تزخر مدينة تونس العتيقة الممتدة على نحو ثلاثة كيلومترات، بالعديد من المعالم التاريخية الشاهدة على تعاقب الأحداث في البلاد على مر العقود. هذه المدينة العريقة التي تختزل تاريخ بلد بأسره تُعدّ بوابة التاريخ العريق وملتقى الحضارات، فبمجرد القيام بجولة وسط أحيائها وأزقتها المتعرجة تستنشق أثر الغابرين الذين تركوا بصماتهم في كل ركن من أركان المدينة على امتداد ثلاثة عشر قرناً. أسوار مشيّدة وجامع أعظم ومعالم أثرية ومتاحف وأبواب استثنائية... كلها معالم عريقة احتضنتها مدينة التاريخ لتؤثث بها شوارعها وتضفي على جماليتها طابعاً تاريخياً تتميز به عن سائر المدن الأخرى.
تربة البايات... ضريح الحكّام الحسينيّين
نهج (طريق) تربة الباي، هو أحد أهم أنهج (طرقات) المدينة العتيقة في العاصمة، ويحتوي على ضريح ملكي للبايات الحسينيين الذين حكموا "الإيالة التونسية" من 1705 إلى 1957، وقد تأسست الدولة الحسينية على يد حسين بن علي، أول بايات تونس، واستمر الحكم الملكي الوراثي طوال 252 عاماً حتى تأسيس الجمهورية التونسية.
هذا المعلم التاريخي يضم أكثر من 164 قبراً للعائلة الحسينية، ويضم أضرحة 14 باياً من الحسينيين الذين اعتلوا سدة الحكم، وخلافاً لأهميته التاريخية في توثيق الحقبة "الحسينية"، فإن مميزاته المعمارية وهندسته الفريدة جعلته قبلةً للزوار خاصةً بعد ترميمه من قبل المعهد الوطني للتراث مؤخراً.
تفيد المؤرخة والباحثة في المعهد الوطني للتراث وجيدة سكوحي، بأن هذا المعلم شُيّد في فترة علي باي الثاني في المنطقة التي تقطنها عائلة حسين بن علي الأول، مؤسس الدولة الحسينية، وهو مكان له حنين خاص لدى الحسينيين. وبالإضافة إلى تربة البايات، تم تشييد المدرسة الحسينية الكبرى وكان المشروع ضخماً واستغرق تشييده نحو 7 سنوات، لافتةً إلى أن النواة المركزية للتّربة (المقبرة)، بُنيت في عهد علي باي الثاني، سنة 1771، وأوّل من دُفن فيها هي ابنة علي باي.
تضيف الباحثة في حديثها إلى رصيف22، أن مساحة التربة تبلغ 1،400 متر تقريباً، وأن النواة المركزية للتربة تتكون من قاعة البايات وقاعة أخرى مخصصة للحريم، ثم قام البايات اللاحقون بإضافة قاعاتٍ كلما احتاجوا إلى ذلك في عهد حمد باي الثاني، وحسين باي الثاني، ومنذ سنة 1942، لم يُدفن فيها أحد.
"تربة البايات" معلم تاريخي يضم أكثر من 164 قبراً للعائلة الحسينية، ويضم أضرحة 14 باياً من الحسينيين الذين اعتلوا سدة الحكم
أشارت المتحدثة إلى أن هندسة التربة مركّبة استوحيت من تأثيرات الهندسة المحليّة والتأثيرات المشرقية والأوروبية، فقاعة البايات بُنيت على النمط العثماني المشرقي، وهي تشبه الجامع الأحمدي في إسطنبول، أما اللوحات الرخامية في الداخل ففيها صور ومشاهد جميعها مستوحاة من عصر النهضة الأوروبية لأنها من صنع إيطالي، كما يسجل السيراميك التونسي حضوره، وتالياً فإن هذه التربة هي مزيج من الناحية المعمارية ولا يمكن الجزم بأنها هندسة محليّة أو أجنبيّة.
