منذ يومين، كنت مستلقية فوق السرير بصدد قراءة كتاب "حضارة السمكة الحمراء"، للصحفي الفرنسي برونو باسيو، وإذ بإشعار واتساب يرد إلى هاتفي. إنها حلاقتي، أرسلت لي تسجيلاً صوتياً لتخبرني بأن إحداهن قد أعلمتها بأنني عدت من السفر، ثم سألتني إذا كنت بحاجة إلى خدماتها.
كان الأمر غريباً بالنسبة لي، فحلاقتي الفرنسية هنا في جيبوتي تدّعي دائماً بأن كل وقتها محجوز لمدة أشهر في المستقبل، وأنه ليس لديها مكان شاغر لأي زبونة جديدة.
استغربت اتصالها، وشعرت بنوع من الحرج غير المبرّر في الحقيقة. منذ أشهر، قرّرت أن أتخلى عن كل أنواع العلاجات الكيمائية لفرد الشعر وكذلك مستحضرات صبغ الشعر، وأن أتقبّل بشكل نهائي شعري المجعّد.
لقد سئمت الجري إلى صالون التجميل في كل مرة تنمو فيها جذور شعري، بعد مضي مدة على معالجته. لم أعد أتحمّل ذلك الذعر الذي ينتابني في كل مرة أسرّح فيها شعري باستخدام الحرارة عند الحلاقة، ثم يتبخّر ذلك المفعول بمجرّد أن أتعرّق قليلاً. كنت أقضي الكثير من الوقت لدى صالونات التجميل وكذلك على شبكة الإنترنت، باحثة عن أحدث المنتجات أو الماركات العالمية لفرد الشعر المجعّد/ الإفريقي، وتحويله إلى شعر ناعم كالحرير.
نشأت في حي تسكنه فتيات من ذوات الشعر الناعم والطويل، بينما كنت نحيلة، سمراء، ذات شعر مجعّد وجاف. أستذكر كل العبارات العنصرية التي تتعرّض لها النساء من ذوات الشعر المجعّد في الشارع التونسي: رأس المكنسة، رأس النخلة، الشعثاء، الغولة، البشعة
بدأت رحلة المعاناة مع شعري منذ الطفولة. نشأت في حي تسكنه فتيات من ذوات الشعر الناعم والطويل، بينما كنت نحيلة، سمراء، ذات شعر مجعّد وجاف، وهي صدفة سيئة وغريبة. ما زلت أذكر أيام الآحاد بالكثير من المرارة حتى اليوم. كانت أمي تُحممني ثم تُجلسي أرضاً، وتضع إحدى رجلي تحت رجلها، حتى لا أفلت عندما تجذب شعري بالمشط بعنف لتصنع لي الضفائر. وذلك لتجنبني تنمّر الأطفال في المدرسة والحي على شعري المنكوش، ولتحسّ بكونها أمّاً لا تقصر في واجباتها، وتعتني جيداً بطفلتها.
عندما أصبحت في سن المراهقة، توترت علاقتي بشعري أكثر فأكثر. صرت أطالب كل يوم أحد بثلاثة دنانير لتسريح شعري في صالون التجميل، ويتزامن ذلك الطلب عرض تراجيدي لفرقة العائلة: تستهل أمي العرض بوصلة طويلة تذكّرني بأن ميزانية العائلة لا تتحمل مثل هذه المصاريف، وبأنني أنانية ولا أفكر إلا في نفسي، ثم ينهي أبي كل هذا عندما يمدّ يده إلى جيبه ويمدني بالنقود بكثير من الامتعاض الظاهر على ملامح وجهه، أما أنا فأذهب إلى صالون التجميل لأحجز مكاني في طابور الانتظار الطويل.
عندما دخلت الحياة العملية صرت أنفق جزءاً كبيراً من راتبي على مستحضرات العناية بالشعر وصالونات التجميل.
أصبحت أشعر أنني أعيش بهوية مزيفة، وأستذكر كل العبارات العنصرية التي تتعرّض لها النساء من ذوات الشعر المجعّد في الشارع التونسي: رأس المكنسة، رأس النخلة، الشعثاء، الغولة، البشعة...
صرت أعيش حالة من الهلع المتواصل بسبب ذلك. أحياناً تراودني كوابيس بأنني صرت صلعاء تماماً. أصبح كل ذلك يخنقني. منذ أشهر قمت بحذف تطبيقي فيسبوك وإنستغرام من هاتفي الذكي، ولكني رغم ذلك لست بمنأى عن وابل الإعلانات الذي يسطو عليّ من كل مكان: غوغل، يوتيوب وغيرها من التطبيقات.
كنت أعتقد، مثل الكثيرين، بأن العالم الرقمي هو عالم لحرية التعبير والاختلاف، لكن هذا الاعتقاد أصبح مجرد حلم انتهى مع الفجر الأول للإنترنت. أما اليوم فالخوارزميات والروبوتات تعمل بلا توقف على جعل المستخدم أكثر انغلاقاً على ذاته، ومستسلماً لمعتقداته وأفكاره المسبقة.
لقد اشتريت منتجات غالية للعناية بالشعر فقط لأنني شاهدت إعلاناً للترويج لها من قبل إحدى "المؤثرات" على شبكات التواصل الاجتماعي. الآن أصبحت أدرك بأنني، كأي شخص أمّي، قد انسقت وراء ما يعرض أمامي من منتجات، وأن مناعتي ضد التلاعب والتوجيه تضعف كلما طالت مدة استخدامي لمنصات التواصل الاجتماعي.
لم تحمني ثقافتي وكل تلك الكتب التي قرأتها من الوقوع في الفخّ، فخّ نكران الكثير من النساء لهويتهن الإفريقية، وخاصة نساء شمال إفريقيا مثلي. تعرّض الشعر الإفريقي إلى الكثير من الإساءة الرمزية لعدة قرون، فتم وصفه بأبشع النعوت: خشن جداً، غير منضبط، ومشتت للغاية أو قبيح.
يمكن للضغوط المجتمعية أن تدفع النساء إلى تغيير الاعتقاد القائل بأن الشعر الافريقي ليس شعراً جميلاً، ويعود ذلك إلى تاريخ طويل من الانبهار بالمستعمر الأبيض، الذي يتواجد على الضفة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط.
هذا المستعمر نفسه من يصنع مستحضرات معالجة الشعر الإفريقي، وتمثل بلدان العالم الثالث سوقاً مربحة له. النساء من أصول إفريقية ينفقن أكثر من غيرهن على الشعر، حيث ينفقن ما يقارب تسعة أضعاف ما تنفقه النساء من الأعراق الأخرى على منتجات العناية بالشعر والشعر المستعار. أضف إلى ذلك، 473 مليون دولار من إجمالي العناية بالشعر، و127 مليون دولار من أدوات العناية بالشعر، وأيضاً، 465 مليون دولار في مستحضرات العناية بالبشرة، وننفق 1.1 مليار دولار على الجمال سنوياً (يشمل ذلك الشعر المستعار، متاجر مستحضرات التجميل المستقلة، التجارة الإلكترونية والأدوات والأجهزة).
يمكن للضغوط المجتمعية أن تدفع النساء إلى تغيير الاعتقاد القائل بأن الشعر الافريقي ليس شعراً جميلاً، ويعود ذلك إلى تاريخ طويل من الانبهار بالمستعمر الأبيض، الذي يتواجد على الضفة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط
وفقاً لبيانات السوق والمستهلكين العملاقة Statista، تم قياس القيمة الإجمالية لسوق العناية بالشعر في بريطانيا العظمى عند 1.72 مليار جنيه إسترليني في كانون الأول/ ديسمبر 2019؛ مع إنفاق النساء البريطانيات من أصول إفريقية ستة أضعاف ما تنفقه نظيراتهن من البيض. للأسف لم أتمكن من الحصول على أي إحصائيات في العالم العربي عن مستوى إنفاق النساء على معالجة الشعر المجعّد أو غيره من المستحضرات الكيميائية، ولعل ذلك يدخل في باب الإنكار الآنف ذكره، فعندما أطرح السؤال باللغة العربية على غوغل، فإن نتائج البحث التي تظهر لي عبارة عن إعلانات لمستحضرات لفرد الشعر وصالونات تجميل، وفي ذلك تأكيد لفكرة أن الخوارزميات، في زمن الرأسمالية الرقمية، تعمل لغايات تجارية فقط.
منذ مدة صرت أشعر بعدم الارتياح النفسي بسبب عدم اعترافنا، كنساء من شمال إفريقيا، بهويتنا. هذا الإنكار ولّد عندي حالة من الاستلاب. أصبحت أشعر أنني أعيش بهوية مزيفة، وأستذكر كل العبارات العنصرية التي تتعرّض لها النساء من ذوات الشعر المجعّد في الشارع التونسي: رأس المكنسة، رأس النخلة، الشعثاء، الغولة، البشعة...
استسلمت أخيراً لهرسلة الحلاقة وحجزت موعداً بعد الظهر. استغربتُ عندما رحّبتْ بي بشكل مبالغ به على غير عادتها، ثم انطلقت في الكلام كالمذياع: "أهلاً وسهلاً. لقد اتصلت بك لأنني سأسافر بعد أسبوعين، وأكيد أنك تريدين معالجة شعرك بالكرياتين وتعديل القصّة والصبغة، وذلك يتطلب وقتاً كثيراً كما تعلمين... كما أنك لم تأت إلى الصالون منذ مدة طويلة...".
صمتُ لبرهة، ثم قلت لها: "لقد توقفت عن فعل كل هذا. جئت فقط لقصّ أطراف الشعر. لقد قرّرت أن أتقبل نفسي كما أنا...". قلت ذلك وأنا أنظر في عينها مباشرة. لاحظت أن سحنتها تبدلت بعد سماع كلامي، ثم أشعل سيجارة دخّنتها على عجل قبل أن تقوم بغسل شعري. وعند الانتهاء من قص الشعر قالت لي: "شعرك جاف جداً، يجب أن تعتني به أكثر. ولا تضعي له الزيوت فهي غير مفيدة. منذ قليل كنت مضطرّة لغسله بالشامبو ثلاث مرات...".
قُلت لها وأنا أغادر الصالون: "شكراً. سأفعل ذلك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه