تأتي صور الجرافات والآلات الجهنمية، وهي تُحطم، وتدهس وتسوي بالمعالم التاريخية والأثرية الأرض، في العاصمة المصرية، القاهرة، كتجسيدٍ صارم وفج لحالة الاستهانة بكل ما هو ثقافي وفني من جانب المسؤولين، الذين لا يتورعون في إصدار قرارات الإزالة بدم بارد، لمقابر أثرية وقباب وشواهد وسُبل ومآذن، وغيرها من المعالم، التي تُمثل إرثاً ثقافياً لمصر، يسرد تاريخها عبر عصور وحقب زمنية مختلفة تصل إلى قرون عديدة.
هذا الإرث الذي شكل وجه القاهرة الثقافي والحضاري، ومنحها روحاً خاصة وهويةً مميزة عن غيرها من مدن العالم، تجرى الآن عمليات تحطيمه، في منطقة "قرافة الإمام الشافعي"، و"جبانات المماليك"، و"مقابر المجاورين"، وغيرها من المناطق والجبانات التي تدخل في حيز "مدينة الموتى".
وبرغم قسوة الصور، والفيديوهات المتداولة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، والتي توحي للغريب بأن ثمة مدينة تتعرض للقصف، إلا أن هذه الصور هي الأصدق في التعبير عن الحالة المزرية للآثار المصرية المنهوبة والمحطمة بفعل فاعل، بل هي الأصدق في التعبير عن خرافة ما سُمي بـ"القوة الناعمة لمصر"، وكأنهم كانوا يقصدون بالنعومة، إحالةَ الفن والتراث إلى تراب.
جاء مصطلح "مصر الجديدة"، وما تبعه ويتبعه من حركة تطوير الطرق، وإنشاء الكباري والمحاور والمدن والمنتجعات، مقترناً أو متبوعاً أيضاً، بحمّى هدم المقابر والآثار، وبالأحرى اقتلاع التاريخ من جذوره (الماضي)
قبل الدخول في معترك عمليات التحطيم والهدم، ربما علينا أن نعود إلى تاريخ هذه الأماكن التي ذكرناها في بداية المقال، لنقف على أهميتها التاريخية والثقافية والفنية، ولندرك حجم الجرائم التي تُرتكب بدعوى توسيع الطرق، وإقامة الكباري والمحاور، لتخفيف الازدحام على العاصمة. ولتكن البداية بـ"مدينة الموتى" التي تضم "قرافة الإمام الشافعي" وتُعرف بالقرافة الصغرى، تقع شرق العاصمة المصرية عند سفح جبل المقطم، وهي التي تتعرض أكثر من غيرها لعمليات هدم مقابرها الأثرية ومعالمها التاريخية.
أما القرافة الكبرى فتعرف بـ"قرافة أو جبانات المماليك"، وبها عدد هائل من المقابر والأضرحة. وتقع "مدينة الموتى" بحكم قيمتها التراثية والتاريخية، ضمن حدود "القاهرة الإسلامية" التي سُجلت في عام 1979 ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، وتمتد على مساحة كبيرة من أرض القاهرة، تتخذ شكل شريط طولي يوازي طريق صلاح سالم وسفح جبل المقطم.
وقد تشكلت هذه المدينة الغرائبية التي حيكت حولها الأساطير، مع الدخول العربي الإسلامي لمصر، حيث كان المسلمون يدفنون موتاهم عند سفح جبل المقطم، ومع تأسيس مدينة الفسطاط، ثم مدينتَي العسكر والقطائع، اتسع نطاق القرافة، ليمتد إلى الشمال والجنوب والشرق، فيما عُرف كما ذكرنا سابقاً بـ"القرافة الكبرى" و"القرافة الصغرى"، ويضمان رفات كبار العلماء، مثل الإمام الشافعي والإمام وَرش، والعز بن عبد السلام، والكثير من المتصوفين والمشاهير من الشيوخ والفنانين والأدباء والمفكرين والسياسيين، وتضم كذلك مقابر وأضرحة الأسرة العلوية.
وهكذا فمدينة الموتى هي بمثابة سجل تاريخي لمصر، كما أنها جزء من النسيج العمراني للعاصمة، تبدو بقباب أضرحتها، والمساجد الصغيرة المجاورة لها، وأضرحة الأولياء، والزخارف الإسلامية التي تُزين معالمها، كمدينة أسطورية، متفتحة في أرض الموتى، تُحيل هذا العالم المرعب والمجهول للموت، إلى عالم من السِّحر والغموض.
وقد حظيت هذه المدينة باهتمام كبير من جانب الأثريين والباحثين المصريين، وكذلك المستشرقين والباحثين الأجانب، فثمة سحر يكمن هناك وتاريخ صاخب وهادر، ومعالم صامدة منذ مئات السنين، تكاد أن تنطق من شدة ما مرّ عليها من أحداث وأهوال، لكنها هذه المرة لن تسطيع الصمود في وجه المخطط الجديد، الذي يهدف إلى تسوية مدينة الموتى بالأرض، لفتح الطريق على مصراعيه أمام السادة الأثرياء، للوصول إلى مدنهم الجديدة ومنتجعاتهم، عبر طرق سريعة ممهدة، دون أن يعترضهم شيء يمت لمصر القديمة بِصلة.
مصر القديمة هذه، يبكيها اليوم أبناؤها، بسبب ما يتم من محاولات إزالتها، وهو بالأحرى البكاء على"مدينة الموتى"، فارتباط المصريين بالجبانات والمقابر، هو ارتباط روحي متجذر في أعماق الشخصية المصرية منذ آلاف السنين، تشهد على ذلك أهرامات الجيزة، ووادي الملوك والملكات في الأقصر، وكذلك الجبانات التي تطوق القاهرة التاريخية.
وربما الأمر الآخر الكامن في اللاوعي المصري الآن، والذي جعلهم ينتفضون جراء عمليات التدمير لآثارهم، هو إحساس المصري بالغربة في مدينته (القاهرة)، التي تفقد كل يوم جزءاً من ملامحها، وتتحول بضراوة إلى مدينة إسمنتية متجهمة بدعوى التحديث. كل ذلك في ظل أوضاع اقتصادية شديدة القسوة، شكلت بحدة طبقتين اجتماعيتين: أثرياء، وفقراء. ويرى هؤلاء الفقراء اليوم أن مدينتهم التي كانوا يحتمون بها ومعالمها وآثارها التي هي جزءٌ من روحهم، أصبحت في مهب الريح، بل هي مسحوقة تحت حديد الجرافات.
جاء مصطلح "مصر الجديدة"، وما تبعه ويتبعه من حركة تطوير الطرق، وإنشاء الكباري والمحاور والمدن والمنتجعات، مقترناً أو متبوعاً أيضاً، بحمّى هدم المقابر والآثار، وبالأحرى اقتلاع التاريخ من جذوره (الماضي). فمع كل إعلان عن إنشاء كوبري جديد أو توسيع طريق، توضع علامة "الإزالة" على عدد من المقابر، تمهيداً لإزالتها، وكأن التحديث في مصر، لا بد وأن يكون مقترناً بالهدم.
ففي أحد أيام نيسان/أبريل العام الماضي، استيقظ المصريون على خبر فادح، حيث تم وضع علامة الإزالة على قبر عميد الأدب العربي طه حسين، تمهيداً لهدم المدفن، وذلك لإنشاء كوبري يحمل اسم الكاتب الصحافي الراحل ياسر رزق، الذي كان أحد أبرز أقلام الصحافة المصرية الرسمية. انتفض المصريون لهذا الخبر الصاعق لما يُمثله طه حسين من قيمة كبيرة في تاريخ الثقافة المصرية، وما يحظى به من حب كبير من جانب المثقفين وعامة المصريين. وبرغم عدم تنفيذ القرار، إلا أن أعمدة الكوبري اخترقت مقبرة العميد، وهي بذلك مهددة بالانهيار، دون الحاجة إلى قرار إزالة.
ومؤخراً مع كشف النقاب عن مخطط محور الفردوس، لتسهيل حركة المرور وتخفيف حدة الازدحام عن القاهرة، اشتعلت من جديد حمى هدم المقابر والآثار في منطقة "قرافة الإمام الشافعي"، فقد سُودت المنطقة بأكملها بعلامات الإزالة.
وبدأت الجرافات والبلدوزرات منذ شهور بهدم عدد كبير من المقابر الأثرية، منها مقبرة سلطان العلماء وبائع الأمراء الشيخ العز بن عبد السلام، وكذلك مقبرة الفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد، وحفيدة محمد علي باشا، نازلي هانم حليم، كما تمّ هدم ونهب مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي، ودُمّرت المدافن المجاورة لقبّة الخلفاء العباسيين بقرافة السيدة نفيسة. ومنذ شهور، تم هدم مدفن خطاط الحرم النبوي الشريف عبد الله زهدي، وحسين محمد الليثي، رسام الكسوة الشريفة.
وهناك الكثير من المقابر الأثرية المهددة بالإزالة؛ فبحسب ما نشره الباحث المصري إبراهيم طايع على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك من صور وفيديوهات، فإن "مقبرة الإمام وَرش القوطي شيخ القراء المحققين مهددة بالإزالة. وُلد الإمام ورش في مصر وفيها توفي في عام 197 هجرياً ودفن في مقبرة (القرافة الصغرى)، بجوار الإمام الشافعي".
والإمام ورش هو أول من قرأ القرآن الكريم، بالرواية الشهيرة "ورش"؛ تلك الرواية التي اعتمدها المصريون لعدة قرون. ومنذ فترة وعلامة الإزالة تحتل واجهة مقبرة "قيثارة السماء"، كما يُلقبه المصريون بالشيخ محمد رفعت. وللشعراء والأدباء نصيب وافر في تلك المذبحة، حيث صدرت قرارات بنقل رفات شاعر النيل حافظ إبراهيم، وشاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي، والأديب الكبير يحيى حقي.
حالة من الحزن الشديد انتابت المصريون جراء تلك العمليات التدميرية للمقابر التي ضمت رموز مصر الثقافية والدينية، حيث ضجت مواقع التواصل الاجتماعي ببيانات الشجب والإدانة للمجزرة التي تحدث الآن في قرافة الإمام الشافعي؛ فعمليات الهدم لا تتم فقط للمقابر، بل تأخذ في طريقها كلَّ ما يُزين المنطقة من آثار، ولوحات فنية، وتركيبات رخامية، محفورة عليها كتابات تنتمي إلى أزمنة عديدة، كان من الممكن الاحتفاظ بها في أماكن تليق بقيمتها، بدلاً من إحالتها تراباً.
وضع الكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي والباحثين التاريخيين على صفحاتهم علامة الحداد، حزناً على التراث المُهان والمُدمر، وقد أصدرت جمعية المعماريين المصريين بياناً تدين فيه تدميرَ الجبانات التراثية، وأكدت أن الجبانات تتعرض لـ"تدمير شامل لم تشهده خلال 14 قرناً، ولا خلال أي من فترات الاحتلال الأجنبي".
ستصبح "مدينة الموتى" التي تمثل جزءاً أصيلاً من روح مصر- وفقاً لقرارات الإزالة التي وصل عددها للآلاف- مجرّدَ صور، نتأملها ونبكي زمانها الساحر، عندما لا يُمكننا الذهاب إليها
وانتقدت الجمعية تجاهل السلطات لبدائل الإزالة التي عرضتها اللجنة التي شكلها مجلس الوزراء، والتي أثبتت عدم جدوى مشروع الطرق والكباري الذي طرحته الحكومة. وأشارت إلى طرح اللجنة مشروعاً بديلاً يعتمد على استغلال شبكة الطرق وتطويرها الحالي دون المساس بالجبانات التاريخية، ووضع تصور لاستغلال الموقع في السياحة الدينية والثقافية من خلال إنشاء مسارات، وكذلك حل مشكلة ارتفاع منسوب المياه الجوفية.
لم تتوقف بيانات الشجب والإدانة، والمطالبة بوقف عمليات الهدم والتخريب من جانب جمعية المعماريين، والجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وغيرهما من الجهات المختصة بما يجري، ودائماً الرد من الجهات الرسمية هو ردّ ثابت، حيث تنفي هذه الجهات قيام محافظة القاهرة، أو الجهات المعنية، بهدم الآثار المسجلة بموجب القانون.
وبالطبع هو رد به الكثير من الخداع، فهناك الكثير من الآثار التي مرّ عليها قرون وليست مسجلة، فهل يعني ذلك إجازة هدمها؟! لن تتوقف بيانات الإدانة والشجب، بل لن يتوقف البكاء الجماعي للمصريين على مدينتهم التي باتوا غرباء فيها، وكذلك لن تتغير ردود الجهات الرسمية، لأن مدينتنا الأسطورية (مدينة الموتى)، لابد أن تسوى بالأرض، لإتمام المحور المنشود، محور "الفردوس".
وسيكتفي الباحثون بتوثيق تراث مدينتهم المدمر بالصور والفيديوهات. أما المصور محمد عبد المالك، فقد قام بإعداد فيلم وثائقي عن وقائع الجريمة، وهكذا ستصبح "مدينة الموتى" التي تمثل جزءاً أصيلاً من روح مصر- وفقاً لقرارات الإزالة التي وصل عددها للآلاف- مجرّدَ صور، نتأملها ونبكي زمانها الساحر، عندما لا يُمكننا الذهاب إليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع