في عيادة طبيب المخ والأعصاب، تجلس سيدة ستينية رشيقة مرتدية عباءة سوداء مزركشة بزهور رمادية وإيشارب يمتزج فيه اللون البني بلون اللافندر، تضع حقيبتها السوداء على قدميها، تنظر في الفراغ بينما تنضح قسمات وجهها بما تحمله من هموم، تتشاغل بهاتفها المحمول فتتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لإضاعة الوقت.
تلتفت حولها، العيادة تمتلأ بالمرضى وذويهم، لم يكن هناك غيرها، جاءت وحيدة دون صحبة، تجلس منذ الحادية عشرة صباحا حتى الثانية والنصف بعد الظهر، موعد وصول الطبيب، أتجاذب معها أطراف الحديث، حول الانتظار وشدة الحرارة تخرج الكلمات بجهد شديد من فمها فتقول "القعدة مملة جداً"، تشكو من فقدان الرغبة في الحياة بما فيها منذ رحيل الأبناء وزواج آخرهم لم تعد قادرة على استيعاب الفراغ المفاجئ، تعبر عما تشعر به قائلة "أصحى من نومي ماعنديش طاقة أعمل حاجة".
لم يلتفت مجتمعنا لما يُعرف بمتلازمة "العُش الفارغ" منذ فترة طويلة، وهي متلازمة نفسية يمر بها أحد الآباء وتكون الأم الأكثر عرضة للإصابة بها بعد زواج الأبناء ورحيلهم من المنزل لتصطدم بواقع جديد يصعب استيعابه خاصة إذا كانت ربة منزل انفقت سنوات عمرها في صحبة أطفالها، تظهر الأعراض في صورة فقدان الرغبة في إنجاز أبسط الأعمال المنزلية أو تناول الطعام، وتتشابه لحد كبير مع أعراض الاكتئاب.
ينتهي الحال بكثير من أمهاتنا وآبائنا في العالم العربي إلى الوحدة بعد مغادرتنا لمنازلنا للزواج أو الهجرة، أو الاستقلال وبناء حياة جديدة في مدينة بعيدة. فكيف يمر الوقت عليهم بعد رحيلنا؟ وما هي الأعراض النفسية والجسدية التي تصيبهم بسبب من الوحدة وكيف يمكنهم التغلب عليها؟
الأم "المفترية"... صورة مغلوطة لطريق الوحدة
لخصت السينما المصرية معاناة الأم لزواج ابنائها وابتعادهم عنها في صورة "الأم المفترية"، الساعية لقلب حياة ابنتها دون النظر لمخاوفها ومشاعرها وما يعتمل داخلها، فطوال أحداث فيلم "حكاية زواج" بطولة سعاد حسني وشكري سرحان وماري مُنيب التي جسدت شخصية أم الزوجة التي ترفض سفر ابنتها مع زوجها بعد مفاجأتها بخبر السفر ليلة الزفاف، فتعمل على إيقاف الزيجة وعدم إتمامها قبل وعد زوج الابنة بالبقاء في القاهرة ورفض الترقية والسفر لجبل "عتاقة" في البحر الأحمر.
تستمر الأحداث على تصدير صورة الأم القاسية ومحاولاتها الدائمة لنسج آلاعيب تقضي بها على زواج ابنتها، وتتردد ابنتها بين حبها لزوجها وخوفها على مشاعر الأم لتتجلى مشاعر الأم الطبيعية بما تحمله من مخاوف لابتعاد ابنتها وانفصالها عنها بعد ارتباط سنوات طويلة في المشهد الأخير دون التركيز عليه أو إيصاله بالصورة التي تلفت النظر لما عُرف مؤخراً بمتلازمة العش الفارغ.
مرت والدة سُمية بمتلازمة العش الفارغ بعد زواج ابنتها، فتولد داخل سُمية شعور بالذنب أثر على حياتها الجديدة في بدايتها، موضحة أنها وأسرتها استبعدوا أن يكون ما تعانيه الأم أزمة نفسيه خاصة وأنها كانت تحلم بزواج الأبنة فمن المفترض أن تغمرها السعادة
اكتئاب وأعراض أخرى
سُمية محمد، 39 سنة، مرت والدتها بمتلازمة العش الفارغ بعد زواجها فتولد داخلها شعور بالذنب أثر على حياتها الجديدة في بدايتها، تقول لرصيف22 إنها لم تكن تعرف شيء عن المتلازمة أو تسمع بها من قبل، موضحة أنها وأسرتها استبعدوا أن يكون ما تعانيه الأم أزمة نفسيه خاصة وأنها كانت تحلم بزواج الأبنة فمن المفترض أن تغمرها السعادة.
الأعراض الجسدية من فقدان للوزن وعدم القدرة على الحركة وقلة النوم دفعهم للبحث عن سبب عضوي فكانت رحلة على مدار عامين بين الأطباء والتحاليل والأشعة، تضيف محمد أن أحد الأطباء نصحهم بزيارة طبيب نفسي فلم يقتنعوا في البداية ومع سلامة نتائج التحاليل والأشعة قرروا التجربة.
نوبات التعرق وما يصاحبها من صعوبة التنفس والبكاء والخوف من الموت كانت مفتاح التشخيص الخاطئ في بداية الأمر تقول سمية، إنهم لجأوا لطبيبة نفسية شخصت الحالة على كونها مصابة بالاكتئاب بناء على شرحنا ولم تتواصل مع والدتي بالشكل المناسب فكانت تلتقيها 5 دقائق فقط وتكتب جرعات زائدة من العقاقير والتي ساعدتها على العودة لتناول الطعام لكنها كانت سبب في النوم والخمول بشكل كبير ولم يتحسن مزاجها فبحثنا عن أخرى.
متلازمة العش الفارغ ليست حالة مرضية وإنما أزمة يمر بها الإنسان بعد عيشه في أسرة مستقرة ولحياته حركة دائمة وهدف طوال سنوات ومع خروج عدد من أفراد الأسرة واستقلالهم يضيع الهدف فيشعر الشخص بأن العش الدافئ المملوء بالحياة أصبح فارغا ويدفعه فقدان الهدف لفقدان معنى الحياة
التشابه بين أعراض الاكتئاب ومتلازمة العش الفارغ كانت سبب الخطأ في التشخيص كما رأت الطبيبة الثانية والتي ساعدت الأم على الخروج من أزمتها وإيقاف العقاقير لأنها لم تكن في حاجة لها وبدأ جلسات علاج "سايكودراما" -حسب سمية- موضحة أن عودة والدتها لممارسة النشاط اليومي والأعمال المنزلية وانشغالها بحياة أبنائها أعاد لها الشعور باستمرار الحياة وقيمتها.
تكررت التجربة رغم اختلاف الظروف مع زينب إسماعيل، 35 سنة، فبعد زواج شقيقتها الأكبر مرت والدتها بمتلازمة العش الفارغ رغم وجود زينب في البيت مع الأم، إلا أن قوة العلاقة بين الأم والأخت الأكبر كانت سببا في خوفها من الوحدة خاصة مع خروج ابنتها الأصغر للعمل وانشغالها بحياتها، تقول زينب لرصيف22 إنها أيضاً لم تكن سمعت بمصطلح العش الفارغ من قبل ولم تتوقع دخول والدتها في حالة مثلها لكونها شخصية قوية جداً.
موضحة أن والدتها كانت تمر بنوبات هلع يصاحبها تعرق شديد وذكر الموت فضلاً عن فقدان الوزن والأرق وعدم الرغبة في تناول الطعام وغيرها، فساعدهم الطبيب النفسي على تشخيص الحالة بمتلازمة العش الفارغ وأن الحل الأفضل لها ممارسة نشاط يومي لقتل الفراغ وإشعارها بامتداد حياتها، وهو ما ساعد والدتها على المرور من الأزمة إلا أنها تخشى الزواج خوفا من تكرار الأزمة ذاتها.
أعراض المتلازمة تشبه لحد كبير أعراض الاكتئاب بين الحزن وفقدان الطاقة والرغبة في الحياة، والأمهات أكثر الفئات تعرضا للمتلازمة لكونها الأكثر ارتباطا بالمنزل خاصة إذا لم تكن إمرأة عاملة وكرست حياتها للبيت والأبناء
طريق الخروج
الدكتورة أميمة رفعت استشاري الطب النفسي ومعالجة نفسية باستخدام "السايكودراما" توضح لرصيف22 أن متلازمة العش الفارغ ليست حالة مرضية بالمعنى المفهوم وإنما أزمة يمر بها الإنسان بعد عيشه في أسرة مستقرة ولحياته حركة دائمة وخط وهدف طوال سنوات ومع خروج عدد من أفراد الأسرة واستقلالهم يضيع الهدف فيشعر الشخص بأن العش الدافئ المملوء بالحركة والحياة أصبح فارغا ويدفعه فقدان الهدف لفقدان معنى الحياة.
وأضافت الاستشاري النفسي أن أعراض المتلازمة تشبه لحد كبير أعراض الاكتئاب بين الحزن وفقدان الطاقة والرغبة في الحياة، موضحة أن الأمهات أكثر الفئات تعرضا للمتلازمة لكونها الأكثر ارتباطا بالمنزل خاصة إذا لم تكن إمرأة عاملة وكرست حياتها للبيت والأبناء.
رأت رفعت أن الحل الأمثل للخروج من نفق العش الفارغ يختلف حسب السن والظروف البيئية والاجتماعية للحالة، موضحة أن قضاء الوقت في العمل أو نشاط يومي دائم يعيد إليهم الإحساس بالتواجد، مضيفة أنها توصلت مع إحدى الحالات لتربية الدواجن في منزلها، فاستعادت نشاطها في الحياة وتعاملت مع الدواجن باعتبارهم أطفال تهتم بشؤونهم يومياً، وحالة أخرى اطمئنت لاستمرار دورها وحياتها بمجرد مشاركة ابنتها في أعمال المنزل البسيطة فالأمر يتلخص في وضع هدف صغير لكبار السن لتجديد شغفهم بالحياة.
لم تلجأ أميمة للأدوية في معالجاتها لأصحاب المتلازمة، تقول إن العقاقير تضاعف سوء الحالة فيشعر الشخص بأنه مريض وفي أواخر أيامه، موضحة أن الحالة الوحيدة التي تلجأ فيها للأدوية هي أن يتحول الأمر لاكتئاب حقيقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...