يبحث الإنسان عما يعرف بـ"الراحة الحرارية" التي تشعره بالرضى دون الإحساس بالبرد أو الحر الشديدين، وهو أمر لم يتمكن إبراهيم الأسمر وزوجته صباح مصطفى، من الإحساس به في شقتهما الصغيرة الواقعة في الطابق السادس قبل الأخير ضمن إحدى عمارات ضواحي محافظة الجيزة، خلال الأسابيع الأخيرة التي ترافقت مع حر غير مسبوق.
إبراهيم تأثرت مهنته كنجار موبيليا بالظروف الاقتصادية شديدة الصعوبة في مصر، وبات غير قادر على شراء جهاز تكييف جديد لتبريد شقته، بعد بلوغ درجة الحرارة 41 مئوية في شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس، ودفعته ظروفه لشراء جهاز متهالك (نصف عُمر) من الأسواق الشعبية.
على بعد كيلومترين من وسط القاهرة تقع عزبة أبو حشيش، التي تضم في محيطها أكبر سوق لبيع السلع المنزلية والأجهزة الكهربائية المستعملة، واشتهرت مؤخراً ببيع أجهزة التكييف. هناك وقف إبراهيم يبحث عن جهاز يناسب قدرته المالية، بغض النظر عن قدرته على دفع فاتورة استهلاك الكهرباء الكثيف بالنسبة لجهاز مستعمل، ووقع اختياره على جهاز قديم بقدرة 1.5 حصان، ليحقق به أحد أحلام أسرته البسيطة في مواجهة جحيم ارتفاع درجات الحرارة.
معظم أجهزة التكييف في مصر غير مطابقة للمواصفات القياسية ومن بينها أجهزة متهالكة.
وقد شهدت أسواق بيع أجهزة التكييف في مصر هذا الصيف إقبالاً كثيفاً على الشراء، ولم يكن العامل الأساسي في الاختيار هو مدى كفاءة تلك الأجهزة أو توفيرها للكهرباء، وإنما الظروف الاقتصادية المتردية التي يعاني منها معظم المصريين.
لكن ذلك يؤثر دون شك على البيئة، فمع استهلاك أجهزة التكييف الكبير للكهرباء، من المهم اقتناء مكيفات حديثة توفر في الاستهلاك وتساهم في استقرار الشبكة وتخفض الانبعاثات الكربونية، لكن هذا الأمر ليس واقعياً على الدوام.
وقد أشارت الوكالة الدولية للطاقة في تقرير لها صدر في تموز/ يوليو الفائت، إلى أن الحرارة الشديدة تؤدي إلى زيادة الطلب على مكيفات الهواء، مما يعزز المبيعات الأسبوعية بحوالى 16٪ وسط موجة الحر العالمية الحالية، وزادت عمليات البحث على محركات البحث مثل غوغل عن مكيفات الهواء بنسبة 25٪ عالمياً مقارنة بالعقد الماضي.
خطة "مهددة"
كشف مصدر في اللجنة الفنية للرقابة على الصادرات والواردات في مصر المعروفة بلجنة رقم (1/17)، بأن أجهزة التكييف غير المطابقة للمواصفات الفنية ومنخفضة الكفاءة تهدد استقرار الشبكة الكهربائية، وتزيد الطلب على الكهرباء، وترفع نسب الانبعاثات الكربونية الصادرة عن إنتاج الكهرباء.
وأضافت مديرة وحدة كفاءة الطاقة بوزارة الكهرباء المهندسة تغريد أحمد في حديثها لرصيف22، بأن ارتفاع الطلب على الكهرباء يزيد من سخونة الأجواء، نظراً لما ينتج عنه من انبعاثات كربونية، وخاصة ضمن المناطق كثيفة الاستهلاك للكهرباء بفعل أجهزة التكييف غير المطابقة للمواصفات والمتهالكة.
شهدت أسواق بيع أجهزة التكييف في مصر هذا الصيف إقبالاً كثيفاً على الشراء، ولم يكن العامل الأساسي في الاختيار هو مدى كفاءة تلك الأجهزة أو توفيرها للكهرباء، وإنما الظروف الاقتصادية المتردية التي يعاني منها معظم المصريين
وأوضحت المتحدثة بأن حجم استهلاك القطاع المنزلي في مصر يزيد عن 40% من إجمالي إنتاج الكهرباء، بينما يتكون مزيج إنتاج الكهرباء في مصر من مصادر تعتمد بثلثيها على الوقود الأحفوري والبقية من الغاز الطبيعي.
