منذ طفولتي وحتى نهاية فترة دراستي الجامعية، لطالما اعتبرت نفسي أحد أبناء الطبقة الوسطى، أو ربما أكثر قليلاً. كنت أستمع إلى خطابات الرئيس الراحل محمد حسني مبارك عن خطته لمساعدة متوسطي ومحدودي الدخل، وكنت أتخيل أن هؤلاء ينتمون إلى عالم آخر لن أحظى أبداً برؤيته.
بطفولية رسمت في خيالي صوراً لعالم متوسطي ومحدودي الدخل، حيث الملابس البالية والجدران المتهالكة والأحذية المهترأة. كبرت الآن، ورغم أنه يعلوني سقف جميل وملابسي وحذائي بخير، إلا أني وجدتني فجأة أحد سكان هذا العالم الجدد، وصلت مؤخراً إلى طبقة متوسطي الدخل، وربما أكون زائر قد يودع تلك الطبقة لشد الرحال إلى طبقة محدودي الدخل في وقت قريب.
علامات نزول الطبقات
بالأمس القريب، كانت مهمة الآلة الحاسبة في بداية كل شهر أن تخبرني كم يمكنني أن أدخر، أما اليوم فمهمتها تبدو شبه مستحيلة في توزيع الدخل على عدد أيام الشهر دون اختلال أصلاً، ذلك أول ما نبهني أني بالفعل قد فقدت عضوية الطبقة التي سكنتها وانحدرت لواحدة أدنى مادياً.
لطالما سمعت في التلفاز أُناساً يشكون تناولهم للحم مرة في السنة (يقصدون هدايا عيد الأضحى)، وكنت أحزن من أن هناك من يعدّون مرّات تناولهم للحم، ثم وجدتني أعدّها أنا أيضاً
بعد ذلك تتالت العلامات واحدة تلو الأخرى، فمثلاً عادتي في شراء علبة سجائر غالية مرة واحدة شهرياً انتهت، والمثير في الأمر أني أدفع نفس المقابل الذي كنت أدفعه من أجلها منذ فترة قريبة، لكن من أجل علبة محلية عادية، كذلك توقفت عن شحن باقة إنترنت لهاتفي، واكتفيت بما يُسمى "كروت الفكة" ذات القيمة المنخفضة، والتي أستخدمها عند الحاجة الشديدة لاستخدام الإنترنت، وهناك عادتي في دخول المنزل بعد يوم العمل حاملاً "أشياء حلوة" أصبحت متقطعة للغاية الآن، وأخيراً أُجبرت على تغيير نوع القهوة التي أشربها إلى نوع مجهول أرخص كثيراً من الأنواع الشهيرة التي اعتدت عليها.
هذا بالنسبة لي شخصياً، أما المنزل، يكفي أن أقول إني لطالما سمعت في التلفاز أُناساً يشكون تناولهم للحم مرة في السنة (يقصدون هدايا عيد الأضحى)، وكنت أحزن من أن هناك من يعدّون مرّات تناولهم للحم، ثم وجدتني أعدّها أنا أيضاً.
أسلحة قديمة لمشكلات جديدة
من زمن بعيد، اعتدت أن أتناول الطعام مرة واحدة يومياً، بدأ الأمر حينما أردت إنقاص وزني المُفرط، ثم استمر بسبب عدم شعوري بالجوع غالباً. كان الأكل بالنسبة لي كالوقود للسيارات ليس أكثر، لذا ساعدني ذلك على تدبير أموري في رحلة نزولي في الطبقات، لم أحتج حتى لـ "ساندوتشات من أجل الرحلة."
الشيء الآخر الذي أعانني على تحمل الوضع الجديد هو تفضيلي الدائم للمحتوى على المظهر، يمكنني ترجمة ذلك في مواقف عدة، فمثلاً لا أحتاج لشراء ملابس جديدة إلا إذا واجهتني مشكلة فعلية في ملابسي القديمة، حتى أني لاحظت بالصدفة عند رؤيتي صورة قديمة، امتلاكي لقميص يعود لذكرى جامعية، أي أنه رافقني لاثني عشر عاماً تقريباً، ونفس الأمر ينطبق على شغفي بالقراءة ومشاهدة الأعمال الفنية، فالكتب المنسوخة ذات المقابل القليل تؤدي نفس غرض تلك الأصلية الغالية بالنسبة لي، ولن أمانع أبداً مشاهدة عمل فني ما على موقع مجهول أو قناة تليجرام بدلاً من اشتراكات غير مقدور عليها في المنصات، الكلام المنسوخ هو الأصلي والمشهد المسروق يُعرض ذاته على المنصات.
الحب في زمن التعويم
يقول ألبير كامو في رواية "الطاعون": "لقد سلب الطاعون منهم جميعاً قوة الحُب، لأن الحُب يتطلب بعض المستقبل، وبالنسبة لنا لم يكن هناك سوى الحاضر، لا شك أن حبنا كان لا يزال موجوداً، لكن بكل بساطة كان غير صالح للاستعمال، ثقيل الحمل، خامل بداخلنا، عقيم كجريمة أو إدانة، لم يعد سوى صبر بلا مستقبل وانتظار عنيد".
يُمكنك وضع "التعويم" بدلاً من "الطاعون" ولن يتغير المعنى بالنسبة لي ولكثيرين على ما أعتقد.
أظن أن الحب والتخطيط لمستقبل رومانسي ما الآن يُشبه قليلاً عمل هؤلاء العازفين على ظهر تيتانك وقت السقوط، وقت رفع شعار النجاة بدلاً من الحياة، فلا أرى أني أستطيع مجاراة متطلبات الحب ببساطة، أصبح سلعة غالية للغاية، حتى أن هناك من تندر بأن على الحكومة التحقيق مع الذين استطاعوا توفير مسكن وأثاث وإقامة حفل زفاف في ظل الوضع الاقتصادي الحالي بتهمة "من أين لك هذا؟".
هناك من تندر بأن على الحكومة التحقيق مع الذين استطاعوا توفير مسكن وأثاث وإقامة حفل زفاف في ظل الوضع الاقتصادي الحالي، بتهمة "من أين لك هذا؟"
ورغم إيماني بأن الحب والزواج مختلفان عن بعضهما وإن تقابلا فيما بعد، لكن في مصر الأمور لا تتم على نحو ذلك، فيجب أن تضع في حسبانك الزواج في اللحظة التي تصارح إحداهن بمشاعرك نحوها، أو على الأقل أن تجد تلك التي لن يتدخّل أهلها في مستقبلكما معاً، وهنا يُمكنك رسم مستقبل بسيط خال من التعقيد، لكن التعقيد في أن تجد هذه الـ "تلك".
الرحلة... إلى أين؟
لا أعرف، فالسؤال صعب للغاية والإجابة تضاهي في صعوبتها الأسئلة الوجودية، مثله مثل لماذا نحن هنا؟ لذا لا أعرف إلى أين ستصل رحلة نزول الطبقات أو حتى متى تستقر، فكل يوم تقريباً تتغير أسعار السلع، ومثلما وصف أحدهم الأمر بأنه "فقد هوية الأسعار"، فإذا قيل له أن لوح الشوكولاته الذي اختاره بعشرة جنيه سيوافق، وإن قيل له بمئة لن يتعجّب وسيدفع.
كل ما أعرفه الآن هو أن تفعيل وضع النجاة مستمر معي لفترات أطول، لكن عند نهاية الرحلة - إذا كان هناك ما يُسمى بالنهاية - فقد تعلمت درساً جديداً، وهو تفهّم الطبقات جميعاً، وأن معظمنا لا ينتمون إلى طبقة أصلاً، لكننا نتشبّث بالطبقات، وفي معظم الأوقات، لهذا العناد الدور الأكبر في جعلنا نتحمّل أو نُفلت قبضتنا، ونسقط وتستمر الرحلة.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.