شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
رجال

رجال "بلا غيرة" لكن التقدّم لا بد منه… من الأزهر إلى باريس مع رفاعة الطهطاوي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتاريخ

الأربعاء 6 سبتمبر 202312:57 م

رحلة يعدّها كثرٌ من المؤرخين والمثقفين النافذةَ الأولى التي أطلّ منها العقل العربي على الحضارة الأوروبية الحديثة، ونظر إليها بعين ثاقبة لا تخلو من حزنٍ على حالنا وحسد على مميزات تمنينا لو وُجدت في بلادنا. إنها رحلة رفاعة الطهطاوي إلى باريس.

ابن الصعيد في بلاد الفرنجة!

عام 1801، في مدينة طهطا في صعيد مصر، وُلِدَ رفاعة رافع الطهطاوي. اعتنى به أبوه في صغره، فحفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل دراسته في الأزهر على يد الشيخ حسن العطار، الذي اشتهر بِسِعة أفقه، وكثرة أسفاره، فخرج رفاعة كأستاذه واسعَ الأفق، عميق المعرفة، لكن تنقصه كثرة الأسفار!

عند قراءة الكتاب سنتفاجأ بأن رفاعة قد يكون مدفوعاً بالاستعلاء الديني على البلد الذي يزوره، إذ يفتتح كتابه بقوله: "في ذكر ما يظهر لي من سبب ارتحالنا إلى هذه البلاد، التي هي ديار كفر وعناد، وبعيدة عنا غاية الابتعاد، وكثيرة المصاريف، لشدة غلو الأسعار فيها غاية الاشتداد"

في تلك الأثناء كانت مصر "قد استيقظت بعد حملة نابليون عام 1798، وإذ بها تستفيق على تخلف عميق عن ركب الحضارة، فقد فتحت عينيها على العلم والطباعة والمسرح وتنظيم الدولة"، وفقاً لما قاله الكاتب بيان الصفدي في كتابه "رفاعة الطهطاوي: سؤال المستقبل".

ويضيف الصفدي: "قُيّض لمصر حاكم مستنير -يقصد محمد علي باشا الذي تولى عرش مصر عام 1805-، رأى أن الأساس الأول للنهوض لا بد أن يكون بالتعليم والتصنيع والتنظيم، وكانت البعثات العلمية هي الخطوة الأولى لتحقيق ذلك".

بدأت تلك البعثات الخارجية من مصر بعد أربعة أعوام فقط من تولّي محمد علي باشا عرشَ مصر، حين اتجهت البعثة الأولى نحو إيطاليا، ومرت بعدها سبع عشرة سنةً كاملةً لتخرج ثاني البعثات إلى فرنسا، وتحديداً عام 1826. وهنا جاءت الفرصة للطهطاوي، ليكون ضمن البعثة بصفته مشرفاً على 40 طالباً مصرياً، بناءً على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصاً نافعاً لوطنه ومجتمعه، فعكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره.

بعد خمس سنوات قضاها الطهطاوي في باريس، عاد إلى مصر عام 1831، واضعاً كتابه الأشهر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز".

باريس بعينَي رفاعة

انبهر الطهطاوي بباريس كأي غريب يزور بلداً لأول مرة في حياته، فنجده معجباً بنهر السين الممتلئ بالمراكب العظيمة، وعلى ضفافه المباني المختلفة، خاصةً الحمامات، حيث يقول: "ومن غرائب نهر السين أنه يوجد فيه مراكب عظيمة، وفيها أعظم حمّامات باريس المشيّدة البناء، وفي كل حمام منها أبلغ من مئة خلوة".

رحلة الطهطاوي إلى باريس يعدّها كثرٌ من المؤرخين والمثقفين النافذةَ الأولى التي أطلّ منها العقل العربي على الحضارة الأوروبية الحديثة.

ويقول عن العمارة: "وقد تقرر أن المِلّة الفرنساوية ممتازة بين الأمم الإفرنجية بكثرة تعلقها بالفنون والمعارف، فهي أعظم أدباً وعمراناً، والبنادر أولى في العمارات عادةً من القرى والضياع، والمدن العظمى أولى من سائر البنادر (...) ولا عجب إن قيل إنّ باريس من أعظم بلاد الإفرنج بناءً وعمارةً، وإن كانت عمارتها غير جيدة المادة فهي جيدة الهندسة والصناعة".

وإذا انتقلنا إلى عاداتهم وطباعهم، نجد أن الطهطاوي وقف أكثر من مرة موقف إعجاب، فوصف بيوتهم ونظافتها وأغذيتهم وعاداتهم في المأكل والمشرب، فنراه يقول مندهشاً: "ومما يُشاهَد عند الإفرنج أنهم لا يأكلون أبداً في صحون النحاس، بل ولا في أوانيه أبداً، ولو مبيضة، فهي للطبخ فقط، بل دائماً يستعملون الصحون المطلية، وللطعام عندهم عدة مراتب معروفة، وربما كثرت وتعددت كل مرتبة منها، فأول افتتاحهم الطعام يكون بالشوربة، ثم بعده باللحوم، ثم بالخضروات، وربما كانت الصحون مطليةً بلون الطعام المقدّم، ثم يختتمون أكلهم بأكل الفواكه، ثم بالشراب المخدر".

لكن أعجب ما في رحلة الطهطاوي وصفه لحال النساء في باريس، حين يقول: "ومن خصالهم الرديئة قلة عفاف كثير من نسائهم، وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة بمثابة المصاحبة والملاعبة والمسايرة".

ويقول أيضاً: "والغالب أن الجلوس للنساء ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس، ولم يكن ثم كرسيّ خالٍ قام لها رجل وأجلسها، ولا تقوم لها امرأة لتجلسها، فالأنثى دائماً في المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم إن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه، فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه، ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت".

الطهطاوي بين الدين والعلم

للوهلة الأولى سنتفاجأ عند قراءة الكتاب بأن رفاعة قد يكون مدفوعاً بالاستعلاء الديني على البلد الذي يزوره، إذ يفتتح كتابه بقوله: "في ذكر ما يظهر لي من سبب ارتحالنا إلى هذه البلاد، التي هي ديار كفر وعناد، وبعيدة عنا غاية الابتعاد، وكثيرة المصاريف؛ لشدة غلو الأسعار فيها غاية الاشتداد".

ويقول في موضعٍ آخر: "أقسام الدنيا خمسة يصح تفضيل بعضها على بعض بحسب مزية الإسلام ومتعلقاته، فحينئذ تكون آسيا أفضل الجميع، ثم تليها إفريقية لعمارها بالإسلام والأولياء والصلحاء، خصوصاً باشتمالها على مصر القاهرة، ثم تليها بلاد أوروبا لقوة الإسلام، ووجود الإمام الأعظم إمام الحرمين الشريفين سلطان الإسلام فيها".

في هذا السياق، يقول الكاتب سمير مندي في بحثه المنشور في الجامعة الأردنية بعنوان "الحكاية الأخرى: قراءة في كتاب تخليص الإبريز في تلخيص باريز": "لنقل إن رفاعة كان يعتقد في قرارة نفسه أن المسلمين كانوا أجدر من غيرهم بامتلاك سبل التقدم والحضارة، لا سيما وأنهم قد امتلكوها من قبل. فإذا كان الدين الإسلامي يرسم خريطة العالم ويحددها، فإن هذا الدين نفسه قد امتلك العالم -في الماضي- بتبنّيه قيم العقلانية".

يرى الطهطاوي أنه إذا كان الإسلام قد انتصر من قبل بفضل العلم والعلماء، أو كما قال: "فإننا كنا في زمن الخلفاء أكمل سائر البلاد، وسبب ذلك أن الخلفاء كانوا يعيّنون العلماء وأرباب الفنون"، فإنه -من وجهة نظره- سينتصر مرةً أخرى على يد محمد علي، ما دام يعيد سيرة هذا الماضي المجيد بتبنّي العلم والعلماء.

انبهر الطهطاوي بباريس كأي غريب يزور بلداً لأول مرة في حياته، فنجده معجباً بنهر السين الممتلئ بالمراكب العظيمة، وعلى ضفافه المباني المختلفة، خاصةً الحمامات

برغم ذلك، لم يغفل الطهطاوي قيمة العلم، فيقول: "بلاد الإفرنج الآن في غاية البراعة في العلوم الحكيمة وأعلاها في التبحر (...) ببراعتهم وتدبيرهم ومعرفتهم".

أثر الرحلة على الطهطاوي ابن الشرق

بالنظر إلى أثر رحلة باريس على رفاعة الطهطاوي، نجده في غاية الإيجابية، ففي مؤلفاته اللاحقة ما يثبت اطلاعه على نتاج الغرب الفكري والأدبي، فقد ذكر في رحلته أنه "قرأ من كتب الفلسفة الفرنسية مؤلفات كوندياك في الفلسفة والمنطق، وبعض مؤلفات فولتير منها معجم الفلسفة، وبعض مؤلفات روسو (عقد التآنس والاجتماع الإنساني)" على حد قوله.

اتضح ذلك الأثر الإيجابي جلياً في ما تركه رفاعة من مؤلفات عقب عودته، منها كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين"، وفيه أراد أن يكون المسلمون مثل النموذج الفرنسي في كل شيء، ومن ثم طالب في مشروعه الإصلاحي بتعليم المرأة حتى تصل إلى مرتبة المرأة الفرنسية، وأقام جامعة الألسن لتعليم اللغات الأجنبية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard