شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن القهر الذي انفجر ورماً في غدتي الدرقية

عن القهر الذي انفجر ورماً في غدتي الدرقية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 11 سبتمبر 202312:18 م

القهر الأول الذي ابتلعته كان عندما أكلت قطعة الحلوى الأخيرة. كنت في التاسعة من عمري، عندما سألَنا والدي: من أكل قطعة الحلوى الأخيرة؟ وصرخت أمي بنا: "ألا تعلمون أن أباكم يحب الحلوى بعد الغداء؟".

شعرت يومها بغّصة ما فارقتني إلى أن أزاحها القهر الثاني بعد سنوات طوال، قطعة الحلوى تلك علمتني أنه ليس لي، أوائل الأشياء ولا أواخرها، لا البدايات ولا النهايات كذلك.

القهر الثاني الذي ابتلعته كان عندما حطّم والدي حنان أبوّته، وبنى مكانه جداراً من الفولاذ الصلب: كنت في السابعة عشر من عمري عندما ضربني ضرباً مبرّحاً لم تخففه توسلاتي وقسمي بأن ما من شيء بيني وبين ذلك الشاب. كان يضربني بكل ما أوتي من خوف أن تحب ابنته شاباً من طائفة أخرى، كان يستجمع كل عقد القبيلة ليلكمني بها. كانت المرة الأولى والأخيرة التي أختبر فيها جبروت الأب، لكن هذه المرة اليتيمة أورثتني قهراً لم أتمكن من إجهاضه على مرّ السنين.

إلى أن جاء القهر الثالث والأخير، حين أسند رأسه على كتفي وبكى، انهمر جبروته شلالاً من الدمع والصديد.

كنت الابنة البكر لوالدي، والأخت الكبرى لثلاثة أشقاء، وأن تكون الأخ الأكبر يعني أن تكون أباً وأماً وأخاً وصديقاً وعمراً طويلاً من الشقاء، الشقاء الذي تودعه أزقة مدينتك ليلاً، أزقة مدينتك التي تحمل حزنك ودمعك ونحيبك بكل أمانة، لأنك يجب أن تعود إلى منزلك جبلاً وسنداً قوياً رغماً عنك.

كنت في السابعة عشر من عمري عندما ضربني أبي ضرباً مبرّحاً، لم تخفّفه توسلاتي وقسمي بأن ما من شيء بيني وبين ذلك الشاب. كان يضربني بكل ما أوتي من خوف أن تحب ابنته شاباً من طائفة أخرى

إذن، كنت الأخت الكبرى إلى أن جاءت الحرب، ذاك الوحش الذي أكل إخوتي وتركني مع أبي وأمي نجوب غرف المستشفيات بحثاً عن أشلائهم، إثر تفجير محى معالم الحي الذي نقطنه وابتلع نصف ساكنيه.

لا أستطيع رواية قصتي دون أن أشعر بذلك الطعم المؤلم في حلقي، طعم لاذع أشبه بصدأ الحديد، لا أحد يعلم كنه الطعم الذي يعلق في حلقك ويبقى متشبثاً به إلى آخر يوم من حياتك، ما إن يطالعك وجه أحد أشقائك في كيس من تلك الأكياس السوداء.

لم أستطع يومها البكاء. نمت متكوّرة على نفسي، آخذة وضعية الجنين، أحتضن ما بقي من ملابسهم التي نهشتها الشظايا، ولم تتح لي فرصة البكاء بعدها، فقد وجدتني مسؤولة عن أب وأم بروحين ممزقتين، عليَّ رتقهما بما استطعت من صبر.

المرة الوحيدة التي عبرت فيها عن قهري كانت على هيئة صرخة شقّت قلوب المعزّين في المقبرة، ثم صمتُّ بعدها إلى هذا اليوم. إن الذين يعتقدون أن النساء تبكي وقتما تشاء مخطئون جداً، قد تعضّ النساء على جراحهن طويلاً لأنهن لا يمتلكن رفاهية البكاء.

إلا أن النساء اللواتي يمتلكن قليلاً من الدهاء قد يهرعن إلى تقطيع البصل وتحميله وزر دموعهن إذا ما فاضت قلوبهن، وقد يخرجن في يوم عاصف مغبر لشراء حاجيات المنزل، فيستقبلن ما استطعن من غبار في أعينهن ويطلقن لدمعهن العنان. وهذا ما كنت أفعله أحياناً كيلا أنهار أمام عائلتي. كنت أشعر أنني مصدر القوة الوحيد لأبي وأمي وأطفالي.

أمضيت سبع سنوات متتاليات أتقمص شخصية المرأة القوية التي "بعشرة رجال"، انقلبت إلى أم رؤوم لوالديّ، لا أرفض لهما طلباً ولا أقول لهما "لا" على شيء، أم تحت الطلب دائماً لوالدين محطمين مليئين بالشظايا الجارحة، ولثلاثة أطفال وزوج.

 إلى أن جاء اليوم الذي رفعت فيه وجهي أمام المرآة ككل يوم، فقفزت في وجهي كتلة بحجم حبة خوخ، في منتصف رقبتي إلى اليسار، أغمضت عينيّ وفتحتهما... لازالت هناك، تحسستها بأطراف أصابعي، فوجدت أنها حقاً كتلة بحجم حبة خوخ، من أين أتت ولماذا أتت وأين كانت مختبئة لتظهر اليوم بشكل مفاجئ؟

أعترف أنه كان علي أن أكون أقل شجاعة، وأقل صبراً، وأنه كان على قلبي أن يكون أكثر قسوة، كي يكون جسدي أكثر عافية

قال الطبيب: "لم تظهر بشكل مفاجئ، كانت تكبر على مهل وعلينا استئصالها".

‑ "لست جاهزة لعمل جراحي يقتحم روتين حياتي، ولا أستطيع توليد الخوف في قلوب من حولي".

‑ "إذا كان هذا الورم حميداً اليوم، قد يتحول إلى خبيث إذا ما كبر أكثر، لا حل سوى الاستئصال".

حتى هنا لم أستطع إخبار أمي، الشخص الوحيد الأحق بأن يكون إلى جانبي في المستشفى، لم أقو على منحها ذلك الخوف.

أمي امرأة أكلت الحرب حبات قلبها وتركتها تكوى بنار الفقد تتقلب على جمر الصبر، لو أنني أخبرتها، كانت لتعتقد، بما تبقى لها من أفكار مشوهة، أن الموت جاء ليأخذني أنا أيضاً. لم أكن سأستطيع إقناعها بأن الشقاء المتربص بي يمدّ لسانه للموت هازئاً أن عمري طويل.

اتجهتُ إلى المستشفى، استأصلت القهر العالق في غدتي الدرقية، ثم عدت إلى منزلي واتصلت بها: "تعي اسهري عندي".

قبل اكتشاف ذلك الورم الغريب في غدتي الدرقية بأيام، راودني حلم غريب: حلمت أنني الناجية الوحيدة، رأيت أصدقائي معلقين من حناجرهم بخطافات تسيل منها لاءات كثيرة.

تفقدت صدري: لا "لاء" تسيل عليه ولا ثقب في الحنجرة. رأيت أصابع إخوتي الغضة مصلوبة على ظهر أبي، تتدلى منها عناقات وأحلام صغيرة. رأيت الجمر يجري في نهر قريتنا وجرن جدتي ينثر قمحاً أسود على قبرها. رأيت أطفالاً يابسين على نهود مقتطعة من أجساد أمهات.

رأيت التراب استحال ملحاً، والماء استحال تراباً والهواء رماد. رأيت أني نجوت مع شيء محشور في حلقي: كان الله... وأرنب... وأطفالي الستة.

يقول الأطباء النفسيون إن من يعبّر عن حزنه أو غضبه بطريقة واضحة عن طريق الصراخ أو البكاء، سيكون أكثر صحّة نفسية وجسدية ممن يكتم ذلك، يبحث القهر عن نقطة ضعيفة في الجسد ليخرج منها إذا ما طال حبسه، مخلفاً مكان خروجه مرضاً قد يكون قاتلاً في بعض الأحيان.

أعترف أنه كان علي أن أكون أقل شجاعة، وأقل صبراً، وأنه كان على قلبي أن يكون أكثر قسوة، كي يكون جسدي أكثر عافية.

تأثري بما مررت به وانشغالي في رتق جراح عائلتي لم يقتصر على مرض جسدي، وإنما قتل في داخلي كل إحساس بالحياة: هل تتخيلون امرأة لا تفرح  إذا ما أطرى على جمالها أحد؟ امرأة لا يسكرها صوت "الست" وهو يصدح بحرقة: "كلموني تاني عنك، فكروني".

تأثري بما مررت به وانشغالي في رتق جراح عائلتي لم يقتصر على مرض جسدي، وإنما قتل في داخلي كل إحساس بالحياة: هل تتخيلون امرأة لا تفرح  إذا ما أطرى على جمالها أحد؟ امرأة لا يسكرها صوت "الست" وهو يصدح بحرقة: "كلموني تاني عنك، فكروني"

تحولت إلى كائن فاقد للشغف في كل شيء، فاقد لإحساس الفرح ولإحساس الحزن تجاه مصائب الآخرين، لم أعد أستمتع بمأكولاتي ومشروباتي المفضلة، ولم أعد أجد متعة في الخروج ولا الرغبة في التواصل مع الآخرين، كل شيء بات عندي سيان.

ولأنني فتاة عنيدة وقاسية تجاه نفسي، رفضت أن أستسلم لفكرة استشاري نفسي بأنني أقترب من اكتئاب على درجة لا يستهان بها من الخطورة، وبالتالي رفضت تماماً تناول أي دواء، باستثناء مهدّئ خفيف، مع أنني كنت بحاجة لأكثر من ذلك بكثير، لكن لا وقت لدي للمرض، ثمة عائلة تحتاج دعمي.

مر وقت طويل على ما حدث، ولا أستطيع القول إن جراحي اندملت، إلا أنني أستطيع القول إنني بدأت أعتاد ألم الفقد، فهدأ سعير النار التي تكويني، وعدت إلى الحياة لكنها حياة تنقصها ألوان كثيرة.

اليوم أضع عبارة جان هيوستن الفيلسوفة الأمريكية "إذا واصلت سرد نفس القصة الصغيرة المحزنة سوف تستمر في العيش في نفس الحياة الصغيرة المحزنة"، على ورقة ملاحظات أعلى الصفحة الأولى من دفتري، وأحاول يومياً سلخ هذا الحزن الملتصق بي، ولا أدري إن كنت سأنجح يوماً ما.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image