دون أن يخبرك أحدهم، تعرف الحقيقة وحدك. في المدينة تتحقق الأحلام، هناك بعيداً، توجد مصانع الفرص ومفرخة الأمنيات.
إن لم يجبرك طموحك، ستضغطك المركزية، لابد وأن تطأ قدمك القاهرة، في أحد الأيام – ربما حدث، ربما سيحدث- ستُلقى من مدينتك الصغيرة/ قريتك إلى أسخن بقاع مصر "ميدان رمسيس"، بداية اللقاء، حيث تبعثرك الدهشة، توهة وسط ضجيج طاحن، الكل يعرف طريقه سواك، بأعين زائغة غريبة ستتعثر في خطوتك الأولى، ستخنقك الزحمة/ العوادم/ الروائح الكثيفة/ الأصوات المختلطة.
لن تلتقط سرعة المدينة بسهولة، ستقف لالتقاط الأنفاس أمام كشك أو مقهى بكراس بلاستيكية ملقاة حتى منتصف الطريق. ستسأل عن عنوان ما، لتصفعك المقولة التي تحوّلت لمزحة لكثرة تردديها: "هو قالك فين؟"، لتعرف القاعدة الأولى في القاهرة: الكل تائه، الكل يهرول للحاق بأتوبيس/ مترو/ موعد/ عمل/ فرصة، الكل يهرول نحو الحلم، نحو الوهم، نحو البقاء.
ستسأل عن عنوان ما، لتصفعك المقولة التي تحوّلت لمزحة لكثرة تردديها: "هو قالك فين؟"، لتعرف القاعدة الأولى في القاهرة: الكل تائه، الكل يهرول للحاق بأتوبيس/ مترو/ موعد/ عمل/ فرصة، الكل يهرول نحو الحلم، نحو الوهم، نحو البقاء
إن أتيت في مهمة عمل قصيرة، أو قررت أن تغيّر مكان إقامتك في العاصمة، يوماً بعد آخر ستتلاءم خطواتك مع سرعة المدينة، لن يطيح بك كتف أحدهم أثناء هبوطك من سلم المترو لبطء غير متعمد من قِبلك، بل ستعتاد على أداء مهمات متعدّدة في الوقت ذاته. في البداية، ترى الآخرين، ثم تقلدهم، لينتهي بك الحال إلى ابتكار طرق تخصّك لتوفير الوقت.
الوقت عدوك، ستعرف ذلك لاحقاً، في البداية سيحفزك، الهرولة تعني أن هناك حلم، الجري مدفوع بالأمل، ستدرك بعدها أن ذلك سيتحقق في حالة واحدة فقط، أن يكون وقتك ملك لك. سيضيع أغلبه في المواصلات، في انتظار إشارة مرور، في التنافس المحموم للحصول على فرصة.
بمرور الزمن ستعقد معاهدة مع الوقت، سترضخ لفرص بجانب عنوان مسكنك، حتى وإن بدت غير حالمة، ستجبرك المدينة أن تخضع لقواعدها، كل هذا الاتساع كل تلك الأنوار المضيئة واليافطات الملونة فوق الكباري خادعة، ستكتفي منها ببقعة صغيرة، تحاول أن تضم بيتك وعملك ومدارس أولادك ومكاناً للترفيه، ستفكر ألف مرة في تعدي حدودها، كيلا تعلق في زحام شديد يعطل نظام يومك التالي.
رغم لسانك الذي لا يكف عن الشكوى، لن تبرحها، ستأكلك المدينة بينما أنت متخم بإدراك ما تريده وما يطلب منك، ستتلاعب بمشاعرك، ما يحزنك سيتغير وما يبهجك سيبهت ضوؤه، وما يريبك سينمو
ستفيدك القاهرة أيضاً، ستربطك بحلم ما، ربما أيضاً بالكثير من المجهود سيرى حلمك النور. سترتقي في وظيفتك، ربما تبدلها بأخرى، الفرص كثيرة في المدن الكبرى. سيزيد راتبك، ويتعدى راتب أكبر بكثير من رواتب أقرانك ممن مازالوا عالقين في مدنهم الصغيرة، لكن على قدر الحلم تكون المشقة، ذلك الربط سيرهقك، تلك الفائدة ستتحول إلى لعنة، ستتقلب في نارها وجنتها كعملة معدنية، تصالحك بفرصة وتخاصمك بسراب، لكن الأكيد أنها ستتمكن منك.