كما لفتت وجيدة السكوحي، إلى أن جميع أنماط القبب موجودة في التربة، ومنها القبب الدائرية والقبّة الكبيرة المحاطة بأربع قبب صغيرة، ما عدا القبة المثلثة غير الموجودة، مشيرةً إلى وجود الخشب والرخام والجبس الذي يمتاز بتأثيرات مشرقية وأوروبية ومحلية، ملاحظةً أنه في التمعن في التربة يتم اكتشاف مراحل التطور المعماري، فكل قاعة لها خصوصياتها وتحمل في طياتها شيفرات للفك، وذلك لأن تربة البايات بُنيت خلال العديد من العصور، تقريباً من سنة 1700 إلى سنة 1900، وتالياً يوجد أثر من كل التأثيرات المعمارية التي تعاقبت على البلاد خلال تلك الفترة.
مميزاته المعمارية وهندسته الفريدة جعلته قبلةً للزوار خاصةً بعد ترميمه من قبل المعهد الوطني للتراث مؤخراً
بخصوص ترميم التربة من قبل المعهد الوطني للتراث، أكدت الباحثة والمؤرخة أنه من الناحية المعمارية تم الحفاظ على طابع المقبرة، لكن بالنسبة إلى قاعة البايات تم الاستغناء عن أغطية القبور بسبب اهترائها، مضيفةً: "بالنسبة لي كمؤرخة وباحثة وأثرية، أغطية القبور تُعدّ جزءاً من تاريخ التربة، وبرفعها يكون بذلك تاريخ القاعة غير مكتمل. هذه الأغطية كانت من الحرير عليها تطريز وفيها كتابات قدسية تكتسي طابعاً روحانياً. كنت أفضل استبدالها بأغطية مشابهة لها، أو تعليق أحد الأغطية على الجدار كشاهد على تلك الفترة. صحيح أن الأغطية موجودة في بعض الصور، لكن الصور لا تعوّض قطعاً أصليةً تشهد على تاريخ قاعة البايات. لقد تعهدت في مشروع ترميم تربة البايات بإضافة الجزء اللا مادي المتمثل في كتابة النصوص".
طقوس دفن خاصة
تحدثت الباحثة وجيدة السكوحي، عن عادات وطقوس الدفن في العائلة الحسينية التي تختلف عن سائر الشعب، فعند وفاة الباي يتم نقله إلى قصر سعيد للقيام بعملية الغسل وفقاً لطقوس المذهب الحنفي فيتمّ تكفين الباي في ثوب من القطن الأبيض بعد تطهيره بالمسك والزيوت العطرية، ثم يوضع في عربة اسمها "قباق"، ويتحول موكب الدفن إلى ساحة القصبة مكان تواجد الباي الجديد الذي تم تعيينه بدلاً من المتوفى، وتقام صلاة الجنازة بحضور الشيوخ والمفتين ثم يتحول الموكب إلى تربة البايات فيما يظل الباي الذي اعتلى العرش في مكانه ليتقبل التعازي من السفراء ورجال الدولة، وطبقاً للعادات والتقاليد لا يرافق الباي موكب الدفن إلى تربة البايات والوحيد الذي استثنى هذا التقليد هو محمد الهادي باشا باي الذي رافق والده علي باشا باي، إلى التربة ودفنه بنفسه.
لفتت المتحدثة إلى أنه يتم وضع الكسبات (الزي الرسمي للباي)، والشاشية والنيشان فوق نعش الباي زيادةً على الـ"فاشة"، وهي شريط عريض من القماش يُلبس فوق الكتف الأيمن متدلياً نحو الخاصرة اليسرى وهي جزء من وسام فيلق الشرف، فيعرف كل من يرى موكب الدفن المهيب من هو المتوفى، ثم يتم توريث الزيّ للباي الجديد، والطقوس نفسها كانت تُجرى بالنسبة إلى الأمراء. أما الأميرات فبوفاة إحداهن تخرج من القصر السعيد في اتجاه القصبة، ويُصلى عليها ثم تُدفن في التربة وتوضع عند رأسها باقة ورد كما أن التابوت يُغطى بقماش مزين.
تشييد التربات العائلية عادة تونسية
عند دخولك هذا المعلم التاريخي، تنتابك لأول وهلة مشاعر تتراوح بين الرهبة وحب الاكتشاف، ففي فناء ضريح البايات تشاهد على شاشةٍ مقطع فيديو يوثق جنازةً مهيبةً لأحد بايات تونس، كما تعترضك صور لجنازة العديد من الأميرات من بينها موكب جنازة الأميرة خديجة. وفي قاعات مختلفة مساحاتها ومعمارها تتشارك القبور المنتشرة في قاعة "للة جنات"، و"قاعة أضرحة الباشوات"، و"قاعة الأمراء الحسينيين وكبار الوزراء"، و"قاعة محمد الهادي باي وأميراته"، و"قاعة الأميرات الحسينيات"، في الرخام الأبيض المصقول والمزخرف كما تحمل شواهد الأميرات أبيات رثاء تعدّد مناقب الفقيدات. أما "قاعة بايات العرش" فتختلف عن سائر القاعات الأخرى إذ يتوسطها تابوت خشبي أزرق اللون كما تزيَّن جدرانها بلوحات رخامية نُقشت عليها "شجرة معرفة الخير والشر"، وهي شجرة تنبثق من مزهرية يعلوها الهلال العثماني وفي الجدار توجد فاكهة الجنة كما تحتوي على زوج من الطيور.
عند دخولك هذا المعلم التاريخي، تنتابك لأول وهلة مشاعر تتراوح بين الرهبة وحب الاكتشاف، ففي فناء ضريح البايات تشاهد على شاشةٍ مقطع فيديو يوثق جنازةً مهيبةً لأحد بايات تونس
أفاد الباحث في التراث وسليل العائلة الحسينية عبد الستار عمامو، بأن جميع البايات الحسينيين دُفنوا في تربة البايات في العاصمة، ما عدا اثنين هما محمد المنصف باي الذي دُفن في مقبرة الجلاز ومحمد لمين باي الذي دُفن في مقبرة سيدي عبد العزيز، وذلك لأنهما لم يكونا ملكَين حين وفاتهما، زيادةً على أن المنصف باي كان قد طلب دفنه في الجلاز، أما لمين باي فقد عارض الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة دفنه في تربة البايات، واختار له مقبرةً أخرى.
بيّن عمامو، في تصريحه لرصيف22، أن التربة تضم ملوك البيت الحسيني وأميراته وأمراءه وأزواجهم/ ن، وأول من دُفن في التربة من خارج العائلة الحسينية هو محمد العزيز بوعتور، الوزير الأكبر، ومنذ ذلك الحين جرت العادة بأن يُدفن الوزير الأكبر عندما يُتوفى وهو مباشر لوظيفته في تربة البايات، وتالياً هناك 4 وزراء قبورهم في تربة الباي.
لفت المتحدث إلى أن تربة البايات ليست الأولى في تونس، وأن أول تربة هي تربة يوسف داي الموجودة في جامعه "جامع يوسف داي"، ونجد فيها تربة عثمان داي وهو ثالث دايات تونس. وتضم التربة قبر حفيدته عزيزة عثمانة، وكذلك تربة حمودة باشا المرادي الموجودة في جامعه أيضاً "جامع حمودة باشا المرادي"، الذي يضم جميع المراديين إلا رمضان باي المرادي تاسع البايات المراديين الذي قتله ابن أخيه وحرق رفاته ورمى برماده في البحر، وكذلك مراد باي الثالث آخر البايات المراديين والملقب بـ"مراد بوبالة" (تعني السيف باللغة التركية)، وهو مدفون خلف الجامع.
ويؤكد عبد الستار عمامو، أن الملوك والعائلات المالكة كانت تشيّد أضرحةً لها منذ القدم لافتاً إلى أن فكرة التربات العائلية عرفتها تونس قبل قدوم العثمانيين. فتربة بني خراسان الذين حكموا تونس من 1059 إلى 1158 موجودة في المدينة العتيقة منذ القرن الحادي عشر ميلادي، والفاطميون كذلك كانت لديهم تربة في المهدية، لكن عند انتقال المعز لدين الله إلى القاهرة فتح قبور أجداده وحمل رفاتهم معه إلى مصر.
وعن مدى فخامة التربة الملكية يرى عبد الستار عمامو، أن تربة البايات الحسينيين عادية مقارنةً بفخامة ضريح السعديين في المغرب، وبتربة الملك المصري المعزول فاروق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه