تعيش الحيوانات القابعة في حديقة "البلفيدير" في تونس العاصمة، في انتظار أن يصدر بشأنها "عفو إنساني"، يجنّبها مغبّة الوقوع في حكم "القتل غير الرحيم"، نتيجة سلوكيات تمارَس في حقّها. وبين ما يُشاع عن الظروف السيئة التي تعيشها، ومنشورات تتداولها المواقع الإلكترونية عن انتهاكات تُمارَس في حقها من قتلٍ عمد وجوع ومرض، تتراكم أسئلة أهمّها: من المسؤول عما تعانيه حيوانات "البلفيدير"؟ وهل سبب هذه المعاناة نقص إمكانات أم استهتار حكومات وجمعيات وأفراد؟ ولماذا تُستقدَم حيوانات نادرة من أراضٍ بعيدة لتُهمل لاحقاً؟ وأين هي حقوق الحيوان من كل ما يحصل؟
"البلفيدير"... نوستالجيا المكان
غالباً ما يهرول التونسيون إلى فضاء "البلفيدير"، للترويح عن أنفسهم وتناسي أخبار السياسة الممزوجة بمشاريع المسؤولين الوهمية والوعود الاقتصادية والاجتماعية، وللترفيه عن أطفالهم بعد أسبوع من الكدّ والدراسة.
تشهد الحديقة ازدحاماً عائلياً ملحوظاً أيام العطل والأعياد الرسمية من أجل التعرف على مختلف أصناف الحيوانات والتقاط صور تذكارية مع الثدييات والزواحف والطيور والحيوانات المفترسة وغيرها.
غالباً ما يهرول التونسيون إلى فضاء "البلفيدير"، للترويح عن أنفسهم وتناسي أخبار السياسة
يعود إنشاء منتزه "البلفيدير" إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، إذ تم تدشينه بصفة رسمية سنة 1910، بعدما أشرف على تصميمه المهندس والأخصائي في تجميل الحدائق، الباريسي جوزيف دو لافوركاد، لتُصنَّف من أكبر المنتزهات الحضرية وأقدمها في البلاد إلى اليوم.
وتبلغ مساحة حديقة الحيوانات الواقعة وسط العاصمة تونس 110 هكتارات، فيما تقدَّر نسبة الغطاء النباتي داخلها بنحو 70 في المئة من مجموع المساحة. كما تحوي أكثر من 100 صنف من الحيوانات مقسمة بين طيور وثدييات وحيوانات برية ومفترسة وأليفة. ويتكفل قرابة مئة عامل وعاملة بنظافتها ورعايتها وتوفير الظروف الملائمة لعيشها، فيما يسهر ثلاثة بياطرة يومياً على مراقبة صحتها.
حديقة "البلفيدير"... فضاء مثير للجدل
لحديقة تونس للحيوانات أو "البلفيدير" مكانة خاصة في وجدان التونسيين، إذ تُعدّ الأكثر شهرةً، والرئة الحيوية لتونس العاصمة. عُرفت بصمودها أمام الزمن والمشكلات، وظلت مثار جدل، إذ تنشر وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية فيديوهات تُظهر الحيوانات وهي تعاني من الإهمال. لكنها وفق إدارة الحديقة فيديوهات تعود إلى سنوات مضت يعاد استعمالها على أساس أنها تسريبات حديثة.
وقالت نائبة مدير حديقة "البلفيدير" مريم الدخيلي، في حديث إلى رصيف22، إن ما تم نشره من فيديوهات في أحد البرامج التلفزيونية هي فيديوهات قديمة وتم تسريبها من صلب الحديقة، وقد جرى فتح تحقيق في الغرض لمعرفة من يقف وراء هذه التسريبات، وما الغاية من إعادة نشرها.
يعود إنشاء منتزه "البلفيدير" إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، إذ تم تدشينه بصفة رسمية سنة 1910، بعدما أشرف على تصميمه جوزيف دو لافوركاد
وأفادت الطبيبة البيطرية المشرفة على الحالة الصحية للحيوانات، بأن "الفيديو الذي تم عرضه حول وضعية الدببة ليس سوى مغالطة للرأي العام، لأنه يعود إلى سنة 2015، وهو لأنثى دبّ مسنّة ومريضة جداً، يصعب التعامل معها نظراً إلى حالة الهيجان التي رافقتها نتيجة الألم أو وزنها الثقيل".
