طرحت قضية حبس الناشر المصري هشام قاسم، سؤالاً جوهرياً عن ماهية العدالة في مصر؛ هل هي حاضرة وميزانها بادٍ بوضوح للمتهمين، أم الأمور تتداخل والأمواج تتلاطم في ساحات العدل المصرية؟
سؤال شائك يقفز عنوةً إلى الصدارة، لتتراجع كل الأسئلة الحاضرة، بأجوبتها الغائبة، إلى خلفية المشهد.
التساؤل حق والتفكير واجب، دون أن يعني ذلك التقليل من قامة القضاء المحمية بالاحترام اللائق، قبل أن تكون محصنةً بنصوص القانون.
التيار الحر... ضربة البداية
بدأت قصة الخلاف المهيمن على نقاشات الساسة الآن، بعد أن شكّل هشام قاسم، كياناً سياسياً جديداً يحمل اسم "التيار الحر"، يضمّ بعض رؤساء الأحزاب التي تتبنى الفكر الليبرالي، وتميل إلى حرية السوق.
فور الإعلان عن اختيار قاسم رئيساً لمجلس أمناء التيار، انطلقت حملة شعواء عليه من الإعلام الرسمي من جهة، يعضده بعض المعارضين، والكثير من الناصريين من جهة أخرى.
وصرح الوزير السابق كمال أبو عيطة، لموقع "تحيا مصر" الإخباري، قائلاً: "هشام قاسم نحسبه على الأمريكان والصهاينة، ولم نرَه في أي عمل وطني مصري، ويمثّل خطراً على الأمن القومي العربي".
في ردّه عليه عبر منشور له على فيسبوك، ذكّر هشام قاسم، أبو عيطة، باتهامه في قضية الاستيلاء على المال العام، وأعاد نشر ما كُتب وقتها في المواقع الصحافية عن تلك القضية التي ثبتت براءته منها لاحقاً.
وهنا قام أبو عيطة بتحرير بلاغ سبّ وقذف ضد قاسم... و تدور الدائرة من بعدها.
وحيث أن أزمة قاسم-أبو عيطة، هي التي دفعت بسؤال العدالة إلى الصدارة، فأي محاولة لفهم ما يجري تبدأ من البحث عن بطلَي القصة وعلاقتهما بالسلطة، وهذا ليس نبشاً في تاريخ له ملابساته، أو محاسبةً لا نمتلك حقها، وإنما فقط لتكوين صورة بانورامية عمّا نحن في صدد الحديث عنه.
كيف تحول المناضل العمالي الى وزير ثم عضو في لجنة رئاسية؟
معالي الوزير
بدأ كمال أبو عيطة، حياته السياسية معارضاً ناصرياً، ولمع اسمه في عهد مبارك بصفته "مناضلاً عمّالياً"، كما يفضّل أحباؤه تسميته.
وعند قيام ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، كان أبو عيطة من الشخصيات الأكثر شعبيةً في ميدان التحرير، وقاد الكثير من مظاهراتها حتى عُرف باسم "مؤذّن الثورة".
لكن مع عقد انتخابات مجلس الشعب (2012)، وفي الوقت الذي كان فيه الخلاف على أشدّه بين من عُرّفوا حينها باسم "القوى الثورية"، والإخوان المسلمين، على إثر الاتهامات الموجهة إلى الأخيرين بأنهم "باعوا الثورة" وتخلّوا عن "القوى الثورية" في اشتباكات شارع محمد محمود، واتفقوا مع المجلس العسكري الحاكم حينها على عقد الانتخابات البرلمانية، تعالت الهتافات: "اشهد يا محمد محمود... كانوا ديابة وكنّا أسود". وهنا حدث تحول دراماتيكي في موقف كمال أبو عيطة، إذ ترشح على قوائم "حزب الحرية والعدالة" التابع لجماعة الإخوان المسلمين، في الانتخابات تلك.
ومع أفول نجم الإخوان بعد الإطاحة بهم في 30 حزيران/ يونيو 2012، وما صاحب الإطاحة تلك من أحداث دموية، هاجم أبو عيطة جماعة الإخوان المسلمين، وعُيّن وزيراً للقوة العاملة في حكومة الببلاوي، وصرّح بعدها: "أدعو الله أن يغفر لي ذنب ترشحي على قوائم الإخوان".
النقلة الثالثة التي أثارت تساؤلات عدة، كانت ظهور صوره في المظاهرات الداعمة للرئيس عبد الفتاح السيسي، في أثناء زيارته لنيويورك، وتصريحه الذي أطلقه حينها: "ميادين الثورة انتقلت إلى أمريكا تأييداً للسيسي".
وما هي إلا سنوات قليلة، حتى عُيّن في لجنة العفو الرئاسي التابعة لرئاسة الجمهورية.
تلك التحولات الدرامية في حياة الرجل، الذي من المؤكد أن له مطلق الحرية في إعادة التفكير دوماً في انحيازاته واختياراته، جعلت البعض ينظر بعين الريبة إليه، ويتّهمه بأنه "مزقوق" على هشام قاسم من قبل الأمن. وذلك ما نفاه الرجل تماماً، مؤكداً أن بلاغه أتى دفاعاً عن شرفه وسمعته ليس إلا.
هل كان الهدف من القضية إبلاغ قاسم رسالةً مفادها أن هناك حبلاً الآن في يدهم، يتمثل في قضية يمكن تحريكها لو شاؤوا؟
الناشر
على الجانب الآخر للقضية، يقف هشام قاسم، الذي شغل منصب مدير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان لفترة، وإن كانت شهرته الحقيقية تحققت كناشر وصانع صحف، إذ أسس الرجل مجلة "كايرو تايمز" الناطقة بالإنكليزية والتي كانت المنبر الوحيد حينها الناطق بتلك اللغة ويعارض مبارك.
وبعد أن أُغلقت "كايرو تايمز"، أسس جريدة "المصري اليوم" التي حققت نجاحاً كبيراً، وقيل حينها إن مبيعاتها تجاوزت مبيعات جريدة "الأهرام" العريقة.
مواقف قاسم من الأنظمة الثلاثة "مبارك والإخوان والسيسي" كانت واحدةً، إذ بقي معارضاً مستقلاً لممارساتها جميعها، فخاض مع نظام مبارك معارك شتى، وحين تولّى الإخوان المسلمون زمام الأمور رفض التعاون معهم في تأسيس جريدتهم،
وكانت معارضته الأقوى والأشرس لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي. و نظرة سريعة على حسابه على فيسبوك تخبرنا بالكثير عن موقفه من النظام الحالي، وسقف معارضته له المتمثلة في هجوم مستمر على شخص الرئيس وبعض قيادات الدولة.
بالطبع نحن لا نتحدث هنا عن قدّيس أو وليّ من أولياء الله الصالحين، فللرجل كارهون كثر من تيارات شتى (الناصريين والقوميين في الأساس)، يصنّفونه صديقاً للأمريكيين، مستندين في اتهامهم إلى صورته الشهيرة مع جورج بوش الابن، قاتل أطفال العراق، ومنهم من يذهب بعيداً متّهماً إياه بالعمالة للصهاينة.
المفارقة أن تلك الاتهامات لم تلاحق القيادي الناصري البارز حمدين صباحي، بعد ذهابه للقاء بشار الأسد، قاتل أطفال سوريا!
سؤال العدالة هو الأهم
ما فعلته قضية هشام قاسم لا يعدو كونه نكئاً لسؤال قديم: هل العدالة في مصر ناجزة؟
مفارقات القضية في طبيعة اشتباكها مع العدالة، دفعت الكثيرين للقول إننا إزاء عقاب سياسي لهشام قاسم، على مجمل مواقفه السياسية.
فالروابط التي أعاد نشرها قاسم، بخصوص قضية أبو عيطة، كانت محور نزاع قضائي مع رئيس تحرير "اليوم السابع" (المقربة من السلطة)، خالد صلاح.
لكن لم يتم احتجاز صلاح، ولا كفله، ولم يُحل محبوساً إلى المحكمة خلال 10 أيام، بل ظل في بيته معززاً مكرّماً، وبقيت القضية في المحاكم لمدة عامين، قبل أن يُحكم بغرامة قدرها 10 آلاف جنيه فقط لا غير، على نقيض ما حدث لهشام قاسم تماماً، الذي اقتصر دوره على نشر روابط أخبار منشورة بالفعل على المنصات الإخبارية.
من جانبه، كتب رئيس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حسام بهجت، عن طبيعة قضية هشام قاسم، مشيراً إلى أنها مسيسة وليست جنائيةً، كاشفاً فشل محامي قاسم لليوم الرابع على التوالي، في الحصول على نسخة أو حتى الاطلاع على ملف القضية التي ستُعقد أولى جلساتها بعد 3 أيام، وأنهم لم يتمكنوا حتى من الاطلاع على أمر الإحالة لمعرفة قائمة التهم!
لكن المقال الأهم صدر من خالد داوود، المقرب من الوزير السابق كمال أبو عيطة، والذي يصفه بأنه "عمه".
كتب داوود: "أتصور شخصياً أن الجهات المعنية لم تتوقع امتناع هشام عن دفع الكفالة، وربما كان الهدف إبلاغه رسالةً مفادها أن هناك حبلاً ممدوداً الآن في يدهم، يتمثل في قضية يمكن تحريكها لو شاؤوا، كما يمكن وضعها في الدرج وتناسيها".
ولكن يبدو أن تغريدةً كتبها هشام، لتأكيد مبررات رفضه دفع الكفالة، وتناول فيها رئيس الجمهورية، حسمت القرار.
مرةً أخرى...
التساؤل حق والتفكير واجب، دون أن يعني ذلك التقليل من قامة القضاء المحمية بالاحترام اللائق، قبل أن تكون محصنةً بنصوص القانون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.