تصبح سوريا صالحةً للعيش أحياناً، برغم كل المتاعب التي تمرّ بها، مع وجود فعاليات ثقافية يتبنى القائمون عليها مبدأ العمل الجماعي لإيصال رسائل مجتمعية محمّلة بطاقات حبّ وفرح وأمل بمستقبل، تعين على متابعة حياة أقل ما يقال عنها إنها لا تشبه الحياة، منها "كورال غاردينيا" المكون من فتيات سوريات يثبتن مع مرور الأيام قوة المرأة السورية وقدرتها على النهوض بمجتمع أنهكته الحرب.
وبرغم مرور خمس سنوات على لقائي الأول به، لن أستطيع يوماً نسيان تفاصيل ذلك اليوم في مدينة جرمانا حين غنّين أغاني شارات أفلام الكرتون، كجزء من برنامج بعنوان "ما أحلى أن نعيش". أعدنني خلاله طفلةً صغيرةً، وثبّتن الزمن في تلك اللحظة من الماضي حين كانت سوريا التي نحبها جميلةً، لا تشبه حالها الآن.
كتلة من المشاعر الغريبة المتضاربة تكبر، لكن هناك من يصرّ على أن يعيدك في الزمن طفلاً لتعيش ذاكرة حياة كاملة، بينما شباب وصبايا "كورال تناغم" في أعمار الورد يمدّونك بطاقة فرح هائلة وهم يغنّون.
في الحرب... النساء يستطعن صنع التغيير
تقول المديرة الإدارية للكورال، سفانة بقلة: "أعرف غادة حرب منذ أن كنت طالبةً في المعهد العالي للموسيقى، وكانت حينها تدرّس في المعهد كمساعدة مع أستاذ الكورال الروسي فيكتور بابينكو، وتأتي برفقة ابنتها الصغيرة التي حين تجلس لا تصل قدماها إلى الأرض. أما الآن فقد أصبحت جزءاً من كورال غاردينيا".
تصبح سوريا صالحةً للعيش أحياناً مع وجود فعاليات ثقافية يتبنى القائمون عليها مبدأ العمل الجماعي لإيصال رسائل مجتمعية محمّلة بطاقات حب وفرح وأمل بمستقبل، تعين على متابعة حياة أقل ما يقال عنها إنها لا تشبه الحياة، منها "كورال غاردينيا"
وتضيف: "تعرفت إلى غادة بشكل أفضل بعد التخرج، حين عملنا معاً ضمن كورال الحجرة، ثم تركنا العمل في الفترة نفسها تقريباً. أما فكرة تأسيس كورال غاردينيا فقد بدأت عام 2016، في فترة اندلاع الحرب السورية، حين كنا نبحث عن جدوى في ما يخص حياتنا الموسيقية".
كانت لدى غادة حرب، وهي مغنية أوبرا وأول امرأة تقود كورالاً في سوريا، فكرة تأسيس كورال نسائي، فطلبت من سفانة أن تكون مديرة الفرقة. وهكذا بدأ مشروع مستقل وتكونت فرقة مستقلة من الفتيات لأنهن أكثر التزاماً بالعمل الجماعي وقادرات على تحقيق المهام المطلوبة منهن. أحسوا حينها بأنها الفكرة الأكثر منطقيةً، فمعظم الشباب حينها كانوا مطلوبين للخدمة العسكرية، ويحاولون البقاء مختفين عن الأنظار، أو راغبين في السفر.
بدأن التواصل مع الصبايا لتدريبهن، وجميعهن من خريجات أو طالبات المعهد العالي للموسيقى، وهكذا تأسس كورال متعدد الأصوات مكوّن من 20 فتاةً يعتمد على تقنيات الغناء الجماعي متعدد الأصوات. منذ سبع سنوات وحتى الآن نصف الكورال تقريباً هو من المؤسسات، أما البقية فقد تبدلن لأسباب عديدة وهو أمر طبيعي مع كورال بهذا الحجم.
أول مشروع قدّمه كورال غاردينيا هو "ريبرتوار كلاسيكي" لأعمال مخصصة لكورال نسائي متعدد الأصوات، حيث أعدن تنظيم الأصوات لتناسب تشكيلة الكورال. لم يكن حفل الإطلاق مميزاً جداً، سوى بالإعلان عن الكورال، فقد أصبحت الفرقة موجودةً ولها شكل وعمل جماعي ناجح وخطت أول خطوة لها وبدأت العمل.
تقول سفانة: "قلنا إننا لا نريد إعادة أفكار مقدّمة ولا نريد القيام بربرتوارات كمعظم الكورالات التي تعيد أعمالاً موزعةً، بل نريد العمل على مشاريع خاصة بنا، من الألف إلى الياء، من الفكرة إلى المضمون للتوزيع الموسيقي ولإدارة الإيفنتات الموسيقية".
كانت الحفلة الثانية حفلة شارات أغاني الكرتون "ما أحلى أن نعيش"، حيث تم انتقاء شارات مميزة موسيقياً تمثّل فترةً مهمةً في ذاكرة السوريين من جيل ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وتم توزيعها خصيصاً لكورال الفتيات وقدّمت في دار الأوبرا، مسرح الدراما. وبعدها انتشرت الفيديوهات التي تم وضعها على يوتيوب بشكل كبير وانحفر الحفل في ذاكرة السوريين، وأعيد تقديم المشروع نفسه في المحافظات ودمشق، وفي كل مرة كان يمتلئ المسرح والبطاقات تباع جميعها.
بعدها عملن على مشاريع خاصة أصلية ومشروع واحد هو إعداد موسيقي، ففي عام 2017، قدّموا لأول مرة على منحة إنتاجية من المورد الثقافي لمشروع تجميع أغاني الزفاف التقليدية السورية من كل المناطق والإثنيات "زغاريد سورية"، 14 "ميدلي" لكل منطقة أو مكون إثني في سوريا، وأنتجن ألبوماً قُدّم في حفلة في بيروت بالتعاون مع اليونسكو، بعدها بعامين فاز كورال غاردينيا بجائزتين خلال مشاركته في مسابقة كورالات الشرق الأوسط في دبي في الإمارات العربية المتحدة، هما جائزة أفضل كورال إقليمي، وجائزة أفضل كورال نسائي مشارك.
وفي عام 2019، وبمنحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون "آفاق"، انطلق مشروع آخر بعنوان "نساء عشقن الإله"، حيث تم اختيار تسع قصائد صوفية لشاعرات متصوفات مهمشات في التاريخ لحنها عدد من الملحنين بينهم سفانة بقلة وغادة حرب وسُجلت في ألبوم تم إطلاقه قبل انتشار جائحة الكوفيد بأسبوع واحد.
لم يتوقفن برغم الجائحة
كانت فترةً عصيبةً على جميع العاملين المستقلين في الشأن الفني والموسيقي، لكن العمل لم يتوقف فوُلد مشروع مسرحية موسيقية غنائية مكتوبة خصيصاً للفرقة بعنوان "الليلة الواحدة ما بعد الألف"، وتتناول سرديات قصصيةً من "ألف ليلة وليلة" من وجهة نظر نساء لم يُعجبن بالطريقة التي تم تقديمهن بها في حكايات شهرزاد، وعُرض في دار الأوبرا السورية نهاية 2021.
يحاول كورال غاردينيا أن يخلق الأفكار والمشاريع الخاصة، لكن بالإضافة إلى الشق الموسيقي يعمل الكورال أيضاً على الشق المجتمعي من حيث نشر قيم اجتماعية يحتاجها المجتمع السوري لمواجهة العنف والجنون وتبعاتهما، ليظهر صوت فني مستقل يعبّر عن نفسه وعن شريحة من النساء الموجودات في هذا المجتمع، ويحاول إلهام الشباب وأصحاب المشاريع المستقلة والنساء بشكل مباشر أو غير مباشر كي يتحرّكن ويجرّبن حتى لو فشلن في البداية. هدف كورال غاردينيا الذي يسعى إليه هو أن يكون مشروعاً ملهماً للشباب والشابات ليفكروا في إنتاج مشاريعهم/نّ الخاصة.
بالإضافة إلى الشق الموسيقي يعمل الكورال أيضاً على الشق المجتمعي من حيث نشر قيم اجتماعية يحتاجها المجتمع السوري لمواجهة العنف والجنون وتبعاتهما، ليظهر صوت فني مستقل يعبّر عن نفسه وعن شريحة من النساء
تقول سفانة: "التحديات كبيرة لأي مجموعة عمل تحاول أن تعمل بشكل مستقل في سوريا لأسباب كثيرة، وكوننا نساءً قياديات وإداريات لمشروع مستقل فهذا بحد ذاته يواجَه بنظرة تشكك في الإمكانات الموجودة والمتاحة. في البداية كنا نبذل الجهد لنثبت أنه غير منطقي وغير منصف، ولكن بعد كل ما حققناه لم نعد نلتفت إلى هذا الأمر".
"تناغم" السلام والتماسك المجتمعي
لم يتوقف كورال غاردينيا عند هذا الحد. ففي عام 2019، تم إنشاء كورال تناغم، وهو مشروع موسيقي مجتمعي بالتعاون مع UNDP، الهدف منه نشر قيم السلام والسلم الأهلي وفتح الحوار بين الشباب والترويج لقيم التماسك المجتمعي باستخدام الموسيقى، حيث كانت البداية مع مجموعة صغيرة في منطقة صحنايا التابعة لريف دمشق كونها منطقةً متنوعةً طائفياً تقطنها أعداد من النازحين والمقيمين، وتعاني من بعض التوتر، فجمعوا 80 شاباً وصبيةً تدربوا ثلاث مرات أسبوعياً ونتجت عن المشروع ثلاث حفلات في كل من دمشق وريفها.
لاحقاً توسع المشروع على المستوى الوطني ليغطي المحافظات السورية كافة من حمص، حماه، طرطوس، اللاذقية، السويداء، درعا، حلب، الرقة ودير الزور، فتوسع عدد أفراد كورال تناغم ليصبح 225 شاباً وصبيةً. ساهمت فتيات كورال غاردينيا كمدربات في المشروع، وأقمن ورشات عمل ومتابعة أونلاين، وكانت مخرجات كل ورشة من الورشات حفلة في المحافظة التي تم العمل فيها، ثم اختتم العمل الكلي في جميع المحافظات بحفل واحد ضم الجميع على خشبة دار الأوبرا السورية.
"كان الحدث مبهجاً؛ مجتمع فريد من نوعه يمثل سوريا التي نحلم بها ونسعى إليها، وكم من الأشياء الجميلة التي نستطيع صنعها معاً إن كنا نملك مساحةً آمنةً، مستقلةً وحرةً وصادقةً وهذا الأهم"، تضيف سفانة.
أذكر أن الكهرباء، في إحدى الحفلات في خان أسعد باشا، انقطعت لمرات متتالية وبرغم ذلك تابع الكورال أداءه وصدحت أصواتهم/نّ عالياً ضمن فضاء الخان، فغزلوا خيوط العتمة ليحولوها إلى ملاءة من ضوء. أجل، إنهن يستطعن، وسيكملن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...