وأضافت الدخيلي أن هذه الدبّة قد توفيت قبل سنوات، مثلها مثل عدد من العمال الذين فارقوا الحياة خلال الفترة الماضية، أو الذين غادروا العمل أو أحيلوا على التقاعد، "ولا يحقّ لأي مؤسسة تدّعي المهنية أن تعرض صوراً أو فيديوهات تقوم من خلالها بتوجيه المُشاهد وتهويل الوقائع بما يوحي بأن هناك تقصيراً متعمداً من الموظفين والعاملي في الحديقة والمشرفين عليها، وبأنهم لا يمتلكون الحس الإنساني ولا أسلوب الرفق بالكائنات الحية وهو ما نرفضه تماماً".
نفايات زوّار الحديقة تفتك بالحيوانات
لكن الحيوانات في "حديقة العجائب" عرضة لسلوكيات بعض الزوار الذين يعرّضون الحيوانات لمعاملة سيئة، مثلما حدث مع تمساح تعرّض للرشق بالحجارة من الزوّار عام 2017.
وهو مشهد يتكرّر، إذ نُشر مؤخراً فيديو حول الطريقة التي أُخرجت بها كمية من النفايات والبلاستيك من أحشاء إحدى الغزالات التي رُوّج بأنه عُثر عليها ملقاةً في الفضاء الخلفي لـ"البلفيدير".
الحيوانات في "حديقة العجائب" عرضة لسلوكيات بعض الزوار، مثلما حدث مع تمساح تعرّض للرشق بالحجارة من الزوّار عام 2017
تقول محدثة رصيف22: "تم تناول الفيديو بطريقة مشينة تُبرز نوعاً من الإهمال واللا مبالاة بنوعية المأكولات التي تقدَّم إلى الغزلان، لكن الحقيقة أن ما تم استخراجه ناتج عن سلوكيات غير مقبولة للزوار الذين يتعمدون إطعام الحيوانات موادّ مضرةً من قبيل 'الكاكي والشيبس'، وإلقاء النفايات والبلاستيك بالقرب من أقفاص الحيوانات ما يترتب عنه استهلاكها من قِبل الحيوانات على أساس أنها نوع من المقبّلات نظراً إلى طعمها المغاير عمّا اعتادت أكله".
وأوضحت دخيلي أن عملية دفن جثث الحيوانات النافقة تتم بطريقة علميّة بحتة، بعد نقلها إلى مكان مخصص للغرض بعيد كليّاً عن الفضاء المخصص للحيوانات وعامة الناس، ويتم فيه إخضاع الجثة للمعاينة البيطرية لمعرفة أسباب الوفاة، ثم يتم حفر خندق بعمق متر أو أكثر وتوضع تحت جثة الحيوان وفوقها مادّة الجير السلطاني لكونه من أفضل أنواع التشطيب صحياً ويقضي على جميع الكائنات الحية الدقيقة والميكروبات ولمقاومته العالية للرطوبة.
"بايبي" بخير... والأشبال إلى ازدياد
بعد عشرين سنةً على وفاة أنثى الفيلة بامبي، استقبلت مملكة "البلفيدير" في أيار/ مايو 2023، أنثى جديدة تحمل اسم "بايبي"، وكانت هذه الفيلة البالغة من العمر 38 عاماً، هديّةً من مواطن فرنسي عبر رجل أعمال تونسي مقيم في الخارج.
تقول محدثة رصيف22: "بعد فقدان بامبي، كثّفت الحديقة مجهوداتها لشراء أنثى فيل جديدة إلا أنها فشلت في ذلك بسبب غلاء أسعارها، إذ تجاوزت القيمة المالية لزوجٍ من الفِيَلة مليار دينار تونسي (أي 300 ألف يورو) وهي تكلفة باهظة جداً مقارنةً بالاعتمادات المرصودة للحديقة. في المقابل، ما أن سنحت لنا الفرصة لقبول "بايبي" كهديّة تكفّلنا بمصاريف نقلها من فرنسا إلى تونس وبلغت 400 ألف دينار تونسي (أي 130 ألف دولار).
