شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أبحث عن بيت يشبهني: هي الشام، بس وين الياسمين يانزار؟

أبحث عن بيت يشبهني: هي الشام، بس وين الياسمين يانزار؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأحد 10 سبتمبر 202311:12 ص

 تنويه:

هذا الكلام يمثلني وحدي، يمثل نظرتي لمدينتي، وتجربتي الخاصة فيها، ونظرتي لدمشق، وتجربتي الخاصة فيها أيضاً، وأنا لا أعمّم ولا أخصّ بالذكر شخصاً واحداً غير ذاتي.

*****

 تنقلت خلال سنوات حياتي الواحدة والعشرين بين أماكن عدة، بين منزل القرية ومنزل المدينة المستأجر، وبين أرض أبي، وصولاً إلى السكن الجامعي في دمشق، وحتى هذه اللحظة، أشعر أنني لست في المكان المناسب، بلا هوية، بلا محيط يشبهني، متذبذبة الملامح، غريبة عن كل الأمكنة، وأولها منزل العائلة.

مضت ثلاث سنوات على مجيئي دمشق كطالبة جامعية، غريبة هي الأماكن كيف تطبعنا بطباعها، من الممكن أن تكون تلك الطباع لا تشبهنا مطلقاً، أو لربما، تلك الطباع تمثل ذاتنا التي كانت ضائعة منا في أماكن لا تناسبنا.

مدينتي القرية... قريتي المدينة

عندما يسألني العديد من الناس في دمشق؛ من أين أنا ، وأجيبهم من "دريكيش"، تظهر على محيّاهم ابتسامة تنطوي على ملامح الإشادة بسكني في مكان سياحي جبلي كهذا، مكان يأتي إليه السياح من الخارج سنوياً، لا يدرك معظمهم أن الدريكيش، كما في روايتهم، ليست كالتي أعرفها، منذ الصغر وأنا محرومة من النظر إلى أماكن سياحية أخرى غير أرض أبي، باعتبارها موجودة والأولوية لها، و أبسط نزهة إلى أبسط مكان سياحي في الدريكيش تتطلب راتب موظف حكومي، أو ربما أكثر، فهل سيفضل هذا الموظف أن يتخلى عن راتبه في سبيل نزهة؟

الدريكيش مكان بطيء، بطيء جداً، وليس  من السهل أن تحدث خرقاً في أحد أعرافها غير المنطقية بسهولة. مدينة صغيرة، صغيرة لدرجة لا تتسع لما أحمله من أحلام وخطط، لا تتسع للحب الذي أود نشره، ولا للحرية التي أحملها بين كتفي

مدينتي القرية، أو قريتي المدينة، فيها من معالم المدينة كراج وبضعة مؤسسات حكومية وسوق وحديقة، وفيها من معالم القرية الشجر والنسمات العليلة والينابيع، هذا التذبذب الذي يسمها طغى على شخصيتي في بداية تكونها، لكن الدريكيش مدينة صغيرة، صغيرة لدرجة لا تتسع لما أحمله من أحلام وخطط، لا تتسع للحب الذي أود نشره، ولا للحرية التي أحملها بين كتفي.

الدريكيش مكان بطيء، بطيء جداً، وليس  من السهل أن تحدث خرقاً في أحد أعرافها غير المنطقية بسهولة. هي مدينة عاطفية، مجبولة بالعاطفة لدرجة رهيبة، ولكن مع كل هذا لا تحوي مسرحاً يستقبل نصوصي، أو أناساً يحيون الشخصيات التي أكتبها، ولا مكبر صوت ينشر موسيقاي المفضلة في الأرجاء.

ضيفة في بيتي

تلقي أمي على مسامع أبي وأخي عني وأختي جملة: "هاتان ضيفتان عليكما بحسن استقبالهما"، وتقصد بذلك أن مصيري وأختي المحتوم هو بيت الزوج، ولذلك على ذكور البيت احترامنا حتى يحين وقت زواجنا، كي نخرج بذكريات جميلة عن منزل العائلة، وبعيداً عن ماهية تطبيق هذه الوصية من قبل أبي وأخي، وحتى من قبل أمي ذاتها، امتثلت أمام كلمة "ضيفة" لاشعورياً.

 كتب، ألوان، صور، موسيقا، برامج هواة، وبضعة نصوص مسرحية ، كان هذا عالمي المفترض في غرفتي في المنزل، ولطالما حلمت بأن أجعل بعضاً من عناصره هذه حقيقة، حدود هذا العالم المفترض تنتهي مع باب الغرفة، تلك الحدود التي تم اجتيازها مرات ومرات، باعتباري ضيفة أولاً، ولأن مفهوم الخصوصية لا معنى له ضمن معظم أسر مجتمعنا ثانياً، لطالما رسمت في مخيلتي شكل غرفتي المنشودة، ألوانها وديكورها ومكان المكتب، حتى الصور المعلقة على جدرانها، تصورت كل تفاصيلها، ولكنني لم أستطع أن أجعل شيئاً واحداً من تلك التفاصيل حقيقة حتى اللحظة، وبعد أن سمعت أمي تقول تلك الجملة، ازداد شعور الغربة بداخلي، وخفت لأن أضطر للتخلي عن ذلك الحيز الصغير الذي يمثلني ولو مؤقتاً، باعتباري ضيفة، على حد تعبيرها.

في دمشق، لا شيء مستحيل

كنت في حالة غريبة، أمشي وكأنني مغمضة العينين، لا أرى، لا أسمع، لا أنتبه لأي شيء يعترضني في الشارع، بقيت أسبوعاً كاملاً بلا طعام، وبلا جوع حتى، هكذا كان حالي في الأسبوع الأول لي في دمشق.

عرفت دمشق من خلال أغنيات فيروز و شعر نزار قباني ودراما حاتم علي، أتيتها منذ ثلاث سنوات بهدف الدراسة الجامعية، قطنت في السكن الجامعي ولم أتأقلم مع جو مزدحم كهذا بسهولة. لقد اعتدت أن أكون انطوائية في الدريكيش، وفي السكن الجامعي فُرض علي أن أكون اجتماعية، كان كل من حولي يلومني على انطوائيتي هذه باستغراب.

في البداية لم أجرؤ على خوض تجربة نزهة واحدة. لقد خفت دمشق، خفت ازدحامها وكبرها الذي لا يناسب أحلامي المتواضعة، والتي لأول مرة أراها متواضعة، خفت ضجتها، خفت  ناسها الذين يخطؤون في مساعدة الغرباء على معرفة اتجاهات أحيائها، خفت ميكروباصاتها الضخمة، خفت الباص الذي يقلني إليها من مدينتي ،خفت غرباءها، وقضيت سنة من الخوف من تجربة أي شيء جديد في هذه المدينة.

لا قدرانة فل، ولا قدرانة أبقى

كنت أتنقل بين دريكيش ودمشق في أيام غربتي الأولى، كنت أتوق في كل زيارة لبيت دافئ يخرجني من الحالة الغريبة التي أصابتني، ولكنني لم أجده. لقد شعرت بالحيرة: هل علي أن أذهب إلى دمشق لأبني حياتي التي أطمح فيها، أم أبقى في المكان الذي من المفترض أن يحتويني، ولكنه لا يحتويني  في الحقيقة، وبالتالي لن أنجو من الغربة الروحية؟

عدت إلى دمشق، و بدأت بالتدريج أخرج من منطقة الراحة، و أقوم بتجارب متواضعة جديدة. أذهب لمكان شهير عليّ معرفة اتجاهه لمقابلة عمل، لأمشي في إحدى الحدائق، ورويداً رويداً كانت تعجبني مرونة دمشق، مرونتها زادت من مرونتي، خرجت من كل ضائقة بمرونة، أفشل وأبدأ من جديد في كل مرة، وبدلاً عن الباب الذي يوصد في طريقي، كنت أعلم أن أبوابها الستة الباقية ستفتح في وجهي. لقد اكتسبت تلك الحيوية والروح العملية منها، وعدت أنظر لأحلامي الكبيرة بمنطقية وبمسؤولية أكثر من قبل، إذ سرعان ما استحالت تلك الأحلام المتواضعة إلى كبيرة،  وفي نفس الوقت، ازدادت رغبتي بالعودة إلى الدريكيش لأصنع بصمتي الخاصة فيها، وأنشئ دريكيش التي حلمت بها.

رغم الجولات التي جلتها في أحياء دمشق القديمة والحديثة، لم أشمّ رائحة الياسمين الذي سمعت عنه في شعر نزار، لم أتحسّس ملمسه أو أرى غصناً يتفرع منه خارج أحد البيوت، لا رائحة للشجر، وحتى المطر، رائحته هنا مختلفة عن رائحة المطر التي اعتدتها في الدريكيش

الشام، بس وين الياسمين؟

رغم الجولات التي جلتها في أحياء دمشق القديمة والحديثة، لم أشمّ رائحة الياسمين الذي سمعت عنه في شعر نزار، لم أتحسّس ملمسه أو أرى غصناً يتفرع منه خارج أحد البيوت، لا رائحة للشجر، وحتى المطر، رائحته هنا مختلفة عن رائحة المطر التي اعتدتها في الدريكيش، وبين الفينة والأخرى أشتاق لتلك الرائحة، أشتاق لصوت الماء المنسكب من أحد الينابيع، أشتاق النسمات العليلة، وأشتاق بحر طرطوس الذي تتطلّب زيارته خطة خمسية من قبل أبناء الدريكيش، فأرضي شوقي بزيارة قصيرة إليها، لتكون وجهتي السياحية الوحيدة بين هموم العمل والدراسة، والآن، كزائرة، بدأت أحبها أكثر مما قبل.

مكان لا أكون ضيفة فيه

في المسرح، أستشعر وجودي بعض الشيء، وينتابني شعور بالحزن إن لم أكن من المستضيفين أو المشاركين في إنجاز العمل المسرحي الذي أشاهده، الحياة مسرحية، فيها البطل والكومبارس والمؤلف والمخرج، لكنني في كل مرة آخذ دور المتفرّج، وأود أن أجرب أحد الأدوار الأخرى كي أجد مكاناً يشبهني، مكاناً يعانق تناقضي وخوفي وقلقي وألمي وحماسي وشخصيتي الحدية، مكاناً يحتوي شغفي، مكاناً أكون فيه أنا بلا مساحيق، وبلا قيود، أريد مكاناً يمثلني، وسأعمل وأعمل وأعمل كي أحقق هذا الحلم، لأملك مكاني، بيتي، حلمي المنشود.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image