رغم لسانك الذي لا يكف عن الشكوى، لن تبرحها، ستأكلك المدينة بينما أنت متخم بإدراك ما تريده وما يطلب منك، ستتلاعب بمشاعرك، ما يحزنك سيتغير وما يبهجك سيبهت ضوؤه، وما يريبك سينمو.
لسوء حظك أو لحسنه، لن تجد وقتاً كافياً لتحليل تلك المشاعر، الباقي من اليوم ستتحايل كي يمر ثقله بفيديو كوميدي أو مسرحية ساذجة تستدعى معها النوم سريعاً للاحتفاظ بأكبر طاقة لمواجهة الغد.
كيف يمكن أن يحلم المرء إن لم يكن لديه ثانية واحدة من الوقت ليتطلع نحو السماء؟
ربما تأخذ عطلة يوماً من العمل، عطلة قصيرة من ذلك الصراع واللهاث الأبدي، تفكر في تمشية قصيرة في شوارع هادئة، يفاجئك أنك لا تعرف شارعاً هادئاً يمكن أن تمارس فيه فعلاً بسيط كالمشي، ربما يلزمك أن تستقل أتوبيس عام أو أكثر من محطة مترو للوصول إلى ذلك الشارع.
في سيرك- إن كنت وحيداً- ربما تتأمل شكل العمارات والمباني، تنظر للأشجار الضخمة التي تذكرك بما تركته خلفك في مدينتك الصغيرة، ترى طفولتك، ذلك الطفل الذي اعتاد أن يتسلق شجرة التين والجوافة ويملأ حِجر قميصه الطويل بالفواكه.
تكتشف أن اللون الأخضر غائب عن بصرك، وبقليل من التأمل، ربما غائب عن حياتك، جذورك هناك، بعيداً عن القاهرة، تفكر في جدك/ جدتك، في أقاربك، تسأل نفسك عن آخر مرة اتصلت بهم للاطمئنان على أحوالهم، ليراودك شعور بالغربة، تزاحمك الأسئلة لتضيق عليك فضاء الشارع الهادئ، هل يستحق الأمر العناء؟ هل حققت ما تصبو إليه؟ كيف كنت وكيف أصبحت؟
تخرج في نهاية التمشية بقرارات متكررة، سبق وأن عزمت على إجرائها من قبل. قرارات تتلخص في أن تصل رحمك، تزور مدينتك ، وتغير محل سكنك -إن كان دخلك يسمح- إلى أحد المدن الجديدة على أطراف القاهرة، لتستعيد كيانك وتعيد ترتيب حياتك بشكل أكثر جودة.
في ذلك السير الطويل تساءلت عن الكثير دون أن تسأل ذاتك السؤال الأهم: كيف يمكن أن يحلم المرء إن لم يكن لديه ثانية واحدة من الوقت ليتطلع نحو السماء؟
تدخر لشراء سيارة صغيرة ترحمك من عناء الميكروباصات والمترو. يغمرك وقتها شيء من الرضا، تبتسم مفكراً في مدى قرب الأحلام على بعدها، فقط ينقصك الكثير من المجهود، تردّد لنفسك بصوت مشجع: "يمكن أن أفعلها". تعطف عليك المدينة بنسمة عابرة، تطيب روحك.
تعرف المدينة جيداً كيف تغرز الأحلام كنبتة صغيرة، تاركة مهمة رعايتها لك، توافق بشكل متواطئ على الصفقة. قبل أن تترك الشارع تنسى أن تنظر إلى السماء، لن تعرف أبداً أنك منذ أن حطت رحالك هنا لم تمد بصرك نحوها، في ذلك السير الطويل تساءلت عن الكثير دون أن تسأل ذاتك السؤال الأهم: كيف يمكن أن يحلم المرء إن لم يكن لديه ثانية واحدة من الوقت ليتطلع نحو السماء؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين