يبدو أن العريضة التي تقدّمت بها نخبة من المثقفين والمؤرخين والباحثين وحتى الطلبة والمهتمين بالشأن الثقافي في تونس، للمطالبة بإعادة فتح أبواب متحف باردو الأثري الذي أُوصِدت أبوابه أمام السياح والزوار منذ ما يقارب العامين قد تؤتي أكلها، فقد خرجت وزيرة الثقافة عن صمتها لتعلن عن قرب انتهاء أشغال الصيانة والترميم التي طالت مختلف أقسامه وأجنحته في الفترة التي أُغلق فيها، والاستعداد لفتحه مجدداً دون تحديد موعد معيّن مع أن هناك شائعات ترجح إمكانية فتح المتحف في مستهل العام الدراسي.
تستقبل متاحف العالم زوارها طوال أيام العطل الرسمية والأسبوعية، باستثناء متحف باردو الوطني، الذي يُعدّ ثاني أقدم متحف في إفريقيا بعد المتحف المصري، بسبب إغلاقه بـ"أمر رئاسي" لأسباب أمنية عقب قرارات استثنائية فرضها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، تُعرف بـ"قرارات 25 جويلية" (تموز/ يوليو) 2021، التي يصفها كثيرون بأنها "انقلاب" على الديمقراطية التونسية.
بعد وعود من وزيرة الثقافة التونسية هل يفتح متحف باردو أبوابه من جديد بعد عامين من الإغلاق؟
عريضة لاستعادة مجد متحف باردو
برغم مرور عامين على إعلان إغلاقه، لأسباب لم تكن منطقيةً أو مقنعةً للرأي العام، إلا أن الأصوات المطالبة بإعادة فتح هذا المتحف، الذي تأسّس سنة 1988، ويضمّ نحو ثمانية آلاف قطعة أثرية وأكبر مخزون فسيفسائي روماني في العالم، لم تتوقّف إلى اليوم وكانت آخرها العريضة التي تقدّم بها أكثر من مئة شخص من أساتذة التاريخ والآثار وناشطي المجتمع المدني والمعنيين بالشأن العام للمطالبة بالنأي بالمتحف عن التجاذبات السياسية والكفّ عن حجبه عن الأعين وإعادة فتحه في أقرب الآجال، كونه واجهةً للذاكرة الوطنية، وهمزة وصل بين التيّارات الحضاريّة والثقافيّة التي شهدتها تونس منذ ما قبل التّاريخ إلى الحقبة المعاصرة، فضلاً عن دوره التّربوي والتّثقيفي بالنسبة إلى المواطن، والتعريفي لكونه يمثّل قبلةً سياحيةً وتالياً مصدر مداخيل للدولة.
من الواضح أن غلق متحف باردو لم يُثِر مشاعر الغضب في نفوس الباحثين في علم الآثار والمؤرخين والإعلاميين فقط، بل حتى أن معارضي قيس سعيّد بما فيهم أحزاب التيار الديمقراطي والجمهوري والتكتّل من أجل العمل والحريات وممثلون عن الشخصيات الوطنية المستقلة استنكروا القرار، وطالبوا بدورهم في عريضة وُجّهت إلى رئيس محكمة المحاسبات، لإعلامه بجرائم سوء تصرّف في المال العام وتجاوز السلطة وسوء استعمال النفوذ ومخالفة الترتيبات والإجراءات الإدارية، وذلك بسبب إغلاق مؤسسات وطنية عدة، من بينها المتحف الوطني باردو مع مواصلة صرف رواتب الموظفين.
يقول المنتج السينمائي محمد الحبيب بالهادي، وهو أحد الموقعين على العريضة، في حديثه إلى رصيف22، إن "قرار غلق متحف باردو يشبه قرار الذي قرّر انتزاع أنفه من وجهه، لأن أوّل إنجاز حقّقته تونس منذ استقلالها هو إنشاء هذا الصرح الذي يُعدّ بطاقةً تعريفيةً لتاريخ تونس أمام الثقافات والحضارات المعاصرة والحديثة. ومما يعكس أهمية هذا المتحف وعراقته، أنه تأسس حتى قبل وزارة الثقافة نفسها بخمس سنوات، وهو إلى اليوم يتمتع بسمعة عالمية أسهمت في توافد السياح الأجانب إليه".
متحف باردو والنهضة... مناكفات سياسية أم أشغال صيانة؟
يرى محدثنا أن فترة عامين للصيانة والترميم تُعدّ "طويلةً جداً، إذ إن أربعة أشهر كافية لإحداث تغييرات كاملة وترميم كل القطع المتهالكة. ويعدّ أن ما يروّج عن كون أشغال الصيانة هي السبب، ليس سوى أوهام وذرّ للرماد في العيون للتغطية عن الأسباب الحقيقية لإغلاقه التي يعلم غالبية المتابعين للأحداث والتطورات السياسية أنها على علاقة بمجلس النواب الذي كان يرأسه زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي".
ويتساءل بالهادي: "لماذا يدفع معلم تاريخي ضريبة أهواء ومناكفات سياسية؟ ولماذا لم يفتح إلى اليوم برغم سقوط زمن 'الإخوان' وتغيير البرلمان لنوابه ومباشرة أعماله وتمركز قوات أمنية جديدة أمام أسواره؟".
في المقابل، استبعد الدكتور المتخصص في التاريخ التونسي محمد ذويب، أن تكون حركة النهضة تحديداً وراء قرار غلق "درّة باردو" الأثرية، مضيفاً في حديثه إلى رصيف22، أنه أُغلق بسبب قربه من البرلمان وتخوّفاً من أن يكون مسلكاً سهلاً للمعتصمين في تلك الفترة في باردو، وتالياً محاولة اقتحام مجلس النواب انطلاقاً منه.
وبالرغم من معاينة العديد من الأفراد المقريّين من العمال المتواجدين داخل المتحف فعلاً للمقرّ، وتأكيدهم عمليات الصيانة والإصلاحات الجارية داخله، إلا أن عامين متتالين من الصيانة يثيران الشكوك.
ويطالب ذويب مثل آخرين "بضرورة فتح تحقيق للوقوف عند أسباب تعطل الإصلاحات وإعادة المتحف الذي كان من المفترض فتح أبوابه قبل فصل الصيف لاستقبال السياح والعائلات التي تستغل العطل لتمكين أبنائها من فرصة استكشاف تاريخ بلادهم".
مما يزيد الطين بلةً، ويضاعف منسوب القلق من اندثار التراث الحضاري لتونس، أن المتصفح للصفحة الرسمية لمتحف باردو يلاحظ أنها قد نشرت معلومةً مكتوبةً باللغة الفرنسية تقول إن "المتحف مغلق نهائياً"، ولا توجد أي بيانات أو مشاهد أو صور توثّق أعمال الصيانة والترميم مثلما هو معمول به في بقية دول العالم، وأبرز مثال على ذلك الحملة التي قامت بها الحكومة الفرنسية عندما قرّرت غلق متحف اللوفر للتعريف بمشروع الصيانة والتوسيع الذي قامت به ونشرت صوراً للأشغال".
تعقيباً عن اللغط المثار، أكّد المدير السابق للمعهد الوطني للتراث فوزي محفوظ، أن إدارة المتحف قد استغلّت قرار الغلق لإحداث إصلاحات وترميم حثيث بالتعاون مع وزارة الثقافة والمعهد الوطني للتراث ووزارة الدفاع الوطني.
لماذا يدفع معلم تاريخي كمتحف باردو ضريبة أهواء ومناكفات سياسية؟ ولماذا لم يفتح إلى اليوم وقد مرّ على إغلاقه سنتان؟
وأضاف أن الشارع التونسي فقد ثقته في الكيانات والمؤسسات التابعة للدولة كافة، وتالياً فإن تنزيل أي مقاطع فيديو أو صور لأعمال الصيانة لن يُجدي نفعاً ولن يغيّر من عقليّة المواطن التونسي، ولكن حال إتمام الأشغال وفتح المتحف أمام الزوار فإنهم سيكونون على موعد مع تغييرات وإصلاحات ستكون بالتأكيد بارزةً وواضحةً للجميع.
خلال إجابته عن سؤال الوضع القانوني لأعوان وموظفي المتحف وكيفية التعامل معهم بعد الغلق، أكّد محدّث رصيف22، فوزي محفوظ، الذي أُقيل من منصبه مطلع العام الجاري، أن هناك أعواناً معيّنين في معهد التراث يشتغلون ويلتحقون يومياً بأعمالهم لكن غُيّرت مهامهم بما يتلاءم مع ضرورات العمل، بحيث تغيرت مهام العمّال الذين لهم علاقة مباشرة بالزوار، مقابل نقل الأعوان المكلفين ببيع تذاكر الدخول إلى المتحف إلى مراكز أثرية أخرى، فيما تم الإبقاء على بقية أعوان المعهد الوطني للتراث في المتحف لأنهم مؤتمنون على صيانة القطع الأثرية والحيطان المعمارية والحفاظ على الموروث التاريخي لتونس.
الحقل الحضاري بين الصراع السياسي والديمومة الثقافية
مع أن المدير السابق لمعهد التراث تجنّب الحديث عن أسباب غلق المتحف، إلّا أن أسماء عمارة، الباحثة في الآثار وإحدى الموقّعين/ات على العريضة المطالبة بإعادة الحياة إلى متحف باردو، رأت في تصريح لرصيف22، أن تونس لم تشهد في العهد الديكتاتوري، أي حقبة الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، أي ممارسات تستهدف التراث أو تهدد الثقافة والفن والمتاحف بل ما كان في مرمى القمع هي حرية التعبير.
وجّهت الباحثة مثلها مثل باقي الموقعين رسالةً إلى رئيس الجمهورية مفادها أن "متحف باردو لم يُخلق لأجل المؤامرات أو المناكفات السياسية، لأنه معلم أثري الغرض منه تحصيل العلم والمعرفة. ولا يستقيم حكم البلاد والتقدم بها من دون الحفاظ على تراثها". وألقت عمارة اللوم على محيط الرئيس سعيّد "المنشغل بقضايا معقّدة أكثر من متحف باردو"، متسائلةً: "لماذا لم يجرؤ المسؤولون والوزراء والمكلفون بتسيير شؤون البلاد على إزعاج الرئيس وتذكيره بضرورة تحرير متحف باردو المغلق منذ عامين تقريباً؟".
تتصارع الوعود التي قدّمتها وزيرة الثقافة حياة قطاط القرمازي، حول موعد إنهاء الغلق القسري لمتحف باردو مع الزمن، وقد تضع مصداقيتها محل تساؤل ما لم يتم فتح المتحف رسمياً في أقرب الآجال التي تجنبت تحديدها، نظراً إلى أنها ستحمل على عاتقها مسؤولية تعريض أغنى مجموعة متحفية فسيفسائية في العالم للاختناق.
متحف باردو... أيقونة حضارات ودليل عربي وعالمي
يقع المتحف الوطني باردو، الذي أُنشئ بموجب مرسوم بيلي، في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1882، في ضاحية باردو غرب مركز العاصمة التونسية التي يبعد عنها أربعة كيلومترات فقط، وشُيّد داخل أسوار الحي العسكري المحصن، مركز الحكم الحسيني منذ سنة 1705. كما يُعدّ ثاني متحف للفسيفساء الرومانية بعد متحف فسيفساء زيوغما في تركيا. وهو ثاني متحف في القارة الإفريقية بعد متحف مصر، إذ إن قطعه الأثرية توثّق تاريخ تونس على مدى آلاف السنين والحضارات وهو ما حوّله إلى أيقونة بارزة لحفظ مكونات الذاكرة الحضارية والفكرية والثقافية للبلاد.
كما يُعدّ متحف باردو من أهمّ وأكبر المتاحف التونسية التي يبلغ عددها 37 متحفاً، تتوزع على مناطق البلاد كافة، وتمّ افتتاحه بحضور علي الثالث باي، بتاريخ 7 أيار/ مايو 1888، ويضمّ قرابة 130 ألف قطعة تتوزع على أكثر من 50 قاعةً ورواقاً للعرض مثل قاعة المهدية وسوسة ودقّة وقاعة قرطاج الرومانية وقاعة الفسيفساء المسيحية وغيرها، كما يحتفظ بآلاف اللوحات الفسيفسائية الرومانية التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد وصولاً إلى ما بعد القرن السادس للميلاد في محاكاة للحقب والحضارات. وقد كانت تسمى خلال العهد الروماني "أفريكا"، وعُرّبت في ما بعد من قبل المسلمين لتصبح "إفريقية"، وهو الاسم الذي أضحى يُطلق لاحقاً على القارة السمراء.
وتعود شهرة مفخرة تونس بين متاحف العالم، إلى مجموعات من اللوحات الفسيفسائية الكبيرة والثرية بالمعاني أبرزها لوحة الشاعر الروماني فرجيل، وهو محاط بملائكة الإلهام إثر ترديده "الإنياذة"، أي ملحمته، أمام الإمبراطور أوغيست. كما تتنوع محتوياته الدينية لتشمل مستلزمات الشعائر والطقوس الدينية اليهودية، بالإضافة إلى مجموعة أمتعة كانت في ملكية الأسرة الحسينية المالكة وغيرها من المحتويات والقطع والتحف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.