بعيداً عن الرقابة
أكد المهندس عمر فتحي عضو اللجنة الفنية في إدارة الاختبارات في هيئة المواصفات والجودة، ومدير معمل الاختبارات الفنية في هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة، بأنه وفقاً لآخر الإحصائيات للعام 2022، يوجد في مصر نحو 700 ألف جهاز تكييف، وهو الذي تم حصره وفقاً لمعامل الاختبارات، وبحسب دراسات اللجنة سيزيد العدد بنحو 5.7% سنوياً مع ارتفاع درجات الحرارة المتوقعة.
وأشار فتحي إلى أن نسب استهلاك الكهرباء لأجهزة التكييف في القطاع المنزلي في مصر تبلغ 14% من إجمالي الاستهلاك، مؤكداً أن 85% من أجهزة التكييف في مصر غير مطابقة للمواصفات القياسية لكفاءة الطاقة ومن بينها أجهزة متهالكة، و15% فقط مزودة بتقنية حديثة -إنفرتر- تعمل على خفض استهلاك الكهرباء.
ووفق جولة لرصيف22 في السوق المصرية، فإن عدداً كبيراً من أجهزة التكييف هي ذات تقنية تقليدية مقارنة بالأجهزة المزودة بالتقنيات الحديثة التي تعرف بخاصية الإنفرتر- inverter، والتي تعمل على تعديل استهلاك الكهرباء وفقاً لدرجة حرارة الغرفة.
وفي هذا السياق يقول ماريو مجدي مهندس صيانة أجهزة التبريد والتكييف في أحد مراكز الصيانة، بأن سوق بيع أجهزة التكييف في مصر منقسم إلى قسمين: الأول الشعبي والثاني التوكيلات والعلامات التجارية، والمعيار الثابت في الشراء لدى زبائن الاثنين هو سعر الجهاز، فلا يوجد من يبحث عن كفاءة الاستهلاك، والأغلبية يبحثون عن السعر والشكل واللون، وإن كان الجهاز يستخدم صيفاً شتاء.
الزيادة في الطلب على الكهرباء تساهم في زيادة الانبعاثات الكربونية، وتهدد مساعي الدولة نحو مواجهة تغير المناخ.
ويضيف مجدي في حديثه لرصيف22: "أجهزة التكييف المزودة بخاصية الإنفرتر في مصر باهظة الثمن بالنسبة للأسر المصرية متوسطة الدخل، لذلك لن تجدها إلا في منازل الفئة الأغنى، وهذا يفسر أن أعدادها مقارنة بأجهزة التكييف العادية قليلة جداً".
بدوره يقول الدكتور أحمد عبد الدايم مدير العدادات الذكية في كهرباء جنوب القاهرة، بأن أجهزة التكييف كثيفة الاستهلاك تهدد الشبكة الكهربائية مع ارتفاع درجات الحرارة، وتزيد الطلب على الكهرباء، وتالياً الانبعاثات الكربونية.
ويتابع في حديثه مع رصيف22 بأن ارتفاع درجات الحرارة يزيد الحاجة لتبريد الهواء، ومع استخدام أجهزة تكييف كثيفة الاستهلاك ترتفع قيمة الفاتورة الشهرية، ما يدفع البعض لسرقة الكهرباء.
ويوضح عبد الدايم أنه خلال حملات الضبطية القضائية لشركات الكهرباء، يتم الكشف عن توصيل الكهرباء لأجهزة التكييف بطرق غير شرعية، في محاولة من المشتركين للتهرب من حساب قيمة الاستهلاك الكبيرة بسبب استخدامهم لأجهزة تكييف قديمة.
التكييف يعيق استراتيجية تغير المناخ
ومن جانبه أكد المهندس محمد سليم استشاري مشروعات الطاقة المتجددة بوزارة الكهرباء والطاقة المتجددة، أن أحد أسباب زيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من إنتاج الكهرباء في مصر هو استخدام الوقود الأحفوري في محطات الإنتاج، خاصة في ظل الأزمة الأخيرة التي أدت إلى قطع الكهرباء بسبب استراتيجية التخفيف الاضطراري للأحمال المتزايدة.
وأضاف سليم لرصيف22: "من المؤكد أن هذه الزيادة في الطلب على الكهرباء تساهم في زيادة الانبعاثات الكربونية، وتهدد مساعي الدولة نحو مواجهة تغير المناخ، خاصة وأن الحكومة لجأت إلى سد العجز في استخدام الغاز الطبيعي كوقود لمحطات الإنتاج باستخدام المازوت، وهو أحد المشتقات البترولية كثيفة الانبعاثات الكربونية، إذ ينتج عنه 1 طن انبعاثات مقابل كل 2 ميجاوات كهرباء، وهو ضعف ما يصدر عند استخدام الغاز الطبيعي، في حين أن الطاقات المتجددة لا تصدر عنها أي انبعاثات تذكر".
وضمن نفس السياق يشير كبير مستشاري وزارة البيئة والخبير الدولي في مجال التنمية المستدامة، الدكتور حسين أباظة، إلى أن استراتيجية الدولة لعام 2050 لتغير المناخ ستتأثر دون شك بالتغير الطارئ في معدلات الطلب على الكهرباء، والتراجع في استخدام الوقود منخفض الانبعاثات الكربونية، والعودة إلى زيادة نسب استخدام الوقود الأحفوري في إنتاج الكهرباء، وبالطبع فإن الأمر يصبح أسوأ مع ارتفاع درجات الحرارة وزيادة معدلات استهلاك أجهزة التكييف خاصة القديمة منها.
ويضيف الدكتور أباظة لرصيف22: "يجب على الحكومة مراجعة أنماط الاستهلاك والعمل على تعديل سلوكيات المستهلكين، مع الاتجاه المكثف إلى تخطيط المدن المستدامة، والتوقف عن إزالة الأشجار والمناطق الخضراء مقابل تنفيذ التوسعات في مشروعات الطرق، فلا مانع من توسيع الطرق مع الحفاظ على المناطق الخضراء التي تساهم في الحد من آثار ظاهرة الاحتباس الحراري".
لا يُعير الغالبية من السكان في مصر معيار كفاءة الطاقة والمسؤولية البيئية نحو بصمتهم الكربونية أية اهتمام، ربما لعدم المعرفة ولقصور في الوعي بأهمية هذه الأمور. هكذا اتخذت دنيا فوزي قرارها عند شراء ثلاثة أجهزة تكييف لشقتها الجديدة، التي عملت على تأسيسها بعد وفاة زوجها وبقائها مع أربعة أطفال في مراحل تعليم مختلفة.
عندما ارتفعت درجات الحرارة عجزت الأجهزة وتعطلت تباعاً، ونصحني مهندس الصيانة بالتخلص منها لتهالك مكوناتها، وعدم قدرتها على مجابهة ارتفاع درجات الحرارة الشديدة المتوقعة خلال الأعوام المقبلة
تقول دينا لرصيف22: "جمعت في خمس سنوات عمل متواصل بمجال الحياكة وتصميم الأزياء، وسفر وتنقل بين المعارض في جميع محافظات مصر، مبلغاً معقولاً لشراء شقة تمليك، ومع ارتفاع درجات الحرارة، اضطررت إلى شراء أجهزة تكييف. ونصحني بعض الأصدقاء بالأجهزة المستعملة، لمجرد أنها أقل تكلفة من الجديد، وكنت لا أعلم ما يحمله القدر من مفاجآت".
تضيف أنها اكتشفت بعد تجربة سنة كاملة من استخدام أجهزة التكييف المستعملة، بأنها مصدر ضرر كبير من حيث كفاءة الاستخدام واستهلاك الكهرباء. وتتابع: "عندما ارتفعت درجات الحرارة عجزت الأجهزة وتعطلت تباعاً، ونصحني مهندس الصيانة بالتخلص منها لتهالك مكوناتها، وعدم قدرتها على مجابهة ارتفاع درجات الحرارة الشديدة المتوقعة خلال الأعوام المقبلة".
لم يكن تهالك أجهزة التكييف هو الضرر الأكبر الذي تعرضت له دنيا، وإنما سبب لها حجم استهلاك الكهرباء الكبير الذي ظهر في فواتير الكهرباء بعد أول شهر صدمة أخرى، إذ فوجئت بارتفاع فاتورة الاستهلاك إلى نحو 1400 جنيه، بعد أن كانت 250 جنيه شهرياً.
قررت دنيا التخلص من هذه الأجهزة، وطلبت من أحد المهندسين أن يأتي لشرائها، والاتفاق على شراء جهاز جديد، ولكنها صدمت من قوله إنها لكونها متهالكة تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء لعدم كفاءتها، هذا بخلاف أنها تتسبب في رفع درجة حرارة الحيز المحيط بوحداتها الخارجية نظراً لكمّ الانبعاثات التي تصدرها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع