شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
تأملات في النسوية (8)... هل يمكن للعمل الجنسي أن يكون فعلاً نسوياً؟

تأملات في النسوية (8)... هل يمكن للعمل الجنسي أن يكون فعلاً نسوياً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الخميس 3 أغسطس 202311:04 ص

كان ذلك سنة 1998 أو 1999، وكنتُ في تلك الأيام متحمّسة لإنجاز كتاب باللغة العربية حول العمل الجنسي: كانت الفكرة أن أدمج سلسلة من المقابلات الحيّة أُجريها مع عاملات في مجال الجنس في لبنان، حيث أقيم، كما في الخارج أثناء أسفاري، ومن البورتريهات الأدبية لمحظيات وبغايا مشهورات عبر الأزمنة، تركن بصمة في عالمهنّ، وغيّرت بعضهنّ مسار التاريخ.

رزق الله على عفاف!

كنتُ قد شاهدتُ في تلك السنة فيلماً رائعاً بعنوان "الجمال الخطير" حول حياة المحظية الإيطالية فيرونيكا فرانكو (1546-1591) في البندقية، التي كانت أيضاً شاعرة وخطيبة ومدافعة عن حقوق المرأة. وكان سبق لي أن قرأتُ أعمالاً كثيرة تأتي على ذكر محظيات أخريات صاحبات نفوذ وتأثير، على غرار "مدام" مارغريت ستاينهيل (1869-1954) أيام "بيل ايبوك" الباريسية (تصوّروا أنه كان هناك حيّ يحمل اسم "بظر باريس" لفرط اكتظاظه بالمواخير). حتى أن الرئيس الفرنسي فيليكس فور، قضى نحبه بين ذراعي مارغريت (الأصحّ أن نقول بين فخذيها). ولا ننسى الراقصة والمومس الهولندية ماتا هاري (1876-1917)، التي عملت جاسوسة لألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، واستغلّت جاذبيتها لتستدرج الرجال للبوح بأسرار عسكرية وسياسية خطيرة؛ أو أيضاً، قريباً من هنا، أي في بيروت، الست عفاف في الخمسينيات، ومن بعدها "البترونة" ماريكا سبيريدون في الستينيات، اللتان كانتا تديران مجموعة من المواخير في مختلف أنحاء العاصمة، وكانت لائحة زبائنهما تضمّ وزراء ونواباً ومسؤولين كباراً في الدولة، وكانت "بيوتهما" تحظى بحماية أشخاص نافذين من تلك المرحلة، حتى أنه يشاع أن عفاف كانت لديها القدرة على إسقاط حكومة إذا شاءت بسبب سهولة وصولها لمعلوماتٍ حساسة (على ما قاله لي صحافي مخضرم: "يميل رجل السياسة في السرير إلى قول الكثير مما لا يقوله عندما يكون مرتدياً ملابسه")، وكانت تتدخّل في شؤون البلد ولها رأي مطاع.

أقدم مهنة على وجه الأرض، تقولون؟ لا، ليست الدعارة، بل هي هذه: استغلال المرأة

عندما سمعتُ ذلك فكّرت: رزق الله على أيام عفاف! لا شك عندي أن التدخلات الراهنة في بلدنا تشكل انحداراً رهيباً مقارنة بتدخّلاتها هي، وأن عهرها "أشرف" بكثير من عهر المتحكمين بنا حالياً.

لا تعليق يا خاسينتا

ملاحظتان هنا لا بد منهما، و"من أول الطريق": سوف أشير في هذا المقال إلى عاملة الجنس حصراً في صيغة المؤنث، علماً أن هناك رجالاً، مغايرين أو مثليين أو عابرين، يمارسون بدورهم هذه المهنة، لكني شئتُ أن أبسّط المسألة، فاخترت الانحياز إلى سطوة الأرقام: إذ تشير الإحصاءات الدولية إلى أن 80% من العاملين في مجال الدعارة حتى يومنا هذا هم من الإناث (وأن أعمار الغالبية الساحقة منهنّ، يا للهول، تراوح بين الـ 13 والـ 25 سنة). تالياً، أنا لا أنكر وجود رجال يمارسون هذا العمل ويخضعون بدورهم لتأثيراته السلبية، لكنهم مشمولون في هذه الصفحات ضمناً، لا مباشرة.

اعتبروا المسألة ميني-انقلاب على قواعد اللغة الذكورية، وليكن النموذج هنا، كما الجمع، مؤنثاً. تكفينا خيبة أن هذه الغلبة المزعومة هي في حقيقة الأمر خسارة، لأنها، في جوهرها، ضدّ المرأة، إذ ماذا يعني أن "تربح" النساء وأن يَسُدْنَ في مجال الدعارة؟ سؤالٌ هو، في طبيعة الحال، محض بلاغي.

ثانياً، أعلم أن استخدام مصطلحات كـ"عاهرة" و"مومس" و"بغاء" ومثيلاتها لم يعد سليماً أو صحيحاً سياسياً (politically correct) في عالم الـ wokism هذا، الذي بات الإبحار فيه مثل ارتماءٍ في حقل ألغام، لكني سأستخدمها رغم ذلك، هذه المصطلحات، مثلما سوف أستخدم تلك التي باتت اليوم تعتبر "لائقة" ومقبولة، كـ "العمل الجنسي" و"عامل/ة الجنس". سأستخدم الأولى، لأنها لم تحمل يوماً عندي أي دلالة سلبية، ولأن التهّرب منها والادعاء أنه يمكن إلغاؤها يكاد يكون مضحكاً، في خضم كلّ العهر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي الذي يحاصرنا.

لـِمَن ينزعج/تنزعج، كالعادة، حقّه/ا في الانزعاج. ولي، كالعادة، حقي في تجاهل ذلك. (في المناسبة، معظم المومسات اللواتي قابلت، في لبنان أو في الغرب، "آخر همّهن" كيف نشير إليهنّ. المعضلة اللغوية، لنعترف، ليست من أولوياتهنّ. على غرار ما قالته لي بغضب عارم، امرأة مكسيكية حاورتها أخيراً في أكابولكو، تعمل في هذا المجال منذ أكثر من خمسة عشر عاماً: "صِدقاً، هذا ترف (مسخرة) من جانب بعض مدّعيات الدفاع عن حقوق المرأة، والأنكى أنهنّ نجحن في إقناع بعض فتيات الكار به. شو طالِعلي أنا كيف بيسمّوني؟ هل سيحميني ذلك؟ هل سيؤمّن لي لقمة عيشي؟ هل سينتشلني من بقعة الخراء التي أنا غاطسة فيها؟ هل تغيير تسميتي هو ما سيعيد إليّ كرامتي المهدورة؟ أي هراء هو هذا؟".

لا تعليق يا خاسينتا.

مش أوكي

عودٌ على بدء: كنتُ متحمّسة جداً لإنجاز هذا الكتاب، أقول، لأن موضوعه شيّق بطبيعة الحال، ولكن أيضاً لأن قضية العمل الجنسي لطالما حيّرتني وسحرتني في آن واحد. هي كانت تحيّرني لأني لم أكن أعرف، حتى بيني وبين نفسي، أن أتخذ موقفاً واضحاً ونهائياً منها، إذ إني كنتُ أشعر- ولا أزال- من جهة أولى، بالحنق الشديد لأنه يتم استغلال أجساد النساء بهذه الطريقة، ولأن الدعارة شكل فظيع من أشكال جريمة الاتجار بالبشر التي لا تني تدمّر حيوات وعائلات لا تعدّ ولا تحصى في جميع أنحاء الكرة الأرضية، ولأني، شخصياً، مقتنعة بأن لا أنثى على وجه الأرض يمكنها أن تزاول مهنة كهذه برضاها واختيارها، أي من دون أن تكون مجبرة على مزاولتها، لأسباب متنوّعة (فكرة أن توافق امرأة سلفاً و"على العمياني" على ممارسة الجنس مع رجل لا تعرف من هو، وما هي شخصيته، وما إذا كان عنيفاً أو محترماً، نظيفاً أو مقرفاً... الخ، تروّعني وتحزنني للغاية). لكني، من جهة ثانية، كنتُ أسمع مَن يردّد بانتظام أنها مهنة، "مثلها مثل غيرها"، وأنه أصلاً "يستحيل القضاء التام عليها وإلغاؤها من الوجود": أوَليست هي "المهنة الأقدم على وجه الأرض"؟ (كم يغضبني، بالمناسبة، هذا التعبير، لأنه يوحي، فيما يوحي من بشاعة، أن قدر المرأة أن تبيع نفسها مذ وُجِدت. تالياً وضمناً: It’s OK. يحق لنا أن ندير ظهورنا ونطنّش. ولكن لا، مش أوكي على الإطلاق!).

كنتُ أسمع، وأقرأ أيضاً، أن الدول المتقدمة ابتكرت نموذجاً رائعاً للتعاطي مع هذه المشكلة، إذ هي قَوْننت المهنة وحمت الفئات الهشة المتورّطة فيها (خصوصاً النساء والعابرات جنسياً) بأساليب وسياسات مختلفة. إذن هناك حلول، كنتُ أفكّر، وليست القضية قضية استغلال حكماً، بل هي قضية سوء ممارسة فحسب، ويمكن إيجاد حلّ لها ببعض القوانين وجهود المراقبة. طبعاً، اكتشفتُ لاحقاً أن كل سياسات الدول المتقدمة المذكورة أعلاه فشلت في تنقية الدعارة من عنصر الاستغلال، أي من القوّادين والقوّادات (لا يزال 90% من عاملات الجنس تحت سيطرة أشخاص يديرون أعمالهنّ ويتحكمون بهنّ)، ومن عنصر الخطر، أي من العنف الذي يمكن أن تتعرّض له عاملة الجنس، كونها إذ تمارس مهنتها، تنوجد في ظرف يجعلها حكماً وتماماً تحت رحمة الزبون (نسبة 45 إلى 75% من عاملات الجنس، بحسب البلد والمنطقة والعرق والتوجّه الجنسي، يتعرّضن للعنف أثناء أدائهنّ لعملهنّ، يراوح بين الضرب المبرّح والقتل).

"بريتي وومان" أو سندريلا المومسات

كان الموضوع يسحرني ويحيّرني أيضاً، لأني كنتُ واعية بالهوّة القائمة بين الطريقة الرومنطيقية المجمَّلة، التي توصف- لا بل تؤلَّه- بها أحياناً حياة المومسات في بعض الأفلام والكتب، حتى يكاد المشاهد/ة أو القارئ/ة يقول "نيّالهن"، وبين الواقع البائس لغالبيتهنّ، الذي يمكن لنا أن نستشفّه بالعين المجرّدة، بمجرّد مرورنا بالسيارة على أحد الأوتوسترادات ليلاً، أو في أخبار الصحف. الواقع لا يشبه "بريتي وومان" و"مولان روج" و"بيل دو جور" لا من قريب ولا من بعيد. لا شك عندي، بالمناسبة، أن هذا التجميل هو نتيجة مجهود ذكوري بحت: رجالٌ هم المتحكّمون بالسردية (على سبيل المثل، مخرجو الأفلام الثلاثة المذكورة أعلاه وكتّابها هم رجال)، يريدون أن يقنعوا الآخرين والأخريات، ولكن أنفسهم خصوصاً، بأن المومس التي تمارس معهم الجنس تمارسه بإرادتها (لا بل برغبتها، مثلما يهوى البعض أن يزعم ويصدّق، ضاحكاً على نفسه)، وليس لأنهم يدفعون لها بدلاً مادياً لقاء ذلك.

"صِدقاً، هذا ترف من جانب بعض مدّعيات الدفاع عن حقوق المرأة. شو طالِعلي أنا كيف بيسمّوني؟ هل سيحميني ذلك؟ هل سيؤمّن لي لقمة عيشي؟ هل سينتشلني من بقعة الخراء التي أنا غاطسة فيها؟ هل تغيير تسميتي هو ما سيعيد إليّ كرامتي المهدورة؟ أي هراء هو هذا؟"

في الحديث عن الأفلام، أعرف أنها لا تقع كلّها في مديح الدعارة، وأن هناك تحفاً سينمائية رائعة تجسّد حياة العذاب والذلّ والبهدلة التي تعيشها المومسات. لكن المشكلة هي أن العقل، أو القلب، أو الاثنين معاً، يفضّلان دائماً الخواتيم السعيدة على تلك التعيسة، وأن الأولى تعلق في الأذهان أكثر. مثلاً، الكلّ يؤثر نهاية قصة سندريلا على نهاية مدام بوفاري أو نهاية آنا كارنينا، مهما كانت هذه النهاية أسطورة مُحالة أو غير منطقية أو، في أحسن الأحوال، نادرة الحدوث حدّ الأعجوبة، ذلك لأننا، من حيث طبيعتنا البشرية، نريد أن نصدّق، رغم كل شيء وضدّ كل شيء، أن "الخلاص" ممكن.

Oh my God

على سيرة ما نصدّقه مهما كان غير مرجّح، يذهلني كيف يصدّق بعض الرجال أن المومس التي تمارس معهم الجنس لقاء المال "تتمتّع" معهم (للعلم، هي "تتمتّع فقط معهم، لا مع غيرهم"، يصرّ كل واحد منهم على التصديق والقول، في شكل مثير للشفقة). حسبي أن هذه نقطة جوهرية لطمأنة مخاوفهم ونقاط ضعفهم وانعدام ثقتهم بأنفسهم.

لا أجزم أن بعض عاملات الجنس لا يصلن إلى النشوة في بعض الحالات ومع زبائن معيّنين، لكنها استثناءات في بحر من الامتثال والتحمّل والتمثيل والتأوّه بغية إرضاء إيغو الرجل. يشبه الأمر للغاية مسألة أفلام البورنو: لا يمكن أن تتخيّلوا عدد الرجال الذين، بإقرارهم المباشر لي، يصدّقون فعلياً أن المرأة التي تئن وتتنهّد وتتلوّى وتصيح Oh my God أمامهم على الشاشة، كانت تتمتع فعلاً وحقاً أثناء التصوير.

حتى إنني لأتساءل أحياناً: ما هي حدود التوهّم التي يمكن المرء أن يدركها، حتى يصدّق شيئاً مماثلاً؟ وكم تساهم الحاجة الماسة إلى التصديق في جعل التصديق حقيقياً و"شرعياً"؟ وكم من سوء النية، الواعية أو اللاواعية، يمكن أن تكون موجودة لدى رجل ما، لكي يعتقد أن الطريقة التي تتم بها مضاجعة الممثلات، هي فعلاً الطريقة التي يمكنه بها إرضاء شهوة امرأة "حقيقية"، رغم كل ما يناقض ذلك من بوح النساء أنفسهنّ، وحتى من الدراسات العلمية حول لذة المرأة؟ لذةٌ، بات العالم أجمع يعرف، لا تتحقق إلا نادراً بالإيلاج الأوتوماتيكي الرتيب، وأحياناً العنيف، الذي نشاهده في الأفلام. يعني نحن هنا أمام نموذج من الرجال يفضّلون أن يصدّقوا التخيّل بدلاً من الواقع، وفانتازماتهم اللامنطقية بدلاً من اعترافات النساء. "أنا بعرف شو بيبسطِك أكتر منِّك!". يا للعجب، بل يا لجبروت النكران، والتكاسل، والعنجهية، والأنانية، وتجاهل حاجات الشريكة، والتنصّل من مسؤولية منحها المتعة لقاء أخذها منها، ووو... باختصار. يا لجبروت البطريركية.

أورغازم بعشر ثوان

تكمن المأساة في أن عدداً كبيراً من الرجال يتعلّمون الجنس من تلك الأفلام، وبعضهم لا يتخطّونها، ويلومون شريكاتهم لأن لذتهنّ ليست سهلة وسريعة مثل لذة الممثلات، ويعتبرون أن السبب هو علّة في شريكاتهم، ويروحون يبحثون طوال حياتهم عن امرأة تمنحهم الوهم الذي غذّى مخيلتهم في مراهقتهم وشبابهم. ومن يمنحهم هذا الوهم سوى الوجه الآخر للبورنو، أي الدعارة؟ هنا أيضاً نساء يتأوّهن على الطلب، ويدركن الأورغازم بعشر ثوان (معدّل المدة المطلوبة لوصول النساء إلى النشوة هو ١٤ دقيقة)، لا بل يدركن أورغازمات متتالية خلال جلسة لا تتجاوز مدتها غالباً الربع ساعة، بما فيها خلع الملابس وإعادة ارتدائها. كان يمكن الأمر أن يكون كوميدياً لو لم يكن يتسبّب بتعاسة نساء "طبيعيات" وواقعيات كثيرات يخسرن لعبة المقارنة مع نظيراتهنّ الوهميات، ويعتقدن غالباً أن المشكلة هي فعلاً فيهنّ، أي أنهنّ باردات جنسياً وعاجزات وغير كافيات.

كثيرة هي الطرق التي يحاول بها الزبائن تبرير لجوئهم إلى المومسات، وأبرزها: "هكذا أريح. جنس بلا وجع راس". قد يكون هذا التبرير صادقاً بالنسبة للبعض، كما قد يكون اللجوء إلى مومس دافع إثارة عند البعض الآخر (نوعٌ من أنواع الفيتيشية)، لكن هذه التبريرات هي غالباً مجرّد حجج لكي يتقبّل الشخص أنه غير قادر على إيجاد شريكة ترضى بممارسة الجنس معه "مجاناً"، أي فقط بدافعٍ من رغبتها فيه.

عند هذه النقطة، لا تضير بعض الإحصاءات من المركز الأميركي للصحة والسلوكيات الجنسية:

• تشير استفتاءات سنة 2022 إلى أن نسبة 81.6% من النساء في العالم لا يصلن إلى اللذة من الإيلاج، بل من تحفيز البظر.

• فقط 18.4% من النساء يدركن اللذة بالإيلاج وحده.

• 59% من النساء تظاهرن بالنشوة في حياتهنّ، مراراً أو على الدوام.

• 95% من الرجال يدركون اللذة خلال العملية الجنسية، في مقابل 65% من النساء (يرتفع معدّل النساء اللواتي يدركنها في العلاقات المثلية، ما يرجعنا إلى أهمية دور البظر في لذة النساء).

التمكين الزائف

في العودة من جديد إلى موضوع الكتاب أعلاه، كان همّي الأساسي أن أتفادى، لدى إنجازه، إغراء تجميل المهنة، كيلا أصل إلى عمل يصبّ في مديح العمل الجنسي. لكني كنتُ أريد أيضاً، بسببٍ من فضول شخصي/إنساني بقدر ما هو أدبي/استقصائي، أن أكتشف ما إذا كانت هناك حقاً مساحة، في هذا العالم السفلي القاتم، لنساء يتحكّمن بأقدارهنّ وأجسادهنّ وخياراتهنّ، مثلما تقترح سردية غالبية الزبائن.

أسمع مَن يردّد بانتظام أنها مهنة "مثلها مثل غيرها"، وأنه أصلاً "يستحيل القضاء التام عليها وإلغاؤها من الوجود": أوَليست هي "المهنة الأقدم على وجه الأرض"؟ يغضبني هذا التعبير، لأنه يوحي أن قدر المرأة أن تبيع نفسها مذ وُجِدت. تالياً وضمناً: It’s OK

ليس هذا فحسب، بل كنتُ وقعتُ في تلك المرحلة الزمنية، في إطار أبحاثي، على معلومة كان لها عليّ تأثير الصاعقة: اكتشفتُ أن عدداً من النظريات النسوية البوست-مودرن قد باتت هي الأخرى تنظر إلى العمل الجنسي كمهنة، على غرار أي مهنة أخرى، من منطلق أنه يحق للمرأة أن تفعل ما تشاء بجسمها، وأنها إذا ما كانت تريد استثماره لكسب المال، فهذا حقّها وخيارها المطلقان، وينبغي ألا يُنظر إليها كـ"ضحية" جرّاء ذلك. صرتُ أتساءل: هل حقاً ليست المومس ضحية؟ هل حقاً يكفي أن ندّعي ذلك كي يصير حقيقة؟ هل حقاً يمكن العمل الجنسي أن يكون فعلاً نسوياً؟

شرعتُ يومذاك بالعمل على الكتاب. استطعتُ، بمساعدة صديق، أن أقوم بجولة على ملاهي شارع المعاملتين في لبنان، المسمّاة "سوبر نايت كلابز"، وهي تسمية-واجهة لا تخفى على أحد في البلاد، لبزنس دعارة طويل عريض، كان يشغِّل بشكل رئيسي فتيات من أوروبا الشرقية وروسيا وأوكرانيا، يتم استقدامهنّ إلى لبنان بفيزات "فنية" نظرياً، أي كراقصات، لكنهنّ يعملن فعلياً مومسات. قلتُ أزور تلك الأماكن، وأمضي بعض الوقت مع هؤلاء الفتيات، وأحاول محاورة بعضهنّ من أجل مشروعي. وهكذا حصل. ورغم أني أقرّ بأن تلك المقابلات لا تكوّن، بأي شكل من الأشكال، عينة يمكن اعتبارها تمثيلية، أي لا يجوز تحويلها إلى تعميم، إلا أن غالبية الإجابات التي حصلتُ عليها، والتجارب التي استمعتُ إليها، كانت تشي، في الحد الأدنى، بحياة-مأساة.

في ما بعد تخلّيتُ، أقلّه موقتاً، عن مشروع الكتاب لأسباب متنوعة، ولكن الانجذاب إلى اكتشاف المزيد عن هذا العالم التحتي ظلّ موجوداً لدي. فكنتُ كلما سنحت لي فرصة لمقابلة نساء من هذا المجال اغتنمتُها، حتى بات لديّ أرشيف سميك من المقابلات معهنّ والشهادات منهنّ. لبنانيات، سوريات، عراقيات، فلسطينيات، فرنسيات، هولنديات، مكسيكيات، إيطاليات، هنديات، برازيليات، رومانيات... الخ. قصص مختلفة ونساء مختلفات من جميع أصقاع العالم، يوحّد بينها وبينهنّ مكوّن مشترك واحد أحد: لم تختر أي منهنّ العمل في بيع الجنس طوعاً.

حتى تلك التي كانت تقول "اختارت"، كان وراء خيارها دافع لم يكن تحت سيطرتها. في الخلفية دائماً قصة فقر مدقع (السبب الأول، الرئيسي)، أو اعتداء جنسي، أو خطف واستعباد (تجارة رقّ)، أو اغتصاب، أو هرب من شيء أو شخص أو ظرف، أو حرب، أو تشرّد، أو لجوء، أو ادمان مخدرات، أو حتى استغلال من الوالدين أو من الشريك/الزوج، وهلم. قصص تكسر القلب مئة شقفة وشقفة. تمنّيت أن أعثر على امرأة واحدة قالت لي: "حسناً، أنا نشأتُ في كنف عائلة أحبّتني ورعتني وأرسلتني إلى المدرسة. كنا نعيش حياة مقبولة، لا تنقصنا فيها الحاجات الأساسية وأبسط مكوّنات الكرامة الإنسانية. وعندما بدأتُ أحلم بالمستقبل، فكّرتُ: عندما أكبر أريد أن أكون بائعة هوى. يا لهذا العمل الجميل!".

ثمة من "تختار" هذه المهنة، تقولون؟ وتتمتع بها، تقولون؟ ومبسوطة؟ ومال "سهل"؟ تباً لوحشية الإنسان، ولقدرته على نكران وجع الآخرين كيلا ينزعج.

تالياً، سأعيد هنا طرح السؤال الأساسي لهذا المقال: هل حقاً يمكن أن يكون العمل الجنسي فعلاً نسوياً، أم أن ادعاء كهذا هو تمكين زائف يؤدي إلى نتائج عكسية؟

دعارة دولوكس

الجواب، جوابي في الأقل، هو "لا". ليس العمل الجنسي، ولا يمكن أن يكون، فعلاً نسوياً في شيء، بل هو استغلال واضح لا لبس فيه للمرأة، وسلب لجسدها وحياتها وقراراتها. والادعاء بأنه يمكن أن يكون خياراً وقراراً شخصياً ليس خاطئاً أو ساذجاً فحسب، بل هو مؤذ للغاية. المرأة دائماً "بضاعة" في نظر المجتمع البطريركي، أكانت زوجة أم عشيقة أم مومساً. هي، دائماً، ما عدا بعض الاستثناءات، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مرئية أو خفية، في خدمة الرجل وتحت رحمته، وإن بدرجات مختلفة بحسب الثقافة والبلد وقوانين هذا البلد وسياساته. قد يكون أبلغ دليل على ذلك شكل من أشكال الدعارة الراهنة المترفة، المتخفية بثياب بورجوازية (أسمّيها دعارة دولوكس): أي الفتيات اللواتي هنّ في وضع اجتماعي مقبول، لا ينقصهنّ شيء، لكنهنّ يعاشرن أو يقترنّ برجال أغنياء ليحصلن على المزيد: هدايا (سيارات، مجوهرات، أسفار... الخ.) أو ترقيات أو امتيازات. ما الفرق بين المرأة التي ترتبط برجل فقط بسبب أمواله أو ممتلكاته أو نفوذه، وبين مومس الماخور؟ قد يبدو كلامي هذا قاسياً، لكن مومس الماخور عندي أشرف بكثير. وطالما لن تعي المرأة أهمية الاستقلالية المادية، وستظل تتكل على الرجل للحصول على حاجاتها (والأنكى، ما يزيد عن حاجاتها)، لن يتغيّر هذا العالم، ولن ننتهي من آفة الدعارة، المباشرة أو المحجّبة والمجمَّلة. وطالما لن توفّر السلطات فرصاً متكافئة للنساء، من حيث الدراسة والعمل، ستظل المرأة في موقع هشّ ومستضعف، وستظلّ معرّضة لأشكال المتاجرة كافة، ولن ننتهي من آفة الدعارة.

كم من سوء النية، الواعية أو اللاواعية، يمكن أن تكون موجودة لدى رجل ما، لكي يعتقد أن الطريقة التي تتمّ بها مضاجعة الممثلات، هي فعلاً الطريقة التي يمكنه بها إرضاء شهوة امرأة "حقيقية"

متى نتخلص من مدام كلود، ونمجّد، فقط وحصراً، مدام كوري؟ هذا هو السؤال. متى يكفّ البحث عن العريس "الثري"، الذي سوف "يستّتنا"، ونكتشف لذة أن نكفي أنفسنا بأنفسنا؟ ومتى، خصوصاً، نعاقب الزبون لا الضحية؟ أعرف أن بعض البلدان تتبع هذا الأسلوب للحدّ من البغاء، لكن الغالبية لا تزال تقاصص المومس فقط، أكان ذلك بالقانون أم بالوصمة أم بالتعيير والتعييب.

لا يغيب عن ذاكرتي ما حصل عندما، لبضع سنوات خلت، هزّت لبنان فضيحة جنسية لشبكة دعارة كبيرة. رأينا جميعاً في نشرات الأخبار مشهد إلقاء السلطات الأمنية القبض على أعضاء هذه الشبكة، فظهرت وجوه الفتيات العاملات بوضوح على الشاشة، بينما لم نر وجه أي زبون. أين العدل في هذا؟ هل تتجسد القوة في التشاطر على الفرائس؟

عرض وطلب

سأختم بهذه الخبرية: سافرت إحدى صديقاتي مؤخراً إلى أمستردام، عاصمة هولندا، وبعد جولة قامت بها في "الشارع الأحمر"- حيث تُعرض المومسات من كل شكل وحجم وعرق وعمر وراء واجهات زجاجية، كل واجهة مخصّصة لـ "ذوق" رجالي معيّن- اتصلت بي وقالت بحنق: "لماذا ليس هناك رجال وراء بعض تلك الفيترينات؟ لماذا كلّهن نساء؟". ثم أضافت بين المزح والجدّ: "يعني نحن ما بيطلعلنا شي؟". أجبتُها: "يا حبيبتي يا م، المسألة بكل بساطة مسألة عرض وطلب. وطالما نحن نعيش في نظام بطريركي يحق فيه للرجل ما لا يحق للمرأة، سنظل نحن النساء في موقع مَن يُطلَب منها لا من تَطْلُب. مَن تُملَك لا مَن تستملك. مَن تؤخَذ لا مَن تأخذ. سنظلّ نحن "البضاعة"، وهم الشراة".

بعدما أنهينا المكالمة، رحتُ أفكّر: متى نعيش في عالم لا يشتري فيه أحد أحداً؟ ثم أليست هذه الفيترينات، في ذلك البلد "المتحضّر"، الذي بلغ شأواً من المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء ما زلنا بعيدين عنه نحن هنا سنوات ضوئية، أليست هذه الواجهات المكتظة حصراً بلحوم النساء، أقول، أبلغ دليل على أن العمل الجنسي ليس، ولن يكون يوماً، فعلاً نسوياً؟

أقدم مهنة على وجه الأرض، تقولون؟ لا، ليست الدعارة، بل هي هذه: استغلال المرأة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard