في مغامرة ميدانية اصطحبت فيها ابنتي التي لم تكمل عامها الثاني بعد، تجوّلنا في شوارع السيدة زينب، الحي الشعبي والتراثي بقلب القاهرة. مشيت بابنتي في رحلة بحث عن استوديو تصوير فوتوغرافي عتيق، كنتُ طفلة مثلها حين كان هو راسخا لا يزال في الزمن وشابّاً، لم أكن أتذكر عنوانه في المنطقة بالتحديد، ولا حتى اسمه.
كنت فقط أراجعُ ما حُفر في وجداني من أثره، منذ نحو ثلاثين سنة، حين كان عمي الراحل يصحبني إليه طوال خدمته بالقطاع الطبي في مستشفى "الحوض المرصود" بنفس الحي. أمسك بيد صغيرتي، وتلحّ على خيالي لمسة يد عمي الساحرة، الضخمة والحنونة، في آنٍ.
"استوديو الهلال"... صحتُ حين رأيت يافطته في نهاية شارع المستشفى، بجانب محل عصائر تخصص في مشروب "السوبيا". بطريقة مثيرة اختلط طعم هذا المشروب في وجداني برائحة سجائر عمي، لأن زيارتنا للتصوير في الاستوديو كانت دائماً ما تنتهي بعزومة "سوبيا". لم أغرم قط بطعمها هذه، وحاليّاً ممنوعة من تناول أي منتج يحوي اللبن بأمر طبي لأجل هذه الطفلة التي تسير معي في ذكرياتي، لكنني شعرت أن ثلاجة السوبيا تحتضنني عندما تسمَّرت أمامها دامعةً أتأمّل محل العصير ومدخل الاستوديو الصغير، كدت أجزم أن رائحة الدخان ذاتها قد اخترقت أنفي، قادمة من مكان خفي ما في تلك اللحظة.
"استوديو الهلال"... صحتُ حين رأيت يافطته في نهاية شارع المستشفى، بجانب محل عصائر تخصص في مشروب "السوبيا". بطريقة مثيرة اختلط طعم هذا المشروب في وجداني برائحة سجائر عمي، لأن زيارتنا للتصوير في الاستوديو كانت دائماً ما تنتهي بعزومة "سوبيا"
قبل هذه الرحلة ببضعة أيام، طُلب منا تقديم ثلاث صور رسمية لابنتي، ضمن عدة أوراق أخرى، لإتمام إجراءات قبولها في الحضانة.
كمصورة محترفة ولديَّ معدات تصوير حديثة، خطر ببالي أنني سأحظى بشرف توثيق أول صورة رسمية لابنتي. لكن سرعان ما تبدَّل هذا الخاطر عندما دار أمام عيني شريط طويل من الصور يربطني بمشاوير التصوير في استوديو الهلال. صور تصلني بأهلي، أمي وعمي بالتحديد، رغم رحيل جسديهما، صور تربطني بجذور حقيقية كامنة في جزء عميق داخل روحي.
عدّلت خطتي: سأبحث عن نفس الاستوديو في محاولة وصْل بين الأجيال الثلاثة، ومحاولة خلق ذكرى حية ألصقها في الصفحة البيضاء لوجدان صغيرتي.
استوديو صغير عتيق، أشعر أن لا أحد يبذل جهداً في مسح الغبار عن واجهته المكتظة بصور أشخاص من زمن مضى. كرسيّ تصوير دائري به عدة كسور، عمره من عمر المكان، كما أخبرني المصور المُعيَّن حاليّاً لاستقبال الزبائن وتصويرهم.
لي صورة وأنا طفلة على هذا الكرسي المُحال حاليّاً إلى التقاعد، كذكرى في ركن مهمل ومرئي معاً، فقد صار غير مسموح استخدامه مراعاة لأمن الزبائن من خشبه المتهالك، لكن صاحب الاستوديو لم يقدر على التخلُّص منه، أو ربما حافظ عليه كرمز وكمرجع لكل من أراد زيارة نفسه السابقة.
مرآة قديمة أدركتها الخدوش فعميت عن إظهار صورة الحاضر، لم يظهر فيها شكلي واضحاً تماماً، أرى في المرآة الآن الطفلة المتمرّدة التي كنتُها، والطفلة التي أعدّها للمستقبل في تسريحة شعر اخترتُها تشبهني قديماً، تلك التسريحة التي صنعتها لي أمي قبل زمن، هي الآن واقفة تماماً إلى جواري، مثلما أقف خلف ابنتي التي تستعد للتصوير. تحاول أمي تهدئتي، تقنعني بارتداء السلسلة الذهبية التي تحمل أول حرف من اسمي، تساعدني أن أبتسم للكاميرا، بإيحاء ابتسامتها الواسعة على وجه أسمر، مستدير، مطمئن، ألمحه في خلفية المصور وكاميرته.
ثلاثون عاماً لم تكن قادرة على محو أثر عينَي أمي البُنّيتين ويد عمي الضخمة. عالمنا الاستهلاكي يسرق أعمارنا ويتغذّى على طاقاتنا أولاً فأولاً... في ظني، إنْ طاوعناه فربما لن نترك أثراً إنسانيّاً يبقى ثلاثين عاماً أخرى في وجدان أطفالنا.
ربما لن تتأثر ابنتي عندما تكبر بأننا اخترنا لها حضانة ذات مستوى عالٍ كلَّفتنا كثيراً من الأموال، لكنني متأكدة أن لاوعيها قد سجَّل كل الأحضان الدافئة التي تشاركناها يوميّاً، ذهاباً إياباً، إلى تلك الحضانة.
أصدِّق أنه عندما تشيخ الطرقات والبيوت، وتموت الوردات قصيرة الأجل، وتذهب كل الأشياء المادية إلى الزوال، سيتبقى فقط أثر أيادي الطيبين المحفور على صدر الطفولة. ما طُبع حين كانت أرواحنا بِكراً وصفحاتُ عوالمنا ناصعةَ البياض، لن يُنسى مهما طالت أعمارنا، ومهما تلطَّخ البياض بتلوث البيئة المحيطة... مهما امتلأ العالم بأصوات مزعجة من حولنا، ستظل أصوات أمهاتنا الهامسة بأغاني المهد أعلى في أذهاننا، ستظل حركة أياديهن على أجسامنا الضئيلة الرقيقة وقت "الهدهدة"، تشكل استيعابنا واختياراتنا الموسيقية ونحن في مراحل الصبا والشباب وحتى العجز.
أصدِّق أنه عندما تشيخ الطرقات والبيوت، وتموت الوردات قصيرة الأجل، وتذهب كل الأشياء المادية إلى الزوال، سيتبقى فقط أثر أيادي الطيبين المحفور على صدر الطفولة
عندما يتبخّر كل شيء مادي سنجد كل الذكريات، خصوصاً السبَّاقة منها، مجمَّدة هناك في مكان سحيق بذاكرة الروح، ربما تتغطَّى أحياناً بزخْم أيامنا السريعة المستنزفة، لكن الوقت لا يفعل معها فعل المحو.
مصدر نُور خفي تشعله لمسات الكبار الصادقة في قلوب الصغار، ويظل ينمو داخلنا لنورثه يوماً إلى صغار جدد. دائماً ما شعرت بنُورٍ يخرج من كل خطوة ونظرة، وحتى وضعية نوم لابنتي، التي حملت مصادفة اسم "نور"، نورها يخترقني ويضيء أيامي، فاسأل نفسي: هل أنا جديرة بأن أبادلها طاقات النور تلك؟ هل ستتذكر عندما تصل إلى مثل سنِّي، أو عندما تصبح أمّاً، ضوء تلك الزيارة/المغامرة لاستوديو الهلال؟ هل ستتأثر إنْ قرأت حينها تلك المقالة؟
في الماضي، كنت وأختايَ ننتظر مدة قد تصل إلى أسبوع حتى يجري "تحميض" فيلم الكاميرا وتُطبع صورنا، لتكون جاهزة ليتسلمها عمي في نهاية يوم عمله بالمستشفى، ويستقل سيارته الصفراء ويأتي بها إلى منزلنا. أسبوع من الأحلام والتخيُّلات في النوم واليقظة عن شكل الصور المرتقبة. ساعات طويلة من الوقوف طوال النهار في شرفة البيت انتظاراً لوصول السيارة الصفراء محمَّلة بلحظة توثيق اعتبرناها "تاريخية" حينها، رغم علمنا التام أن عمي سيأتي في الليل.
اليوم، كان المصوِّر يخيِّرني بين اللقطات المأخوذة لوجه ابنتي لحظيّاً. ربما لن تعيش نور لحظات الأشواق والانتظار تلك، ربما لا يهم أن تعيش الحالة كاملة بتفاصيلها، سيكون لها عالمها الخاص بالتأكيد.
لا أومن أصلاً بوجود أي ضمانات في هذه الحياة، لكنني سأظل أسعى جاهدة إلى ترْك أثرٍ ما دام الاحتمال قائماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون