في إطار التعاون المتبادل بين مسرح الشمس في الأردن ومديرية المسارح والموسيقى في دمشق، عُرضت مسرحية "ادفع ما تدفع" المأخوذة عن نص للكاتب الإيطالي داريو فو (1926-2016)، عنوانه في الإيطالية "نون سي باغا؟ نون سي باغا!"، بمعنى "لا يمكنك أن تدفع؟ إذاً، لا تدفع!"، ويقال إن عنوان المسرحية استُخدم لاحقاً كنوع من شعار مناهض لـ"وول ستريت".
العرض الذي قُدّم على مسرح الحمرا بدمشق، ليومين متتالين، لعب بطولته كلٌّ من أحمد سرور وعدي حجازي وروسن حلاق وحياة جابر وسعيد مغربي، وصمم الديكور له بهاء سلمان، بينما وضع الموسيقى موسى قبيلات، وأشرف على إعداده وإخراجه الدكتور عبد السلام قبيلات. كانت هذه المسرحية باكورة أعمال مسرح الشمس الذي تأسس في الأردن في العام 2016، وقُدّمت على خشبته كأول عرض مسرحي له في العام 2017.
تبدو مسرحية "لا تدفع الحساب"، الأكثر جاذبيةً للمخرجين العرب، من ضمن النصوص التي كتبها داريو فو، والتي كان أشهرها عربياً "موت فوضوي صدفةً"، ما يؤكد على ذلك تكرار إعادة إنتاجها، فلقد سبق للفنان السوري أيمن زيدان أن قدّمها ثلاث مرات في فترات زمنية متباعدة ومع ممثلين مختلفين.
لكن في المقابل، لم يكن داريو فو، ولا حتى نصوصه التي كُتبت للشعب وتناولت قضايا العمال والبسطاء موضع إعجاب من بعض من يصفون أنفسهم بجهابذة النقد العربي؛ فكتابته لنصوص تعتمد في معظمها على "الكوميديا دي لارتي"، أي الكوميديا الشعبية أو المرتجلة، وتتويجه في العام 1997 بجائزة نوبل، جعل بعض النقاد، وتحديداً غير المختصين في المسرح يصفونه بالمهرج، لأنه اتّبع مدرسة الكاتب روتزانتي مؤسس "الكوميديا دي لارتي"، بل أكثر من ذلك عدّوه مهرّجاً يمتدح مهرّجاً، ويرفع "الكوميديا دي لارتي" إلى مستوى رفيع، وأنه لولا جائزة نوبل التي حصل عليها من دون استحقاق بحسب كلامهم، لما نال شهرته، وهذا بطبيعة الحال كلام لا يمكن الموافقة عليه من قبل دارسي المسرح والعاملين فيه.
حاول فو الشيوعي اليساري، عبر مسرحيته "لا تدفع الحساب"، انتقاد النظام الرأسمالي العالمي خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى التي عاشتها إيطاليا في فترة سبعينيات القرن الماضي، وتدور المسرحية بشكل مختصر جداً حول تلك الأزمة
ذلك لأن داريو فو ومسرحه الشعبي لقيا رواجاً جماهيرياً، ليس فقط في إيطاليا، وإنما في العالم كله، بسبب ملامسة فو الواقع ونقده إياه، وليس فقط بسبب حصوله على جائزة نوبل، وخير مثال على ذلك عروض "الأسرار الكوميدية" أو "ميستيرو بوفو" التي قُدّمت لأكثر من ألف مرة على مدار ثلاثين سنةً، في كل من إيطاليا وأوروبا وكندا وحتى أمريكا اللاتينية. لكن المؤكد أن توجهه السياسي الذي رسمه في أعماله أثار أنصار الفاشية واليمين المتطرف، خاصةً حين كرّس طاقاته الإبداعية لفضح جرائمهم وفسادهم وعنصريتهم، وجعلهم كما ذكر بنفسه "مضحكة العالم".
حاول فو الشيوعي اليساري، عبر مسرحيته "لا تدفع الحساب"، انتقاد النظام الرأسمالي العالمي، خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى التي عاشتها إيطاليا في فترة سبعينيات القرن الماضي. تدور المسرحية بشكل مختصر جداً حول تلك الأزمة من خلال حكاية واقعية جرت لمجموعة من النساء الإيطاليات اللواتي سطون على متجر لبيع الأغذية، فسرقنه احتجاجاً على غلاء الأسعار، لكن عودتهن محملات بكل تلك المسروقات ستثير الشك والريبة لدى الأزواج والشرطة، لذا اختلقوا قصة حملهن المفاجئ، وهكذا ستجري الأحداث بطريقة كوميدية لنتعرف على حياتهن البائسة، لنكتشف لاحقاً أن فقرهن جعلهن لا يميزن في عملية السطو تلك، بين الأغذية الصالحة للاستهلاك البشري وأغذية الحيوانات والطيور. إنهن فقيرات إلى درجة لا يفكرن معها في إنجاب الأطفال، ولا يعرفن ما تحتويه رفوف السوبر ماركت من منتجات.
وبالعودة إلى العرض الأردني "ادفع ما تدفع"، فإن المخرج كان قد اطّلع على النص باللغة الروسية وأعجبه. يقول لرصيف22: "أعجبني كثيراً إلى درجة أن الرؤية الفنية ظهرت في مخيلتي مباشرةً حالما انتهيت من قراءته. كنت أراها شخصيات كاريكاتوريةً تتخبط في صراعها مع واقعها، معتقدةً أنها تستطيع التحايل عليه لحل مشكلاتها المعيشية الصعبة، ولكنها تقع في مفارقات طريفة بسبب بساطة طبيعتها كشخصيات، متابعاً: حين كتب فو النصَّ في السبعينيات، كان يعتقد أن الرأسمالية في طريقها إلى الانهيار كنظام اقتصادي. كان متفائلاً أو متسرعاً. لاحقاً. قرأت النسخة العربية التي كانت بحوزة الفنان أيمن زيدان، والتي ترجمها الدكتور نبيل حفار عن الألمانية، وقام بكتابتها بالعامية، وباشرت إعداد الصيغة الأردنية، لهجةً وشخصيات، فحذفت مشاهد وأضفت مشاهد للغوص في الواقع الأردني".
تبدأ مسرحية "ادفع ما تدفع" بطريقة غير تقليدية، وكأننا أمام لعبة مسرحية، أو لنقل أمام مسرح داخل مسرح. إنها أكثر العروض قرباً من فلسفة فو، فشخصياته كانت توجه خطابها مباشرةً إلى الجمهور، وكأنها في حالة اعتراف، وهو تماماً ما قام به المخرج حين جعل الممثل يخاطب الجمهور في بداية العرض، ويعترف له بأن هذه الأحداث لا تمتّ بصلة إلى الأردن، بل هي مجرد مسرحية إيطالية، وأحداثها وشخوصها إيطاليون.
كما أنه احتفظ بأسماء الشخصيات الأصلية لمتابعة لعبته، وجعل الممثلين بين الحين والآخر يرمون بنكاتهم المرتجلة والمضحكة والمستمدة من الشارع السوري نفسه، وهو ما عُدّ أحد مميزات الكوميديا الشعبية. ساعده على ذلك أن النص مكتوب بطريقة كوميدية تستند إلى المواقف الإنسانية إلى درجة أن النكتة فيه جاهزة لأي بلد وأي لغة وثقافة في العالم. أكثر من ذلك، تعمّد المخرج إلغاء الكواليس حين جعل الممثلين يجلسون على خشبة المسرح كمشاهدين طوال فترة العرض، برغم انتهاء دورهم، وكأنه أراد أن يكسر الإيهام والجدار الرابع بين الجمهور والعرض.
وكان أجمل ما في العرض الحضور الأخّاذ لكل الممثلين على الخشبة، وإتقانهم والتزامهم بالمساحة التي خصصها النص والمخرج لإبراز كلّ شخصية على حدة، وكأن الشخصية تدخل لتؤدي نوتةً تمثيليةً منفردةً لا تقل أهميةً من ممثل إلى آخر، والأهم اكتشاف الجمهور لممثلات المسرح الأردني، مثل روسن حلاق وحياة جابر، اللتين ظهرتا وكأنهما خارجتان من البيئة الكوميدية الشعبية بملابسهما وحركاتهما العفوية، خصوصاً روسن حلاق التي ظهرت بغطاء الرأس على الخشبة في ظاهرة لافتة ونادرة على خشباتنا، فلامست الجمهور بشكل كبير.
أما على صعيد الديكور، فقد صمّمه بهاء سلمان بطريقة كاريكاتورية ورمزية شديدة، ليمثّل منزلاً يضم سريراً وطاولة طعام وجزءاً من مطبخ وشبّاكاً يطل على الشارع الخلفي مع باب خشبي تدخل منه وتخرج شخصيات العمل، ووضع في الخلفية لوحةً كبيرةً تشير إلى مدينة عمان، وهو الديكور نفسه الذي استخدمه المخرج منذ العرض الأول للمسرحية في العام 2017.
وتأتي الموسيقى التي قدّمها موسى قبيلات كعنصر أساسي وداعم للعرض، فلولاها لما انفعل الجمهور بكل تلك الطريقة وتابع الأحداث بذلك التشويق كله.
الجمهور السوري متعطش إلى أي عرض مسرحي يحترم عقله ويعرض صورته ومشكلاته، فما بالك في حال كان العرض عربياً بعد كل تلك القطيعة؟
في النهاية، تفاعل الجمهور السوري مع العرض بشكل مذهل برغم أنه قُدّم بالمحكية الأردنية، لكنه ربما ضحك في أماكن مختلفة عن الأماكن التي أضحكت الجمهور الأردني. وهذا ما يفسر لماذا كان فو يؤمن بفكرة الارتجال والتعديل على النص مع كل نسخة جديدة وجمهور جديد، كما أن صالة العرض ضمت جمهوراً من عشاق المسرح والعاملين فيه من ممثلين ومخرجين ونقاد، جنباً إلى جنب بعض الفئات الشعبية، وهو ما لا يحصل عادةً مع عروض المسرح القومي. وهذا وحده إشارة كافية إلى أن الجمهور السوري متعطش إلى أي عرض مسرحي يحترم عقله ويعرض صورته ومشكلاته، فما بالك في حال كان العرض عربياً بعد كل تلك القطيعة؟ سبق أن حصلت التجربة نفسها مع مسرحية "لقمة عيش" التي قدّمتها العام الفائت فرقة مسرح الدن العمانية، ولاقت انتشاراً كبيراً على الرغم من اختلاف اللهجة.
الجدير ذكره أن مسرح الشمس هو مكان تنتَج فيه المسرحيات وتقام فيه التدريبات والعروض، ويحرص مؤسسوه على إنتاج عروض تقدّم المتعة الفنية مع جرعة فن، لكنه لا يتلقى أي دعم مادي، سواءً بشكل رسمي أو خاص، ويعتمد تماماً على شبّاك التذاكر وتأجير قاعات المسرح، ومؤخراً حصل على دعم من جمعية الثقافة العربية في الأردن، عبر مبادرتها "زاد الفنون"، وصندوق سمير عبد الهادي للثقافة والفنون لتغطية جزء مهم من كلفة المسرح التشغيلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...