شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هل سأقابل أطفالي الموؤدين ذات يوم؟

هل سأقابل أطفالي الموؤدين ذات يوم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 4 سبتمبر 202312:07 م

تخطت الثلاثين في مجتمع عربي دون زواج، لن تتخلص من إلحاح الآخرين، نظراتهم، مصمصة شفاههم، لن يكفوا عن سؤالها: لماذا؟ لن يهدأ فحصهم لجسدها من أعلى لأسفل، يبحثون عن العيوب في النهدين أو الخصر، لن يملّوا من تأليف القصص والحكايات ربما تشبع تطفلهم، ليصلوا في النهاية إلى استنتاج ملخصه أنها ناقصة أنوثة، ويمكن الشك في كونها أنثى من الأساس.

الخاطبات وتوفيق رأسين في الحلال

أتذكر زيارة أحد الخاطبات دائماً في توفيق "راسين في الحلال"، لم تزرنا بيد فارغة أبداً، كانت تحمل العرسان أشكالاً وألواناً، تثرثر جوار أمي، تعدّد مزايا فلان وعلان، الشكلية والمادية والمهنية والعائلية، كنت أرفض لعدم اقتناعي بالفكرة، فالزواج مشروع معقد يبحث عن شريكين يؤمنان به، وليس أناساً لا يعرفوا بعضهم من الأساس.

كنت أعمل وأدرس ولي كتب منشورة، وانتهيت من الماجستير وأستعد للدكتوراه، بمقاييس الجميع، أنا فتاة طموحة وناجحة، ورغم ذلك صدمتني عبارة تلك السيدة في وجهي ووجه أمي في ذات اللحظة: "خيبتك في بنتك". شعرت بالإهانة والغضب، كرهت تلك السيدة، أصبحت عدوّتي منذ تلك الجملة، أكثر ما أوجعني تصديق أمي على جملتها بمصمصة الشفاة والحسرة على البنت التالفة، التي تعزف عن الزواج، الخائبة خيبة ما بعدها خيبة.

صدمتني عبارة تلك السيدة في وجهي ووجه أمي في ذات اللحظة: "خيبتك في بنتك". شعرت بالإهانة والغضب، كرهت تلك السيدة، أصبحت عدوّتي منذ تلك الجملة، أكثر ما أوجعني تصديق أمي على جملتها بمصمصة الشفاة والحسرة على البنت التالفة، التي تعزف عن الزواج، الخائبة خيبة ما بعدها خيبة

لن أستطع وصف الجرح الذي طالني من أمي بتلك الحركات والإيماءات التي صدقت بها على كلام السيدة، الموقف نفسه غير مؤثر إن وقف عند عبارة سخيفة من امرأة غريبة، لكن أن تؤمن أمك أيضاً أنك مصدر خيبتها في الحياة لمجرد قرار شخصي من حقك أن تخوضه أم لا هو ما يؤلم.

ما حدث وقتها أنني نظرت لأمي نظرة عميقة ذات معنى، أما مخّي فصعد فيه الدم، لأنني شعرت بوجهي ساخناً من شدة الإحراج، ثم ضحكت بصوت عالٍ، ضحكة أثارت اندهاش الجميع واستغرابهم .في الحقيقة تذكرت وقتها قول الشاعر نجيب سرور: "مساكين بنضحك من البلوه، زي الديوك والروح حلوة".

شعرت أن أمي رشقتني بنصل بارد، من صدمتي ضحكت عالياً لدرجة الدموع، أول مرة أختبر إحساس القهر، حيث لغت أمي وجودي في الحياة، إنجازي العلمي والأدبي، محاولاتي الدائمة وطموحاتي المستمرّة في أن أصبح إنسانة أفضل، كل هذا بالنسبة لأمي صفر بلا قيمة، أنا نفسي بالنسبة لها صفر بلا قيمة لأني عزباء.

ذهبت إلى الحمام، بكيت، أكاد أجزم أن قلبي من يومها مثقوب، يوجد خرم واسع فيه، لم يعد مثلما كان، بعد فترة توفيت السيدة الجالبة للعرسان، جزء صغير داخلي شمت في موتها، لن أدّعي المثالية، فالجرح الذي تسببت فيه لم يكن قد اندمل بعد.

غريزة تزن كثيراً كالأطفال

لا أرغب في الزواج، أراه سجناً يقيّد حريتي، تلك التي أناضل دوماً من أجلها، لكن يوجد أوقات معينة أحتاج فيها لممارسة الحب، وقتها أحس أن الوحدة تغلّفني بطبقة شفافة تعزلني عن البشر، والفراغ العاطفي يملأ قلبي لدرجة موحشة. أنا إنسانة ولي غريزة تحكمني، تلحّ علي من وقت لآخر. توقظني أحياناً من النوم من شدة الظمأ، الجسد له احتياجات ورغبات لابد أن تلبى من وقت لآخر. تلك الأوقات تكون صعبة، يصبح فيها الجسد ثائراً، ساخناً، غير متماسك، يشبه الجيلي، ليّناً، ضعيفاً، رخواً، هشاً، كأنه من فرط ليونته سيتداخل في بعضه وتضيع ملامحه، وقتها أحتاج إلى يد حنونة تمسكني من ظهري وتربّت على كتفي، تخبئني في عناق طويل أضيع فيه، أذوب، نتوحّد، نصبح جسداً واحداً.

انفجار 216 طفل محتمل

كلما تأتيني عادتي الشهرية، أشعر بالحزن، انفجر لي -حتى الآن- 216 طفلاً محتملاً، انتظروا جميعاً الحب كل شهر، رفعت كل بويضة يديها إلى الله، سألته أن تعيش، أن يمهلها قليلاً، أن يساعدها على التجسّد والحياة خارج الرحم لتكون ذات قيمة، ذات نفع في حياة من حولها، ظلت تروح وتجيء، تقف وتجلس، تهدأ وتقفز على جدار الرحم، تنظر للزمن نظرة أسى، تتوسّله أن يمهلها بضعة أيام، لكن الجسد آلة منتظمة العمل، لكل ظاهرة بيولوجية فيه وقتها المحدّد، لا تأخير ولا تقديم، يصدر الرحم أوامره بطردها، هكذا تتحول إلى دم فاسد كل شهر وتموت، ويموت معها طفلي قبل أن يجيء. أتخيل أولئك الأطفال يطاردونني، يركضون خلفي، ينعتوني بالمجرمة التي تركت أطفالها يموتون دون تدخل.

كلما تأتيني عادتي الشهرية، أشعر بالحزن، انفجر لي -حتى الآن- 216 طفلاً محتملاً، انتظروا جميعاً الحب كل شهر، رفعت كل بويضة يديها إلى الله، سألته أن تعيش، أن يمهلها قليلاً، أن يساعدها على التجسّد والحياة خارج الرحم لتكون ذات قيمة

حلم تقطعه كوابيس الواقع

أفتح عينيِّ على بكاء طفلتي الرضيعة، أنتفض، أشعر بالذعر. في طريقي لغرفتها تطل من رأسي الأسئلة: لمَ تبكي؟ أجائعة؟ أعاد مغص بطنها؟ أحملها وأضمّها، تهم بعضّ إصبعي، ألقمها ثديي، تلتصق بي، تشعر بالشبع فتغفل، لكن صوت البكاء ما زال في أذني مرتفعاً، تشنّج جسدها، علو التنهيدات، غلق العينين، النداء على مصدر الأمان، تُشكل المشاعر طبقة ثقيلة على قلبي، تتلاشى أنفاسي، فأسقط في نوبة بكاء، أنظر إليها أجدها نائمة فور إطعامها. أتعجّب من مشاعري، فتطل من رأسي ذكرى حادث مؤلم: رجل ضخم يُوقف رضيعة بين فخذيه، يحاول تعليمها المشي فتقع، فيصفعها بقوة، تشهق الطفلة بالبكاء، يخرج من فمها حرف الباء بالكاد، فيلحقها بكفه الغليظ بالصفعة الثانية. ارتفاع بكائها كان سؤالاً رأيته بعينيها: لماذا بابا؟

ارتعد جسدي، سرت البرودة في أطرافي، التهب بكائي، تسابقت ضربات قلبي، تمنيت أن تبتلعني حفرة؛ لأتلاشى ويتلاشى ألمي. يتكرّر العنف كل يوم، يتخذ أشكالاً أكثر قسوة، كأم قتلت طفلها وقطعته وقدمته كوجبة لزوجها، وطفلة رماها أبواها في القمامة، وغيرهم. أسأل نفسي: ما جدوى الوجود في العالم؟ أكتم نفسي؛ أستعد للتخلص من الألم مرة واحدة. وبغتة تبكي طفلتي. أنتفض مرتبكة من جديد، تهدأ فور حملي لها، أتخلّى عن ملابسي، أتداخل معها وتلتحم فيَّ، نصبحُ جسداً واحداً، أتأملها جيداً وأغمض عيني، فأرى العالم يفتح سدودَه ويتسع فجأة، فتشبع هي، وأرتوي أنا، فكلانا يمتلئ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image