لم أكن أرى تجاعيدها بهذا الوضوح الذي أراها به الآن…
أمي التي شاخت فجأة، فجأة بمعناها الحرفي.
المرة الأولى التي شعرت بأني أحمل عمرها على كتفي كانت عند البلم، القارب المطاطي الذي حمل همنا معاً نحو النجاة حينها.
أمسكت بيدي وقالت: "يا إمي خايفة". لكنني تصرفت كأني لم أسمعها. وضعتها في البلم.
كل ما كنت أفكر به إذّاك هو أنني سأذهب لبلاد توفر لأمي أسطوانة أوكسجين عند كل أزمة ربو، لكن أزمة الربو باغتتنا على الطريق، حيث لم يكف كل أكسجين اليونان ليملأ رئة أمي.
كل ما كنت أفكر به، وأنا أضع أمي في القارب المطاطي، أنني سأذهب بها لبلاد توفر لها أسطوانة أوكسجين عند كل أزمة ربو، لكن أزمة الربو باغتتنا في الطريق، حيث لم يكف كل أكسجين اليونان ليملأ رئة أمي.
شاخت عندما حملها الشباب وتسلقوا بها الجبل.
صغيرة جداً، لأول مرّة أراها بهذا الصغر والضآلة.
تغطي بجسدها نصف ظهر الشاب الذي يحملها، أحمل حقيبتي وحقيبتها وبطرف إصعبي أسندها عند الصعود كي لا تقع، كنت أظن أن إصبعي ستكفي أن أسندها بقية العمر.
أمي التي لم تكف عن سؤالها كل يوم: "ليش جبتيني عهالبلاد؟"
في كل مرّة يرن هاتفي لتخبرني أمي أنها تحتاجني لموعد ما وترجمة ما، أو لأقرأ لها البريد، أشعر بضياعها في هذه البلاد الواسعة، لكن عندما أراها مصانة بعيدة عن كل مسببات المهانة، أنسى كل الصعوبات التي واجهتها وستواجهها.
أمي جدة لأحد عشر حفيداً وحفيدة، تعيش مهاجرة في ألمانيا منذ سبع سنوات، ما زالت إلى الآن ترتدي جلبابها وحجابها الأبيض، تمتلك دراجة هوائية بثلاثة دواليب وتبحث كل يوم عن أبواب جديدة، تفتحها لتعيش كما تحب.
"قهوة السيدات" مشروع يجمع الجدّات المهاجرات
تبحث الجدات المهاجرات في ألمانيا عن طرقهن الخاصة بالاندماج، فالغالبية لم يستفدن من دورات اللغة التي تشكل حاجزاً ليس سهلاً أمام فرصهن بالتعايش هنا.ساعدت منظمة الدياكوني الكثيرات بالتعرف بعضهن إلى بعض من خلال اللقاء الأسبوعي للنساء المهاجرات في مدينة سالزغيتر في ألمانيا، فحظين بفرصة لتكوين الصداقات، ومشاركة الطعام والقهوة.
تقول نورا لبينة (38 عاماً)، من حلب ورئيسة مركز اجتماعي تابع لمنظمة دياكوني، التي تنظم ملتقى أسبوعياً تحت اسم (Frauen kaffe) قهوة السيدات، إن المشروع يهدف لجمع مهاجرات من مختلف الفئات العمرية، وترى أن هناك الكثير من النساء ممن هاجرن فرادى بدون عائلاتهن بهدف لم الشمل لاحقاً، إذ الكثير منهن كن يعانين من الوحدة وصعوبة الاندماج، فوجدت أن فكرة الملتقى الأسبوعي سيكون حافزاً لتكوين علاقات صداقة بين المهاجرات.
مع الوقت لاحظت نورا أن أكثر من التزمن بالملتقى هن الجدات المهاجرات، بعدما وجدن مساحة أمان وفرصة جيدة لمشاركة كل الهموم والمخاوف، كما أنهن يعتمدن على نورا بشكل أساسي بترجمة أوراقهن ومعاملات لمّ الشمل والمواعيد والعقود، فتقضي نورا ساعات عملها بينهن، تستخدم كل الخبرات والحلول الممكنة لتجعل حياتهن أسهل في هذه المدينة.
أنظر إلى مطبخها الذي جعلته نسخة طبق الأصل عن مطبخنا في مخيم اليرموك، الصواني مكانها خلف مغسلة المجلى، والطناجر فوق الخزائن، ونبتة السجادة تعربش على الشباك، حتى رائحة البيت، ذاتها
اليوم في ألمانيا، أنا أمّ أمي، أجلس الآن إلى طاولتها الصغيرة في المطبخ وهي منشغلة بغلي القهوة، أشعل سيجارتي فتنهرني كالعادة.
تخاف من المخالفات، كل المخالفات، من رمي عقب سيجارة في الطريق، إلى إصدار أي صوت بعد العاشرة.
تلتزم القانون بطريقة مثيرة للدهشة، تحب القوانين التي تراها سبباً رئيسياً في تقدم أوروبا.
أنظر إلى مطبخها الذي جعلته نسخة طبق الأصل عن مطبخنا في مخيم اليرموك، الصواني مكانها خلف مغسلة المجلى، والطناجر فوق الخزائن، ونبتة السجادة تعربش على الشباك، حتى رائحة البيت، ذاتها.
للأمهات قدرة هائلة على خلق الروائح والمحافظة عليها!
ما زالت أمي تصلي بثوب صلاتها عينه، الذي أخرجته من مخيم اليرموك ومن ثم حملته بحقيبتها إلى أوروبا.
تقول أم علي، (57 عاماً) التي لجأت لألمانيا عام 2015: "كانت ستكون الحياة أسهل لو لم يزل أبو علي على قيد الحياة".
تجيب عن سؤالي بكيف استطاعت المحافظة على عاداتها اليومية وكيف خلقت عادات جديدة تتناسب مع البلد الجديد، أن أهم العادات بالنسبة لها هي العادات الدينية. فبعد أن كانت تصلي عند أذان الجامع، أصبحت مضطرة أن تتعلم كيف تحمّل تطبيقات من متجر غوغل الإلكتروني، وتصلي عندما يؤذن الموبايل، وترى أيضاً أن المحافظة على العادات والاحتفالات الدينية شيء لا يمكن تغييره أو المساومة عليه.
على الرغم من وحدتها التامة وعدم وجود أولادها وأحفادها بجانبها، ما زالت تحاول الحفاظ على أجواء العيد التي كانت متعودة وأولادها عليها.
تقول: "مثلاً قبل العيد بأسبوع ببدأ بخبز كعكات ومعمول العيد وبخلي الريحة تفوح بالبيت وبعمل ديكورات البيت وبنضفه لأكون جاهزة لاستقبال صديقاتي وبروح بزورهن، صديقاتي يلي هني حالياً بمنزلة أهل".
تعيش أم علي وحيدة في منزلها بعد وفاة أبو علي في ألمانيا. وجود أولادها وأحفادها في هولندا يجعل ملف لمّ الشمل ضمن أوروبا صعباً جداً.
تحاول ذلك كل يوم، بجميع الطرق والإمكانيات الممكنة، لكن كل مرة تبوء المحاولات بالفشل وتخاف أن يكون الأمر مستحيلاً.
تجد أم علي أن الاختلاف إيجابي بالمجمل، وأنها ما زالت قادرة على الاندماج، لكن غياب زوجها بشكل مفاجئ شكل صدمة لم تكن سهلة.
أما عن الانفتاح والحريات الأوربية فتقول: "عادي أنا مرنة وأعرف أنها ليست بلدي بالنهاية، وأني مهما اختلفت المسميات ضيفة في هذا البلد، أنا متأقلمة وسعيدة. آخد حقوقي كاملة وأقدم واجباتي. القوانين هنا مهمة جداً وحلو الواحد يكون منضبط".
أمي الستينية التي أمضت خمسين عاماً فلسطينية في دمشق، ثم وجدت نفسها في ألمانيا فجأة.
يعجبها تأمينها الصحي ورف الأدوية المؤمنة، ومنزلها الصغير الذي فرشته كما تحب.
أجلس الآن مع أمي، أسألها:"هل أحببتِ ألمانيا ماما؟"
فتتنهد، لا تعرف ولا تستطيع أن تحدد مشاعرها.
أمي الستينية التي أمضت خمسين عاماً فلسطينية في دمشق، ثم وجدت نفسها في ألمانيا فجأة.
يعجبها تأمينها الصحي ورف الأدوية المؤمنة، ومنزلها الصغير الذي فرشته كما تحب، تهرب من كل الضغوط بخمس دقائق تمضيها وقوفاً مع إحدى صديقاتها وبنات جيلها في الطريق.
أسست أمي دائرة علاقات صغيرة مع نساء يشبهنها بالعمر والتجارب، صارت أكثر قوة وجاهزة للمغامرات، تحمل في حقيبتها دائماً أوراقاً حكومية أو بريداً ما، فإن صادفت أحداً تعرفه أخرجت أوراقها وسألت عن ترجمتها، تسأل أمي أكبر عدد ممكن من الأشخاص عن نفس الورقة لتتأكد وتطمئن.
أما أم خليل ع. (68 عاماً)، تعيش في ألمانيا منذ ثماني سنوات محاطة بعائلتها الكبيرة من بنات وأولاد وأحفاد، إلا أن كل هذا لم يشكل لها شعوراً تاماً بالأمان، فما زال ابتعادها عن ابنتيها حاجزاً بين الاستقرار وعدمه. تقول إنها تمسكت بعاداتها التي تراها جيدة وحاولت توريثها لأحفادها صغاراً وكباراً، وأخذت من المجتمع الألماني ما يناسبها كاحترام المواعيد والهدوء والانضباط، والزيارات في مواعيد تناسب الجميع…
تضيف أم خليل أن الاختلاف هنا كبير وقد يكون سلبياً بالنسبة لها لكنها ما زالت قادرة على خلق أجوائها الخاصة والعائلية. أما عن مفهوم المجتمع الألماني حول الانفتاح والحريات فترى أنه لا يناسبها بالمطلق، ولا يناسب معتقداتها الدينية، وأن كل ما تتمناه هو أن يلتم شملها ببقية أفراد عائلتها، ولا تهم البقعة الجغرافية التي ستجمعهم.
وتقول أمي إنها لا تريد أكثر من أن تعيش معي ومع إخوتي بنفس البلد. كل أحلامها تنتهي بغرفة تجمع أولادها جميعاً أمام عينيها .
تجربة اللجوء غيرت مفاهيم الجدات
تشاركني ياسمين التي تقيم في كندا منذ خمس سنوات مع والدتها الستينية: "أمي تخاف، لا تشعر بالأمان، يرافقها شعور بعدم الأمان، وذلك يعود لعدم معرفتها الكافية للغة. تشعر أمي بغرابتها بجلبابها وحجابها فأشعر أنها صغيرة تمسك طرف فستاني لتقطع الطريق".
تضيف ياسمين أن أمها تذهب لمدرسة اللغة كل يوم، وكانت هذه فرصة أم ياسمين الأولى لترتاد مدرسة منذ طفولتها. لذلك أعطتها وقتاً وجهداً. كانت هذه أكثر الأشياء والتجارب التي أحبتها وأخذتها على محمل الجد، تدرس وتتوتر عند الامتحانات والواجبات اليومية.
"تشعر أمي بغرابتها بجلبابها وحجابها فأشعر أنها صغيرة تمسك طرف فستاني لتقطع الطريق". تقول ياسمين المقيمة في كندا
لم تكن أم ياسمين اجتماعية أصلاً في سوريا، على عكس ما حصل هنا إذ بدأت تكوّن بعض العلاقات من الجالية السورية حولها. تقول ياسمين إن أمها بدأت تتعامل معها على أنها ناضجة ومستقلة وأخذت تبدي مشاعر أكثر احتراماً لها، وتتفهم رغباتها بانفتاح أكبر مما كانت عليه في سوريا. تلمس ياسمين تغيّر أمها بكثير من المواقف الاجتماعية وخصوصاً في قضايا النساء، إذ كانت "ترمي أذنها للمجتمع" من قبل، بينما الآن بدأت تتقبل وتناقش قضايا وتعبّر عنها بحرية تامة. وتحكي ياسمين بفرحة عارمة أنها استطاعت أن تفتح حديثاً عن المفاهيم الجنسية الخاطئة مع والدتها، وكان هذا الحديث هو الأول من نوعه منذ ولادة ياسمين!
تجربة اللجوء غيرت الكثير من مفاهيم الجدات، المفاهيم التي كانت غير قابلة للتغير أو النقاش حتى.
ظلت أمي تخاف الكلاب حتى قرع بابها فجأة ودخل كلب جيرمان، شمها ثم شم البيت وخرج، بقيت واقفة مكانها حتى دخل جارها الجديد وقال بالألمانية أنه أحضره ليتعرف على رائحتها ولا يخيفها يوماً، ومنذ ذلك الحين وهي تمسح رأسه مبتسمة، ثم تدخل وتتوضأ.
بدأت أمي تندمج وتعتاد المظاهر والعادات الغريبة عنها، فتأخذ منها ما يناسب قناعاتها وتترك ما تراه ضد معتقداتها.
تجمع أمي كل يوم سبت أحفادها وحفيداتها وتغني لهم أغاني فلسطينية وتخبز الكعك، ربما بذلك تشعر أنها قادرة على الاستمرار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون