من يصدّق أن العاصمة المصرية التي تعد واحدة من أهم منارات الحضارة الإسلامية قد اختفى نصف عمرانها في العصور المتعاقبة تحت المزابل والغبار؟ قبب وشرائط كتابية وأماكن كثيرة ومعالم كاملة أخفتها المزابل والأنقاض وأصبحت ملجأ لمدمني المخدرات ومأوى للبلطجية.
حالة الإهمال التي طالت القاهرة والمياه الجوفية التي أغرقتها تهدد المدينة بحرمانها من رونقها وعمارتها الإسلامية. ولذلك أطلقت مجموعة من الشباب المصري مبادرة بعنوان "سيرة القاهرة" لرصد هذه الأماكن من أدغال منشية ناصر إلى خانقاه الأمير شيخو وشارع الصليبة وغيرها ثم إزالة القمامة منها وتنظيفها من الغبار الذي أخفاها.
"القاهرة مدينة التفاريح والتباريح عامرة بكل قبة وكل ضريح بالبشر والحجر، ونحن كالمجاذيب تخطفنا المدينة القديمة لنطوف بين دروبها وردهات الأماكن بين ثنايا البنايات القديمة وبين الحجر". هكذا دوّن زيزو عبده مؤسس المبادرة في مانفيستو أطلقه هو ومجموعة من الشباب لإنقاذ آثار مدينتهم من تجمعات القمامة والأتربة، بأدوات تنظيف مختلفة أشرفت عليها ثلّة من المتخصصين بالآثار.
"سيرة القاهرة" مبادرة تسعى لرصد الأماكن الأثرية وإزالة القمامة منها وتنظيفها من الغبار الذي أخفاها.
نصف الآثار مهدد بالاندثار
نصف الآثار الإسلامية في القاهرة يواجه خطر الاندثار والاختفاء بحسب معاذ لافي الباحث في الآثار الإسلامية وأحد مؤسسي المبادرة، ويوضح لرصيف22: "إهمال الآثار الإسلامية المتعددة القبب أدى لإخفائها تحت الأنقاض والمزابل، وهذا هو ما نستطيع استهدافه في سيرة القاهرة".وبحسب لافي، هناك آثار اسلامية قاربت على الاختفاء جراء تفاقم مشكلاتها وما لحق بها من أذى، أبرزها مسجد سيدي مدين وقبة الأشرف خليل، فالمسجد معرض لخطر الاختفاء والاندثار بسبب المياه الجوفية.
الكثير من الأزمات التي شهدتها البلاد في العقود الماضية أدت إلى بروز هذا المشهد كما يشرح لافي: "دور الحكومة شحيح تجاه الآثار الإسلامية في القاهرة، وقد يعود هذا إلى أزمات كثيرة مرت بها بلادنا سواء كانت سياسية أو اقتصادية، عطلت الاهتمام بهذه الآثار حتى وصل الأمر إلى تفاقم المشكلات بشكل كبير. في الواقع نحن لا نحتاج إلى أن نتحسر أو نشجب، كل ما علينا هو التكاتف لإنقاذ الآثار الإسلامية التي تعود للعصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي والعثماني، فلدينا حوالي 100 أثر في القاهرة، ونسبة كبيرة منها -تصل إلى النصف- مغلقة ومهملة".
ويضيف لافي: "تحدثنا إلى المسؤولين مراراً وتكراراً عن هذه المشكلة من خلال صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الإهمال الذي يعود لأكثر من أربعين عاماً كانت خلالها الآثار مغلقة يجعل الأمر مرهقاً جداً، ويحتاج لمنظمات كبيرة للعمل عليها وإنقاذها من خلال دراسة الأثر والمياه الجوفية مع العمل الواقعي على أسس صحيحة، كما أن هناك مشكلات أخرى تحتاج إلى دعم كبير وتدخل الدولة متمثلة في وزارة الآثار".
الفكرة موجودة منذ سنوات
مؤسس المبادرة زيزو عبده يرى أن هدفها إنقاذ العديد من الآثار العائدة لجميع الحقب الاسلامية وأنظمة الحكم التي شهدتها المدينة، ويروي لرصيف22: "التفكير في تأسيس سيرة القاهرة موجود منذ سنوات، وطبقته مجموعة كبيرة من الشباب المتخصص في السياحة والآثار والهادف لإنقاذ معالم القاهرة الأثرية والتي لا تعد ولا تحصى، خاصة تلك التي تعود للفترات الإسلامية من أول الفتح الإسلامي لمصر حتى أسرة محمد علي، وهي الفترات التي تعاقبت فيها ست أو سبع حقب إسلامية لا تزال آثارها ماثلة في شوارع القاهرة، وبعض الشوارع تحتويها كلها مثل شارع المعز وشارع الصليبة وغيرها من شوارع الدرب الأحمر".تحدثنا إلى المسؤولين مراراً وتكراراً عن هذه المشكلة من خلال صفحاتنا على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الإهمال الذي يعود لأكثر من أربعين عاماً كانت خلالها الآثار مغلقة يجعل الأمر مرهقاً جداً، ويحتاج لمنظمات كبيرة للعمل عليها وإنقاذها
ويكمل عبده: "نرى آثاراً إسلامية وسككاً ودروباً داخل القاهرة لكنها مهملة تحت الغبار في شوارع كثيرة. قد يكون ذلك بسبب كثرتها، فبعض الشوارع قد تحتوي على 15 أو 16 أثراً منها، وعدم توافر عامل الندرة أثّر بشكل كبير على الحفاظ عليها، وفي الوقت نفسه إذا احتاجت للترميم فنحن نتحدث عن مشروع ضخم جداً يشبه ما تبنته لجنة الآثار العربية في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، إذ كانت مهمتها ترميم الآثار الإسلامية والبحث عن المفقود منها ووضع أرشيف ضخم لها ما زلنا نعمل عليه حتى يومنا هذا".
أزمة المياه الجوفية هي الأخطر، برأي عبده، إذ باتت تهدد الآثار الإسلامية المغلقة والمفتوحة. يقول: "أكثر الآثار التي تحتاج إلى إنقاذ هي تلك التي تعاني أزمة المياه الجوفية، فهي لا تحتاج إلى مبادرات عادية وإنما إلى تدخل الدولة".
ويعمل أفراد المبادرة على تنظيف الآثار من القمامة والغبار، وتنظيف الجدران باستخدام الفرش بجميع أحجامها وأنواعها، لإزالة الأتربة من على الشرائط الكتابية والقطع النحاسية، وبعض المواقع تصبح مهيأة لاستقبال الزائرين بشكل جيد بعد إزالة القمامة منها.
واللافت تفاعل أهالي المدينة القاطنين بجوار الآثار مع أفراد المبادرة كما يقول عبده: "يشاركوننا العمل ويدعموننا ويقدمون لنا الشاي، ونتبادل معهم قضية التوعية الثقافية والتاريخية بأهمية الآثار، وهم يملكون الكثير من معلومات التاريخ الشعبي ويسردونها لنا ثم نوثقها، وهذه الحكايات لا نعلمها نحن كموثقين للتاريخ وهي ترتبط بالكثير من الأساطير الشعبية خاصة تلك المتعلقة بالآثار الإسلامية والأضرحة".
نبحث عن الأماكن غير المعروفة
"هي أماكن مغلقة تماماً لم يسمع عنها أحد في دروب القاهرة وحواريها وشوارعها"، تقول أميرة أبو زيد، مسؤولة التوثيق والتصوير بالمبادرة، وتؤكد أن هدف المبادرة البحث عن الأماكن غير المعروفة والمغلقة والتي أخفتها حواري القاهرة، وتضيف أن المتطوعين يتجاوبون بشكل سريع مع هذه المهمة بالتزامن مع تزايد الاهتمام لديهم بإنقاذ هذه الآثار، وتتابع "وكأن المبادرة كانت بمثابة رمي حجر في المياه الراكدة، إذ إنها إضافة لذلك لفتت انتباه وزارة الآثار نحو المعالم المهملة والتي يتم استغلالها بشكل غير مهني على الإطلاق".
هناك تفاعل لافت من قبل الناس تجاه وجودنا، وهم يشعرون بأننا نقوم بشيء مهم. يوفر لنا الأهالي ما يلزمنا للتنظيف وخاصة المياه، والتعاون بيننا ممتاز، ما يوحي بقيمة هذه المواقع الأثرية وأهميتها لجميع أبناء البلد على السواء
ويقتصر الاهتمام بالمناطق الأثرية في القاهرة عادةً على وسط المدينة وعلى مناطق معينة، منها الجمالية وشارع المعز كما تشرح أبو زيد لرصيف22: "هي مدينة يمكن أن تسير في شوارعها دون أن تعرف أن ما تراه هو أثر من فرط كثرة الآثار، فهي غير مسجلة من الأساس كآثار. أجزاء كثيرة متهدمة من المباني، ومياه جوفية، وهي أشياء فوق قدرتنا".
وتضيف أبو زيد أن وزارة الآثار هي الجهة التي تمتلك الإمكانيات لحل كل المشكلات المزمنة التي تعانيها معالم القاهرة التاريخية، تقول: "لكن ليس هناك اهتمام حتى الآن رغم أننا أخبرناهم بعدم قدرتنا على التدخل في هذا الأمر الذي يحتاج وقتاً طويلاً وجهداً هائلاً".
ولقيت المبادرة تجاوباً كبيراً من أهالي مختلف مناطق القاهرة. تقول أبو زيد: "هناك تفاعل لافت من قبل الناس تجاه وجودنا، وهم يشعرون بأننا نقوم بشيء مهم. مثلاً كنا نعمل في منطقة سبيل شيخو ووجدنا ضمن المواقع المغلقة فيها آثار تعاطي مخدرات ما يوحي بوجود بلطجية ومدمنين يستغلون تلك الأماكن البعيدة عن الأعين. هناك وفر لنا الأهالي ما يلزمنا للتنظيف وخاصة المياه، وكان التعاون بيننا ممتازاً، ما يوحي بقيمة هذه المواقع الأثرية وأهميتها لجميع أبناء البلد على السواء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.