفيلمٍ "إن لم يعجبك مكان تواجدك فلتتخيّل المكان الذي تحلم به". ذلك لا يهوّن عليّ الأمر إطلاقاً.

لن أنجب أولاداً في البلد الذي يرفضنا أساساً، كان ينقصه جرائم الشّرف ولم تكفه كل الجرائم التي حصلت. لن أنجب ابنةً في هذا البلد ليقول شخص ما رأيه القبيح بها، وينعتها بملافظ معيبة، فقط لأن نمط حياتها لا يتوافق مع معتقداته الغبية

لكن على الرغم من أن جذوري متأصلة هنا، وقلبي هنا ورئتي هنا، وروحي تتآكل تدريجياً عندما أفكر بالانفصال. على الرغم من اشتياقي وتشبّثي بالأماكن والشوارع والتفاصيل الصغيرة، إلا أنني سأغادر هذا البلد، وستنتهي ظاهرة "اعرف حالك مع مين عم تحكي"، في بلاد قد لا أصادف فيها الوجه ذاته مرتين.

سأغادر البلد المرتجف الذي سقط على وجه أبنائه من كلمة واحدة. قفزت من سطحه العالي حين كان الرحيل نجاة والبقاء حياة راكدة على كفّ عفريت. ستختفي محاولاتي الكبيرة في أن أكون شيئاً يذكر مع أحلامي التي كانت أكبر من حائط المدينة وأوسع من الحواجز العسكرية.

نجوت من رصاصات طائشة، وصار لديّ حكايات أكملها للنهاية٫ وأخيراً لن أقابل دكتورة المادة التي باعت الاسئلة بـ 100 ألف لطالب مسكين. سأكون أوضح في بلاد بعيدة دون شحوب أو انطفاء، إلا أنني سأفتقد الأشياء التي أراها أمامي لآخر مرة، وسيكون حضن أمي الذي هوّن علي أصعب اللحظات هو الخسارة المطلقة.

سأفتقد اليد التي تشدّ على أصابعي وتقول: "شديلي حالك أنت قوية".

نحن نتخلى لأن هذا البلد تخلى عنّا، لكن الندم الذي يصاحبنا لترك أشخاص مكسورين وراءنا، يخلق لدينا حنجرةً مليئة بالدموع. الفقد جزء من الأشياء التي أخاف منها، الفقد المليء بالعجز، إلا أنني وعلى الرغم من كل ذلك! سأغادر، لست وحدي، سنغادر جميعاً، وسنلوّح من وراء الشاشات ونرسل القبلات، إلا أن الحب البدائي في الأحضان هو الأفضل على الإطلاق.

لقد اعتدت على إنهاء حديثي مع صديقتي فاطمة بكلمة "بشوفك حبيبي"، ثم تذكرت أنها المرة الأخيرة. مقابل كل لحظة نقوم بها بتحقيق أحلامنا، نحن ندفع الثمن أضعافاً من روحنا ومشاعرنا، إننا مرغمون على دفع طنّ من المشاعر والذكريات والفقدان والتخلي، ثم سنحظى بتذكرة الرحيل، نعم لقد قطعت بيدي حبلي السريّ، والآن خرجت إلى الحياة. وداعاً سوريا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard