طوال مدة العرض المسرحي "بوسطة" كان يجول بخاطري سؤال، وهو هل كان سيكون أفضل إذا كان العرض عبارة عن تحويل كتاب "رسائل سقطت من ساعي البريد" للكاتب يوسف الدموكي إلى عرض مسرحي، أم أن ما رأيناه بالعرض من اسكتشات ارتجالية وثم صياغتها هو الأفضل؟
ومصدر السؤال أن العرض بحديثه عن الرسائل أحالني لذلك الكتاب الذي لمسني بشدة وجعلني أبكي، بل أعتقد أنه بإمكانه لمس أي شخص قرأه أو ينوي قراءته. ولكي نجد إجابة السؤال دعنا نقرأ العرض (نحلله)، فقد كان عرض "بوسطة" من صياغة وإخراج خالد جلال هو نتاج تخرج شباب الدفعة الثانية من ورشة استوديو خالد جلال، وتم عرضه على خشبة مسرح السلام ضمن عروض المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السادسة عشرة دورة الزعيم عادل إمام.
بريخت حياً بالإكراه
اشتهر بريخت (1898-1956) بأنه مؤسس المسرح الملحمي، فهو من وضع قواعده، وكتب عن أسسه التي منها هدم الجدار الرابع، وهو العنصر المعني بكسر الإيهام، وجعل المتفرج يُدرك أنه يشاهد لعبة مسرحية وعدم الانغماس فيها، وما كان من مخرج العرض إلا أن حقق هذا في بداية ونهاية العرض؛ حيث نُفاجأ بخالد جلال على خشبة المسرح عندما يُفتح الستار، نندهش بأنه يُعرفنا على موضوع العرض وشرحه لعنوان العرض بحديثه عن البوسطة والرسائل وأهميتها، ولكنه ختم بأن أفضل من يستطيع وضع تعريف للرسالة هم الشباب الذين خلفه وسنرى تعريفاتهم على مدار العرض.
عرض "بوسطة" من صياغة وإخراج خالد جلال هو نتاج تخرج شباب الدفعة الثانية من ورشة استوديو خالد جلال، وتم عرضه على خشبة "مسرح السلام" ضمن عروض المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السادسة عشرة
أما عن نهاية العرض فكانت لا تختلف كثيراً، فقد خرج أحد الشباب الممثلين وهو ناجي عبود قائلاً: "هم فين، وواضح أن العرض خلص". وعن الوسط وما يتضمنه العرض، فهو بالضبط ثاني عنصر من عناصر المسرح البريختي الذي كان عبارة عن مشاهد متفرقة، لا تتفق زمنياً أو مكانياً ولكن الرابط هو الموضوع الأساسي، وفي حالة "بوسطة" كانت اسكتشات الارتجال التي أعدها الشباب أثناء ورشتهم، والرابط بين هذه الاسكتشات أن جميعها بها رسائل، والفواصل بين كل مشهد والذي يليه، أن المشهد يسبقه تعريف للرسالة وفقاً لما يحتويه المشهد من قصة، عبر مجموعة من الشباب يقفون في بؤرة ضوء ومن بينهم فتاة ترتدي جاكيتاً أحمر وقبعة إشارة للبوسطجي قديماً.
رسالة-خطاب
الإشكالية الأزلية التي ينقسم حولها ليس المبدعون فقط، بل الجمهور المتلقي، تكمن في سؤال: هل الهدف من وجود الفن في العموم والمسرح خصيصاً هي أن يكون له رسالة سامية، أم أن الفن موجود لأن به روحاً وحياةً، ولا داعي للخطب الرنانة؟ في اعتقادي الشخصي إن هذا الانقسام نابع أساساً من فكرة تباين تعريف الرسالة من شخص لآخر، فهناك فنانون ومبدعون تتلخص رسالتهم في إمتاع الجمهور فقط، بغض النظر عن الموضوع المُقدم في العمل، وهناك من يسعى على الدوام لأن يكون فنه عبارة عن خطبة رنانة.
أما ما حدث في عرض "بوسطة" فهو مزيج من كل ما سبق، فكلمة رسالة وصلت بالمعنيين؛ المعنى القريب الموجود بكل المشاهد، وهو رسالة تعني أن هناك راسلاً ومُرسلاً إليه مكتوب اسمهما على ورقة، والمعنى البعيد لكلمة رسالة والمقصود به توجيه وإعمال فِكر المتلقي الحاضر للعرض، ليس في موضوع بعينه، بل في موضوعات حياتية اجتماعية ووطنية مختلفة.
مشاهد خطابية
قد تجدوني متذبذبة في وصف ما رأيناه بين كلمة مشهد وكلمة اسكتش، فقط كي لا أبخس حق المشاهد المتميزة والأداء الجيد بأقدام المشاهد أو بالأحق "الاسكتشات" التي مرت مرور الكرام أو بها أداء مفتعل زيادة عن اللزوم وصراخ أمام ميكروفانات خشبة مسرح السلام التي لا تحتاج هذا الصراخ، وبهذا أعتقد أن الفرق بين ما نقول عنه مشهد وما نقول عنه اسكتش قد توضح؛ فكلمة "اسكتش" أصلها إنكليزي، وتعني الرسم المبدئي الكروكي، وهو أدق تعريف يمكن وصف مشاهد عديدة تضمنها العرض.
وقد كان أول مشهد يتضمنه العرض يحمل رسالة عن الحب وأنه أهم شيء في العالم، والأهم هو حب الله. هذه هي الرسالة المراد إيصالها للمشاهدين، أما الرسالة المكتوبة في المشهد فكانت حين طلب المعلم الكفيف من طلابه أن يكتبوا رسالة لمن يحبونه وتنوعت الرسائل بين من يحب والديه ومن تحب زميلها ومن يحب الأكل ولكنه تغير.
أما عن ثاني مشهد فكان مضمونه عن: إن كان باستطاعة الحيوانات الحديثَ، ماذا كانت ستقول أمام عنف البشر وغياب الإنسانية؟ وتميز هذا المشهد دون غيره باللمسة التعبيرية حيث نرى فتاة باليرينا تدور، ممثلة روح الحيوان التي كانت تؤديه فتاة تسير على أربع، ولا نعلم هل هي قطة أم كلب أم حيوان آخر.
وفي الحقيقة لا يهم التحديد فالرسالة لأجل الحيوانات والإنسانية وليس لكائن بعينه، وينتهي المشهد بموت "الحيوان" مسمماً في غفلة، ظناً منه/منها أنه إنسان طيب وضع الطعام بنية حسنة مشفقة، وحين تموت تسقط البالرينا صريعةً بجانبها.
وتوالت المشاهد التي بها حِكم وخُطب، كمشهد السكرتيرة الجديدة التي قدم لها المخترع (عصام) قلماً كاختراع، ولكنها حيلة ستؤدي لرسالة وحكمة، فقد أخبرها أن ترفع القلم وتقول لمن أمامها إنه جميل، ويسعد مَن أمامها بالإطراء. وفي نهاية المشهد يترك لها رسالة مكتوبة مخبراً إياها أنه "لم يكن اختراعاً، فالاختراع الحقيقي هو الكلمة الطيبة". ظللت مندهشة من جمال الرسالة التي وصلت بسياق خاطئ يُعلّم من يقبل على الحياة ومعاركها النفاقَ؛ فما حدث ليس إلا نفاقاً مع رئيس شركة.
وكي لا نغلق قوس الموضوعات والرسائل، حيث حين نشاهد العرض سنقول لأنفسنا إن هذا العرض يمكن أن يستمر لساعات وأيام إذا استمر على هذا المنوال؛ فالحديث عن الأم تكرر لدرجة الملل واندهاش من التكرار الذي بلا طائل، بالأخص الرسائل للأم المتوفاة، وللحديث عن الأم التي على قيد الحياة، فنرى الأم الغارمة من أجل تزويج ابنتها، ومن موقعي أتساءل عن غياب رسالة للأم التي على قيد الحياة في العموم دون كفاح مع الفقر ورسالة للأب المهدور حقه!
وبجملة الرسائل التي تُعد كليشيه لأنها طُرحت دون تجديد، هو مشهد للحديث عن المخدرات وتأثيرها وعودة الشباب للصواب واستغلالهم للفرصة الثانية، ومشهد الهجرة غير الشرعية.
برغم جميع المشاهد الكليشيه وتأثيرها في المشاهدين إلا أنه في النهاية لم يَخطف أنفاسَنا وضحكاتنا سوى الذكاء والكوميديا، على غرار المشهد الذي بطله علي قنديل، وهو الممثل الذي سبق له الوقوف على خشبة المسرح هو وفتاة أخرى، في حين أن باقي الشباب يقفون لأول مرة على خشبة المسرح على قول المخرج أكثر من مرة. وكان مشهد علي قنديل به رسالة اعتذار في نهايته لحبيبته التي حدث بينهما انفصال. يأتي الاعتذار بعدما ذاق التعرف على فتاة غيرها غاية في البخل، فإن أردتم أن تبحثوا عن رسالة معنوية بالمشهد فملخصها ومفادها هو أن الإنسان لا يدرك قيمةَ ما بيده إلا إذا فارقه.
ولكن العجيب أن تيمة البخل تكررت في مشهد كوميدي آخر، كان عبارة عن زوجة تعاني من بخل زوجها الشديد إلى أن يصل خطاب من البنك تعلم منه أن زوجها لديه مليون جنيه، فتختلق حيلة أنها ورثت ثمانية ملايين جنيه ولكن لتستلمها عليها دفع مليون للضرائب؛ وبهذا يطمع زوجها وتهرب هي بالمال وتخلعه مُرسلة له رسالة شكر وتخبره بالخلع.
الإشكالية الأزلية التي ينقسم حولها ليس المبدعون فقط، بل الجمهور المتلقي: الهدف من وجود الفن في العموم والمسرح خصيصاً هي أن يكون له رسالة سامية، أم أن الفن موجود لأن به روحاً وحياة ولا داعي للخطب الرنانة؟
وهنا يتوجب السؤال لمن صاغ وأخرج، لماذا التكرار؟ لماذا وضعت اسكتشات ارتجال الشباب دون مناقشتهم في تغيير الموضوعات؟ صحيح أنك حافظت على إيقاع العرض بعناصر أخرى كترتيب المشاهد والمزج بين المأساوي والكوميدي، وأيضاً الإضاءة التي صممها (أحمد عبد التواب ووليد فوزي)، وتخلل الموسيقى وجود من لديه موهبة الغناء ضمن الممثلين وموهبة إلقاء الشعر، ولكن كل هذا لم يكن كافياً لمدراة الإطالة والتكرار بلا داعي.
أما عن ثاني سؤال للمخرج خالد جلال هو بما أن العرض إنتاج شركة وليس مجرد ميزانية ضعيفة أو إنتاج ذاتي كما في بعض العروض المسرحية، فهي شركة كينج توت للإنتاج الإعلامي فلماذا الاقتصاد؟ لماذا ديكور العرض فقط عبارة عن أن الحوائط الثلاث للخشبة هي لوحات أو بوسترات متينة عليها صور رسائل وأظرف وفي المنتصف صورة الصندوق البريدي الذي كان يوضع في الشوارع ملازماً للبيوت، وبضعة كراسٍ وملابس بيضاء للفريق أيًا كان المشهد سوى ما يسقط سهواً كجلباب أسود لأم، أين الإكسسوارات؟ أين الشخصيات؟ بالفعل لم تكن سوى اسكتشات تحتاج مجهوداً أكثر من هذا.
في نهاية الحديث العرض أصبح كالكتاب غلافيه يظهر بهما خالد جلال مع حفظ الألقاب وفي ظهره الشباب، وبين دفتي الكتاب عدد من المشاهد والاسكتشات نشكر الشباب عليها مهما لم يوفقوا في بعضها، فشغفهم واضح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه