في أول مرة أصبحت أمّاً، لم أكن أخطّط لذلك، كما لم أكن أخطّط لعكسه. كنتُ تزوّجتُ، بكامل إرادتي ومشيئتي، في العشرين من العمر، محمولة لفعل ذلك بدوافع متنوّعة، أبرزها الرغبة في الانعتاق من سلطة الأهل، لكني كنت مصمّمة على إنهاء دراستي الجامعية بعد الزواج.
وقع الحَمل بشكل شبه فوري ومفاجئ، قبل أن يتسنّى لي التأمّل في خياراتي واتخاذ أي قرار في هذا الشأن، لكنّي، رغم صغر سنّي وعدم استعدادي الفادح لتحدّي الأمومة، لم أقلق، لم أفزع، لم أحمل أي همّ: كنتُ ببساطة، أقلّ نضجاً من أن أفكّر بتبعات الأمر، وأقدّر حجم المسؤولية التي سوف تقع على عاتقي من جرّائه. فضلاً عن ذلك: شيءٌ ما فيَّ تنفّس الصعداء، لأني كنتُ في مراهقتي، لسببٍ غامض، خائفة من عدم قدرتي على الإنجاب. هكذا ولد ابني البكر، منير.
حبل الذنْب طويل
حصل هذا لواحد وثلاثين عاماً مضت، تخلّلتها ولادة ابني الأصغر أنسي، وإنهائي دراستي الجامعية الأولى، وتحصيلي شهادة عالية ثانية، وتعلّمي لغات كثيرة، وعملي في مؤسسات إعلامية مرموقة، وتحقيقي مشاريع ثقافية عدة، وإصداري ستة عشر كتاباً، وقيامي بأسفار حول العالم لإلقاء القصائد والمحاضرات، وخوضي، أثناء ذلك كلّه، معارك ضروساً متتالية في سبيل الحريات خصوصاً، والقيم الإنسانية الأخرى التي أؤمن بها وأدافع عنها عموماً. واحد وثلاثون عاماً من الكدّ والجهد والطموح والإنجاز، كما من الزلّات والأغلاط والخسائر والدروس، غيّرتْ فيَّ سمات كثيرة، إن في طباعي وأمزجتي أو في عاداتي وميولي، بعضها نحو الأفضل، وبعضها الآخر لا.
النظام البطريركي المسموم الذي يقيّدنا ويحجّمنا ويعذّبنا ويهيننا، ليس فقط أخطبوطاً تتكمّش أذرعه بنا من "خارج"، بل هو وحش متأصّل ومتجذّر فينا، يستيقظ وينام معنا ويتحكّم بنا ويؤثّر في لاوعينا ونظرتنا إلى أنفسنا
طبيعة وساوسي أيضاً تغيّرت إلى حد بعيد، ما عدا ثابتة واحدة، صامدة، مستتبة، لم تتزحزح: هجسي القهري حول ما إذا كنتُ أمّاً جديرة أو سيئة، حاضنة أو مؤذية، واعية أو جاهلة. واحد وثلاثون عاماً لم أكف خلالها عن التساؤل حول هذا الشأن، ولم أكفّ، خصوصاً، عن الشعور بالذنب: بالذنب لأني اشتغلت. بالذنب لأني سافرت. بالذنب لأني طمحت ولاحقت. بالذنب لأني طلّقت. بالذنب لأني عدت وتزوجت. بالذنب لأني لم أطبخ يوماً، لم أغسل، لم أكوِ. بالذنب لأني لم أكن أشبه في شيء، لا بالأفكار ولا بالسلوك ولا بالخطاب، غالبية الأمهات الأخريات في مدرسة ولديَّ، ولاحقاً في حياتهما الاجتماعية خارج المدرسة، ومن بعدها الجامعة.
بالذنب، باختصار، لأني، في كل مراحل نفسي وتحوّلاتها، كنتُ نفسيَ هذه بلا مساومات، ولأني حاولتُ أن أحقق أنايَ وأحلامي بنهمٍ جارف، يتناقض في شكل قاطع، لا لبس فيه، مع مفهوم الأمومة مثلما تعلّمتُه وتربيتُ عليه في محيطي: مفهوم يقوم حصراً على مبادئ كالتضحية، والفداء، والعطاء الدائم، وبذل الذات، بل محوها تماماً.
اذهبي وحلِّقي
للعلم، لم يكن هذا الشعور القاتل بالذنب، الذي نغّص عليَّ الكثير من أوقات النجاح والتحقيق والفرح، نتيجة أي عتاب أو تأنيب أو ملامة وجّهها إليّ يوماً منير وأنسي. بل على العكس من ذلك تماماً، لطالما كان ولدايَ من أبرز الداعمين لي، المساندين لمخططاتي، المؤيدين لخياراتي والفخورين بإنجازاتي، وبِمَن أنا خصوصاً. وهذا ليس بالقليل. فأنا لستُ، ولم أكن يوماً، أمّاً "سهلة"، وكلّ شيء تقريباً في حياتي وآرائي وكتاباتي وتصرّفاتي وطريقة تربيتي لهما، تحدّى العالم التقليديّ الذي كانا يريانه ويختبرانه خارج جدران بيتنا. لكنّهما احترما اختلافي، وتباهيا بنجاحي، وراهنا عليَّ، وسأبقى ممتنّة لهما مدى عمري على ذلك، وسواه.
للعلم أيضاً، لم يكن هذا الشعور بالذنب نتيجة أي انتقاد أو استهجان أو توبيخ كان يصلني من محيطي المباشر والضيّق، أي عائلتي من جهة، وشركائي من ثانية. فوالدتي على سبيل المثال، التي كانت لنا، أثناء نشأتنا شقيقي وأنا، أمّاً نموذجية، تتطابق حرفياً مع ما نتعلّمه في كتب القراءة عن الأم (ربة المنزل المضحِّية، المعطاءة، المكرِّسة نفسها ووقتها وطاقتها حصراً لخدمة ولديها وخيرهما ومصلحتهما وحاجاتهما)، كانت هي نفسها مشجِّعتي الأولى على السعي وراء أحلامي، وعلى التقدّم في عملي، وإنجاز المزيد والمزيد.
وقد تولّت جزءاً أساسياً من المهام المرتبطة بالاعتناء "التقليدي" واليومي بولديَّ عندما كانا صغيرين، لكي أتمكّن في المقابل من القيام بما كنتُ أريد القيام به، وبما كنتُ، أيضاً، مضطرّة للقيام به بسبب ظروفي. فأنا، وهذه نقطة ليست بالهامشية، لم أخض غمار العمل فقط رغبة في العمل، وتطلّعاً إلى توفير استقلالي المادي الذي لطالما اعتبرته محطة جوهرية في مشوار التحرّر، وإيماناً منّي بحقّي في تحقيق ذاتي وتوقعاتي منها - علماً أن هذه الرغبة والتطلع والإيمان كانت محرّكاً جوهرياً وراء كل ما قمتُ به - بل بدأتُ أعمل أيضاً لأني وجدتُ نفسي، في مرحلة مبكرة من حياتي، معيلة رئيسية لولدي منير، ومسؤولة عن مصاريفه، من أكل وطبابة وكساء وأقساط مدرسية ولاحقاً جامعية، وعن سواها أيضاً من النفقات، أكانت أساسية أو ما يسمّى بــ "الكماليات"، وكنتُ مصمِّمة بشراسة على أن أوفّر له كما لأنسي- ولنفسي أيضاً- كلّ ما كنتُ قد حُرمتُ منه أثناء نشأتي، نتيجة أحوال أهلي الصعبة.
من أين لي هذا؟
لم أسمع يوماً من والدتي – أكرّر - أي تأنيب في ما يتعلّق بخياراتي، رغم قلقها العظيم عليّ جرّاء الحِمل الكبير الذي كان واقعاً على كتفيّ. لم تقل لي يوماً مثلاً: "لا تسافري وتتركي ولديكِ"، بل على العكس: "اذهبي وحلِّقي ولا تحملي أي همّ فأنا هنا". وإنني مدركة تماماً كم كان دعمها هذا بركة هائلة عليَّ، إذ سمح لي بأن أحقق الكثير مما حققتُه، مما كان ليكون مستحيلاً، عملياً ومعنوياً، لولا وجودها ووقوفها إلى جانبي.
والدي كذلك كان سنداً مهمّاً، ومحفّزاً قوياً، ومحمِّساً استثنائياً، ومهلِّلاً معتزاً، ومثله شقيقي شادي، ومثلهما غالبية شركائي المتتالين في الحبّ والحياة، أي أنني أعرف وأعترف أني كنتُ، على هذا الصعيد، أكثر حظاً من نساء كثيرات أخريات، ماهرات وطموحات ومجاهدات، لم يؤت لهنّ تحقيق ما كنّ يردن ويستطعن تحقيقه، بسبب غياب شبكة الدعم التي تمتّعتُ أنا بها، والتي تشكّل امتيازاً لا يستهان به.
لم أسمع يوماً من والدتي أي تأنيب في ما يتعلّق بخياراتي، رغم قلقها العظيم عليّ جرّاء الحِمل الكبير الذي كان واقعاً على كتفيّ. لم تقل لي يوماً مثلاً: "لا تسافري وتتركي ولديكِ"، بل على العكس: "اذهبي وحلِّقي ولا تحملي أي همّ، فأنا هنا"
مع ذلك، ورغم كل ما سبق، كنتُ، وظللتُ- بل ولا أزال في بعض لحظات الضعف والكآبة- أشعر بالذنب، يومياً وبمناسبة وبلا مناسبة، وبإصرار وإلحاح ممضّين، يتآكلني شعور بالذنب كسرطان خبيث، ويبخّ في أذنيّ سموماً من نوع: "لقد أهملتِ ولديكِ ووضعتِ نفسكِ أوّلاً"؛ "يا لكِ من أمّ سيئة وأنانية"؛ "أنتِ لا تستحقين هبة الأمومة"، وسواها من الرسائل المؤذية المشابهة.
طويلاً لم أفهم مصدر هذا الشعور ومسبّباته، لأني، منذ سنّ مبكّرة جداً، كان لديَّ وعي فطري، شبه بدائي، بأن لديَّ الحق في أن أكون من أريد أن أكون، وبأن أحقق ما أريد أن أحقق. كما أنه يفترض بقراءاتي اللاحقة، وباكتشافي لنسويتي خصوصاً، وللنسوية عموماً، أن تكون قد أعتقتني من رواسب المفهوم التقليدي للأمومة. من أين يجيء إذن هذا الإحساس العنيد والدائم بأني "مقصِّرة" ولستُ أهلاً؟
العدوّ منّا وفينا
بعد الكثير من التفكير والتأمل، والكثير الكثير من المعاناة والمكابدة، توصّلتُ إلى هذا الاستنتاج البديهي: إن النظام البطريركي المسموم الذي يقيّدنا ويحجّمنا ويعذّبنا ويهيننا، ليس فقط أخطبوطاً تتكمّش أذرعه بنا من "خارج"، بل هو وحش متأصّل ومتجذّر فينا، يستيقظ وينام معنا ويتحكّم بنا ويؤثّر في لاوعينا ونظرتنا إلى أنفسنا، مهما كنّا متسلّحين بالمعرفة والإرادة والتمرّد والثقة بالنفس والغضب، وسواها من أدوات "الحرب" عليه.
فأنا كنتُ أعرف بالعقل أن ليس هناك أمٌّ كاملة ومثالية؛ وكنتُ أعرف بالعقل أن سعيي وراء أحلامي وإخلاصي لقناعاتي قد يفيدان ولديَّ أكثر من وجودي قربهما أربعاً وعشرين ساعة في اليوم؛ وكنتُ أعرف بالعقل أني، إذ أطارد طموحاتي، لا أفعل شيئاً سيئاً أو معيباً أو خاطئاً؛ لكن هذا كله لم يكن كافياً لكي أواجه العدو الذي أحمله داخلي، والذي دأبتْ على تغذيته وتمكينه وشدّ عوده، تربيتي ومجتمعي وقوانين بلادي وأحكام الدين الذي نشأتُ في كنفه، وجحيم المقارنات مع الأمهات الأخريات، وسواها من العوامل التي تتضافر لسحقنا نحن النساء، والتي، غالباً للأسف، نتواطأ معها، إن طوعاً أو لا إرادياً.
هذا كله لم يكن كافياً لكي أنتصر عليه، ذلك العدوّ الماكر، ولكي أقضي عليه تماماً. هكذا تعلّمتُ أنّ هذه المعركة هي معركة ضد الآخرين، لكنها أيضا ضد أنفسنا، علينا أن نخوضها في شكل يومي: نربحها تارة ونخسرها أطواراً.
خيار لا قدر
في موازاة ذلك، لم تكن لديَّ، أثناء طفولتي ومراهقتي، ورغم كل قراءاتي المستنيرة، أي تساؤلات حول ما إذا كنتُ أريد أن أكون أمّاً في المستقبل أم لا. لم يكن احتمال "اللا أمومة" مطروحاً لديَّ، بل كنتُ مقتنعة، بلا كثير تفكير وتحليل ومراجعة، بأن هذا مجرى الأمور الطبيعي، وبأن الموضوع من المسلّمات، وبأني، حكماً، سوف أنجب أطفالاً في أحد الأيام إذا ما أوتي لي أن أفعل. أضف إلى ذلك، أن الموقف العام في بيئتي من النساء اللواتي لا ينجبن، لسبب أو لآخر، والقائم في شكل رئيسي على "الشفقة" أو على التعيير والتعييب، كان بلّة فوق طين جهلي، ولا بدّ أنه أثّر على رأيي في المسألة، وهو، على الأرجح، أحد بواعث رعبي الباكر من أن أكون "عاقراً"، وشعوري بالارتياح عندما حملتُ المرّة الأولى.
طبعاً، بتُّ اليوم مدركة أن الأمومة خيار وليست قدراً، وأنه يمكن لأي امرأة أن تحقق ذاتها بمعزل عن هذا الخيار، وبتُّ مدركة، أيضاً وخصوصاً، أنه يمكن للأمومة أن تكون نعمة، أجل، وهي كانت فعلاً- ولا تزال- فيما يتعلّق بي، لأنها أتاحت لي أن أنضج وأكتسب قدرات أساسية لم تكن موجودة لديَّ، كالصبر والإصغاء والانفتاح، ولأنها علّمتني، بالدرجة الأولى، أحد أصعب دروس الحياة: أن أحبّ بلا مقابل.
كما أنها سمحت لي بأن أضيف إلى هذا العالم رجلَين نسويَّين، يحترمان المرأة وكيانها وينظران إليها كشريكة وندّة، وهما من دون شكّ أثّرا ويؤثّران على محيطهما الذكوري ويفعلان فيه فعل الماء في الصخر، لكني أعلم، من جهة ثانية، أن هذه النعمة نفسها يمكنها أيضاً أن تكون "قصاصاً"، وذلك لمدعاتين رئيسيتين:
الشبل من اللبؤة أولاً
المدعاة الأولى تنطبق علينا جميعاً نحن النساء، تحديداً في العالم العربي، وإن من دون تعميم، كما في بعض البلدان والمجتمعات والثقافات الأخرى، ألا وهي الثمن الذي ندفعه، أو يُنتظَر منّا أن ندفعه، لقاء قدرتنا على خلق الحياة: الخوف منّا بسبب هذه القدرة؛ الرغبة في، والحاجة إلى، السيطرة علينا نتيجة هذه القدرة؛ اختصارنا بهذه القدرة حصراً، وتهميشنا في كل المجالات الأخرى، خصوصاً العملية منها (كم من النساء اللامعات لم يتمتعن في عملهنّ بفرص متساوية مع زملائهنّ الذكور، أكانت هذه فرص ترقية أو زيادة أجر، لا لسبب سوى لأنهنّ أمهات، أو لأنهنّ قد يحملن في أحد الأيام، وتالياً لن يتمكنّ من منح كل وقتهنّ للوظيفة أو المنصب اللذين يتولينهما)؛ ناهيكم عن التوقعات الظالمة المفروضة علينا جراء هذه القدرة: إذ لا يزال يُتَوقَّع من الأم وحدها أن تعتني بطفلها، بلا أي مساهمة من الشريك تقريباً على هذا الصعيد. يُتَوقَّع منها أن تُطعِم، وتُلبِس، وتغسل، وتهدهد، وتلعّب، وتربّي، فضلاً عن الاهتمام بأعمال المنزل.
باتت التضحية مرادفة للأمومة، وهذه، في رأيي، من أخبث أشكال العنف الممارَسة ضدنا، ومن أبشع المؤامرات البطريركية علينا – وأنجحها - بما تشمله من استغلال معنوي وابتزاز عاطفي، وإجبار وإكراه وغصب
ودعونا لا ننسى التوقّع الأكبر: "أن تضحّي". أن تضحّي بوقتها، أن تضحّي بطاقتها، أن تضحّي بصحّتها، أن تضحّي برغباتها، أن تضحّي بأحلامها الخاصة ووو، حتى باتت التضحية مرادفة للأمومة، وهذه، في رأيي، من أخبث أشكال العنف الممارَسة ضدنا، ومن أبشع المؤامرات البطريركية علينا – وأنجحها - بما تشمله من استغلال معنوي وابتزاز عاطفي، وإجبار وإكراه وغصب، مباشرة ولا مباشرة، من دون منح المرأة الحق في الاعتراض أو الرفض أو العصيان، فأي اعتراض أو رفض أو عصيان في هذا السياق قد يلصق بالمرأة وصمة "الأم السيئة" أو العاقة.
ثم يجيء مَن يقول لك: "هذا الشبل من ذاك الأسد". طبعاً، لا مكان للبؤة في المعادلة. وظيفة هذه اللبؤة، فقط، أن تهب ذاتها أوتوماتيكياً. قدرها أن تحترق وتذوي بفرح واعتزاز. وجودها مرتبط حصراً بكيانها "الأمومي": كلّما مُجِّدَت المرأة كأمّ، انتُقِصَ من كياناتها الأخرى. هذا هو الفخّ. وهكذا تُحَوَّل القوة، قوة خلق الحياة الاستثنائية، إلى عقاب.
إذا لم تكن هذه مؤامرة بامتياز، فلا أعرف ما هي المؤامرات.
قنبلة لا ساعة
أما المدعاة الثانية، فهي واقع أن ليس كل النساء يملكن موهبة أن يكنّ أمهات. أقول "موهبة"، نعم، لأنها فعلاً كذلك، على غرار موهبة الغناء أو العزف أو الرسم أو الكتابة الخ؛ وثمة من تولد بها ومعها هذه الموهبة، وثمة من لا. علينا أن نعترف بذلك بجرأة وشجاعة، وأن نميّز بين هذه الموهبة وبين الأداء الإجباري للمهمّة، مهما كان هذا الأداء ممتازاً وناجحاً.
فعلاً، لقد أثبتت الدراسات الحديثة في مجال التطوّر البشري أن ما يُسمّى بـ"غريزة الأمومة"، أي التوق إلى إنجاب الأطفال لدى النساء، ليس ذا طبيعة بيولوجية أو جينية، على غرار ما كان يُروَّج في الماضي، بل هو نتيجة قولبة مُحكَمة ومتواصلة على مدى قرون، حوّلت الموضوع من محض إمكانٍ وخيار، إلى مآلٍ قدري وفطرة "زائفة".
البشر مبرمجون لممارسة الجنس لا لإنجاب الأطفال، بات العِلم يقول اليوم، وما الأمر الثاني إلا حصيلة الأول عند المرأة، كونها مجهّزة جسدياً للحمل نتيجة الجنس، خصوصاً عندما لا يكون هناك أي وعي حول سبل منع الحمل. أما في زمننا الراهن، فهذا الوعي بات موجوداً، وهذه السبل منتشرة ومتعدّدة وفي المتناول. الإغراء، إغراء الإنجاب لدى النساء، هائل من دون شك، لكنه ليس إغراء "طبيعياً" وإلزامياً، بل هو إغراء خارجي (اجتماعي/ثقافي/ديني/بطريركي) تمّ استيعابه على مرّ الزمن حتى بات يبدو جوانياً.
توق المرأة إلى الأطفال ليس بيولوجياً بل بسيكولوجي، على ما يؤكده عالم النفس فريدريك وايات، وتعزّزه الرغبة في الامتثال للتقاليد، والغيرة من النساء الأخريات، والنزعة إلى الانتماء إلى المجموعة، والحاجة إلى نيل حظوة العائلة والمجتمع والمؤسسة الدينية. تلك الساعة البيولوجية الشهيرة التي يقال إنها "تتكّ" فينا، ليست إلا قنبلة موقوتة زرعها النظام البطريركي داخلنا، وعلينا أن نمتثل، بلا كثير تفكير واستكشاف ذاتي، كيلا تنفجر فينا وبنا.
ما لا يسهّل الأمر هو واقع أن غالبية النساء اللواتي يخترن، بقرار منهنّ، عدم الإنجاب، يواجهن حتى اليوم، وحتى في أكثر البلدان تطوّراً من حيث المساواة وأدوار المرأة وحقوقها، ردّ فعل مزعجاً، في الحد الأدنى، على خيارهنّ: صدمة، أو امتعاض، أو لا فهم، أو استنكار. هنّ يُتّهمن بـ "الأنانية" رغم أن العكس هو الصحيح، وأن قرار الإنجاب غالباً ما يكون ناجماً عن نزعة أنانية ما لدى الوالدين (نحن ننجب من أجل أنفسنا أولاً وخصوصاً، لا من أجل الأطفال الذين سوف نرزق بهم). رغم ذلك، عدد الكوبلات الذين يقرّرون عدم الإنجاب هو إلى ازدياد في العالم أجمع (في الولايات المتحدة مثلاً، حيث يسمّون أنفسهم childfree، أي "أحرار من الأطفال"، ارتفعت نسبتهم من 29% عام 2012 إلى 57% اليوم)، ونسبة 75% من هؤلاء لا يندمون على قرارهم لاحقاً، أي بعد فوات أوان الإنجاب.
أجسادنا ليست لنا
لا يمكن أن نتطرّق إلى مسألة الأمومة من زاوية نسوية من دون أن نتطرّق إلى مسألة الإجهاض، وتحديداً الحقّ في الإجهاض. اليوم، أي في سنة 2023، هناك 67 بلداً فقط من أصل البلدان المئة والخمسة والتسعين التي يتشكّل منها العالم، تسمح بالإجهاض ولا تجرّمه. أما في منطقتنا العربية و/أو الإسلامية، فحدّث ولا حرج. الإجهاض قانوني فقط في تونس وتركيا، وثمة محاولات حثيثة، في البلدين، لتغيير ذلك.
لا يهمّ إذا كان الحمل غير مرغوب فيه؛ لا يهمّ إذا كان ناتجاً من فعل اغتصاب؛ لا يهمّ إذا كانت المرأة غير مستعدة، نفسياً وجسدياً، للإنجاب؛ لا يهمّ إذا كان ذلك سيؤثر سلباً على صحتها العقلية؛ لا يهمّ إذا كانت الفتاة قاصراً؛ لا يهمّ إذا كان التجريم يؤدي إلى عمليات إجهاض سرّية غير آمنة: على الحامل أن تحتفظ بالطفل مهما كانت المضاعفات والتداعيات، نقطة على السطر.
وما هي هذه المضاعفات والتداعيات؟ إنها تراوح من الاكتئاب والتوتّر إلى الدمار النفسي الشامل لدى الأم، فضلاً عن أطفال ينشؤون ويكبرون من دون الاحتضان الذي يستحقونه ويحتاجون إليه. لكن لا بأس، فالقرار ليس في أيدينا. ثمة هناك مَن يقرّر عنّا ماذا نفعل بأجسادنا وحيواتنا. ثمة هناك مَن يحتل أجسادنا وحيواتنا هذه احتلالاً ماحقاً. والأنكى أن غالبيتنا تقبل بهذا الاحتلال، أو تسكت عليه، أو حتى تؤيده!
لماذا؟!
أحياناً لا يسعني إلا أن أتساءل، كلما قرأتُ مقالاً أو دراسة عن أخطار الاكتظاظ السكاني في العالم (علماء كثيرون يؤكدون أن الأرض ومواردها لا تحتمل أكثر من تسعة إلى عشرة مليارات شخص، وها نحن اليوم تجاوزنا الثمانية مليارات)، لماذا هذا الإصرار على إنجاب المزيد من البشر، أو، إذا لم يكن إصراراً، فلماذا هذا القدر من اللامبالاة والتساهل حيال الموضوع، خصوصاً في المناطق والبيئات التي تعاني أصلاً من الفقر والجوع والتشرّد ونقصان اللوازم الأساسية؟ لماذا يقرّر الأهل معاقبة بشر آخرين، عبر إنجابهم إلى عالم لا يستطيعون أن يؤمنوا لهم فيه الحد الأدنى من العيش الكريم؟
طبعاً، أحد الأسباب هو غياب التوعية اللازمة حول الصحة الجنسية والإنجابية ووسائل منع الحمل. سببٌ آخر هو الحجّة الدينية التي تحظر الإجهاض وتشجّع على التكاثر. وسببٌ ثالث قد يكون استراتيجياً لتغيير التوازنات الديموغرافية، مثلما تفعل مثلاً بعض الطوائف في لبنان. لكني كثيراً ما أسمع أيضاً، عندما أطرح هذا السؤال على آخرين، جواباً مفاده: "إذا لم أنجب، فَمَن سيعتني بي عندما أشيخ؟"، وهذا، بصراحة، مبرّر يغضبني ويحزنني للغاية، لأنه يدل على أنانية صافية، فيما ينبغي للأمومة- والأبوة- أن تكونا فعل عطاء مجانياً، تكتفيان بالعاطفة كمكافأة ولا تهدفان إلى أي مكاسب مادية.
ملاحظة مهمّة هنا: ليس هدف هذا المقال هجاء الأمومة أو الثناء عنها، فأنا، كما ذكرتُ أعلاه، صرتُ بفضلها نسخة عنّي أحب أن أفكّر أنها أكثر رقياً. فعلاً لقد غيّرتني أمومتي تغييراً جذريّاً على مرّ السنين: غيّرت طريقة تفكيري، طريقة كتابتي، طريقة تفاعلي مع الناس، طريقة عيشي، طريقة حبّي، طريقة اختياري لأصدقائي، طريقة نظرتي إلى نفسي.
حرّرتني الأمومة من عنادي، من تعنّتي، من تشبّثي السطحي بآرائي؛ حرّرتني من حياة سابقة احترفتُ فيها التجاهل والهرب والاجتناب والنكران والرفض وإغماض عينيّ عمّا لا أريد أن أراه، لكني غالباً ما أشعر أني "وقعتُ" في الأمومة بالمصادفة
حرّرتني من عنادي، من تعنّتي، من تشبّثي السطحي بآرائي؛ حرّرتني من حياة سابقة احترفتُ فيها التجاهل والهرب والاجتناب والنكران والرفض وإغماض عينيّ عمّا لا أريد أن أراه، لكني غالباً ما أشعر أني "وقعتُ" في الأمومة بالمصادفة، وهي تستحق، في رأيي، أن تتحقق عن سابق تصوّر وتصميم، أن "يتمّ إحداثها"، لا أن "تَحدث". كذلك، يستحق أولادنا أن يكونوا ثمرة رغبتنا فيهم، وقرارنا الواعي بإنجابهم، وإدراكنا بأننا فعلاً قادرون على توفير حياة جيدة ومريحة لهم، لا بناء على منطق "بيجي الولد وبتجي رزقتو معو".
ماذا ننتظر؟
ختاماً، مما لا شك فيه أن الأمومة قوة هائلة، وأنه يمكننا أن نستفيد منها وأن نستثمرها لتغيير الكثير في مجتمعاتنا، ولتحسين ظروفنا نحن النساء، بدءاً من طريقة تربيتنا لأطفالنا، وهي مهمّة لا تزال إلى حد كبير منوطة بالأمهات، فهل نحن نفعل ذلك؟
للأسف، الجواب هو غالباً لا. ما زلتُ أرى، في العالم أجمع، كيف تضع أمهات كثيرات أطفالهنّ الذكور في الأولوية، وينشّئن بناتهنّ على الإيمان بأنهنّ محض بيادق في خدمة الرجال. لا بل أسوأ من ذلك: أمّهات ذكوريات كثيرات يتواطأن ضد طفلاتهنّ عبر التغطية– أو حتى الحثّ على- ارتكابات مرعبة وشنيعة، كالتزويج المبكر، الختان، جرائم "الشرف" المزعومة والسكوت على العنف الممارَس ضدهنّ.
لا أريد هنا الوقوع في فخّ لوم الضحايا، فأنا أعرف تمام المعرفة أن غالبية هؤلاء الأمهات هنّ ثمرة تربية ذكورية متحيّزة جعلتهنّ، منذ نعومة أظفارهنّ، مقتنعات بأنهنّ ثانويات، غير مهمّات، غير قادرات، غير مستحقات. ولكن في هذا العصر، عصر الانفتاح والسوشال ميديا والإعلام البديل، الذي انتشر فيه بشكل واسع الخطاب النسوي الذي يفضح الظلم الممارَس في حق النساء، أليس عجيباً، ومغيظاً، ألا ينتفض عدد أكبر منهنّ على الوضع المجحف القائم، وعلى الإهانات الممنهجة لكراماتهنّ وحقوقهنّ وإمكاناتهن؟ أليس عجيباً، ومغيظا، ألا "يستغلّ" عدد أكبر منهنّ موقع الأم النافذ والمؤثر، لتغيير هذه الديناميات المسمومة؟
أعلم أن الأوضاع تحسّنت، ولكن يبدو لي أحياناً أننا نخطو خطوة إلى الأمام، وعشراً إلى الوراء. ولا يقولنّ أحد إن النساء عزلاوات، بل هنّ يملكن أمضى سلاح في الوجود: القدرة على نحت العقول وتشكيلها. وثمة منهنّ نحو أربعة مليارات على وجه الأرض. أربعة مليارات. فماذا ينتظرن؟
ألِّهونا!
مسؤولية التكاثر، أي مسؤولية عدم انقراض جنسنا البشري (أحياناً أشعر أنه لمن الأفضل لو ينقرض)، تقع علينا نحن النساء في الدرجة الأولى: ولكن بدل أن تكون هذه المسؤولية العظمى موجباً لتكريمنا، وللاحتفاء بنا، ولمناصرتنا، وحتى لتأليهنا مثلما كان يحدث في الحضارات القديمة، هي تُستغَلّ ضدّنا، وتُستخدَم ذريعة لتحجيمنا، وقمعنا، وتخضعينا، واضطهادنا، وأسرنا، وحرماننا من حقوقنا الأساسية.
ربما عندما ندرك أننا لسنا "مجبرات" على الإنجاب، لا بيولوجياً، ولا اجتماعياً، ولا دينياً- وعندما يدرك الطرف الآخر، أي الشريك في عملية الحمل، أنه ينبغي له أن يتولى بدوره جزءاً من أعمال رعاية الطفل- آنذاك سوف تتغيّر الأمور، وستتحوّل الأمومة من فعل أوتوماتيكي إلى خيار واع، ينتج أجيالاً واعية ومجتمعات أكثر عدالة وإنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.