أنثى الفيل "بايبي" أصبحت رمزا لتجدّد حديقة العجائب وفي الآن ذاته موضع تساؤلات حول العناية بالحيوانات في "بلفيدير"
طمأنت محدثة رصيف22، الرأي العام بعد الأحاديث حول الحالة الصحية لبايبي، مؤكدةً أنها "بخير، ولا تعاني من أي كسر في ساقيها، وفي الحقيقة ما يحدث هو أن أنثى الفيل تضطر إلى رفع إحدى أرجلها الأربعة للراحة نظراً إلى بقائها واقفةً طوال اليوم".
وأضافت بخصوص الأسود التي تُعدّ قِبلةً للزوار: "تتمتع الأسود في حديقة البلفيدير بصحة جيدة، كما لدينا أعداد كبيرة من الولادات خصوصاً من الذكور إذ وصل عدد الأشبال حديثي الولادة إلى 13 شبلاً، ويتم وضعهم في أقفاص منفردة تجنباً لما قد يترتب عن اختلاطهم من معارك قد تصل إلى القتل. لهذا قررت إدارة البلفيدير إنشاء مشروع جديد هو في طور الإنجاز يتمثل في توسيع الفضاء المخصص للأسود حتى تتمكن من الحركة بحرية".
وتتعاقد البلفيدير مع أحد الجزّارين ليوفر للحديقة الكميات المطلوبة من لحوم الخيول والبغال كونها من اللحوم الصحية للحيوانات إذ لا تحوي دهوناً.
ونفت المتحدثة ما يُتداول حول إطعام الأسود لحم الحمير، قائلةً: "ما يتم ذبحه في تونس هو لحم البغال، وهو ما تتناوله الأسود في البراري إلى جانب لحوم الحمار الوحشي والجاموس، وهي أفضل من لحم البقر لأنه غير صحي ولا يناسب الأسود المفترسة المعروفة أصلاً بقلة تنقّلها".
إمكانات محدودة في "البلفيدير"
تؤكد الدكتورة مريم الدخيلي، أن انضمام الفيلة "بايبي" إلى الحديقة رافقته إشكاليات، فمنذ وصولها تواجه مؤسسة "البلفيدير" انتقادات من بعض الجمعيات المهتمة بالحيوانات.
للتذكير فإن حديقة "البلفيدير" لا زالت تعاني من تداعيات حادثة سابقة وقعت في آذار/ مارس 2017، تمثلت في تعمّد مجموعة من الزوار رشق رأس تمساح بالحجارة، ما تسبب في إصابته بنزيف داخلي أدى إلى موته.
وقد نتجت عن هذا التصرف الوحشي حملة تنديد دولية واسعة خسرت إثرها "البلفيدير" الدعم والإعانات أو حتى المؤونات التي كانت تقدّمها البلدان الأجنبية لفائدة الحيوانات نتيجة انتهاج سلوكيات سيئة على صعد عدة.
ودعت الدخيلي إلى الالتفاف حول المؤسسة التاريخية في العاصمة، التي أصبحت جزءاً من هويّة السكان قائلةً: "نحن مؤسسة عمومية تعمل بميزانية تحدّدها الدولة وفق احتياجات الحديقة سنوياً، ونعوّل على الإمكانات المتاحة فقط دون اللجوء إلى أي تمويلات خارجية أو حتى التمتع بالمداخيل المتأتية من التذاكر. ألم يكن من الأجدر أن تتعاضد الجهود لإنقاذ هذا المخزون الحيواني والرفق به".
أما عن المداخيل المتأتية من التذاكر التي تسجّلها شبابيك الدخول إلى حديقة البلفيدير، فتقدَّر حسب آخر الأرقام التي حصل عليها رصيف22، بنحو 210 آلاف دينار تونسي (نحو 68 ألف دولار) للفترة المتراوحة بين كانون الثاني/ يناير 2023، إلى حدود الـ16 من أيار/ مايو 2023.
وتوزعت المداخيل بين 95 ألف زائر من فئة الكبار، و56 ألف زائر من فئة الصغار، وهي مداخيل تُعدّ ضئيلةً مقارنةً بمداخيل العام الماضي بسبب تزامن عطلة الربيع الخاصة بالمؤسسات التعليميّة مع شهر رمضان، علماً أن مداخيل عطلة الربيع تتجاوز غالباً قيمتها الـ100 ألف دينار، أي نحو 32 ألف دولار، ما يعكس أهمية هذا الفضاء في وجدان العائلات التونسية التي تتوارث حب هذا المكان، والالتزام بزيارته فقط لأن الأجداد كانوا يزورونه قديماً. إنها نوستالجيا المكان في أبهى تجلياتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...