شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كوب شاي يساوي قُبلة فرنسية

كوب شاي يساوي قُبلة فرنسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 26 أغسطس 202311:37 ص




"ما بقتش أعرف أظبط كوباية الشاي زي الأول"، بصوت حزين أخبر جارتي وأنا أشعر برغبة عارمة في البكاء، سرعان ما توارت فور إنطلاق ضحكاتها وهي تقول ساخرة: "هي دي مشكلتك... يا حرام".

لا تدرك جارتي قسوة الأمر على نفسي. فتلك إشارة واضحة تؤكّد لي أن هناك موجة اكتئاب تقترب.، أستشعرها إذا ما فقدت عيني قدرتها على تمييز المقدار المضبوط من السكر والشاي قبل أن أضعهما في الكوب، أدركها إذا ما تعجّلت في صبّ الماء فوق ذلك الخليط الساحر، قبل أن يصل لدرجة الغليان، فتكون النتيجة كوب شاي "ماسخ"، لا يصفّي ذهن ولا يهدأ روح.

جميعها إشارات تؤكّد ضيقاً وخنقة و"مراراً طافحاً" يحيط بي، أعافر دوماً كي أتجاهله، لكن نفسي تتآمر مع الاكتئاب عليّ، وتمنحه مفاتيح الروح، ليقيم في أرجائها كيفيما يشاء، ويرسل لي نبأ حضوره مع أول كوباية شاي "ماسخ" أعدها بيدي.

قبلة فرنسية

الشاي بالنسبة لي ليس مجرد مشروب "بحبس بيه" وجبة ثقيلة كعموم المصريين، لكنه ملاذ القلب ورفيق العقل في مطارداته للأفكار الطائشة. لا يمكنني الكتابة إلا وبجواري كوب شاي ساخن، لا أجد الونس مع صديق إلا وثالثنا كوب شاي ساخن، لا أعبر عن فرحي أو حزني أو قلقي أو حماسي إلا وبين يدي كوب شاي، أتناوله دوماً "سخن ملهلب"، فلا استطيع أن أتذوقه بادراً، فالشاي تكمن لذته عندي في لسعة خفيفة يمنحها لطرف لساني وحافة شفتي، فتثيرني كما لو كانت قبلة فرنسية شهية.

عشاق القهوة في رأيي لا يختلفون في شيء عن مشجّعي النادي الأهلي المصري، يعانون من نفس التعالي والغرور. يرون أنهم مختلفون عن البشر، ويكفي شعارهم الأشهر "الأهلي فوق الجميع"، وهي الكذبة التي صدّقها مروّجوها... مجاز

هاتي حبة

الشاي الساخن يشبهني بوضوحه وشفافيته، لذا أصبحنا رفيقين منذ نعومة أظافري، ففي طفولتي البعيدة كان تناول كوب شاي من الممنوعات على طفلة مثلي، لم تطأ بقدميها درج الأنوثة بعد. كنت أشاهد أمي وجاراتنا وقد اجتمعن حول برّاد الشاي الصاج الذي تحتضنه نيران الموقد التي تلتهم "كوالح" الذرة الجافة بشهية مفتوحة فتحولها إلى جمرات مشتعلة.

تتناول كل منهن كوب شاي مظبوط وهن يتبادلن حكاياتهن التي كانت بالنسبة لي لا تقل إثارة عن الأساطير، لفرط ما تحويه من غرائب وعجائب لا يدركها عقلي الصغير.

"هاتي حبة"... كلمتين أهمس بهما برجاء يصل إلى درجة التوسّل في أذن أمي كي تمنحني رشفة، لأتذوّق طعم هذا المشروب الذي كلما تناولته امرأة فيهن؛ باحت بكل أسرارها طوعاً، لكن أمي ترفض بحسم: "لسه بدري عليكي"، تعرف أمي أنني لا أمتلك أسراراً لأحكيها مثلهن، فمما تخاف إذن؟

فتّة شهية

مع مرور الوقت، اضطرت لأن تسقيني الشاي بيديها، فعندما خلا بيتنا من الطعام ومرّت بنا أيام لم نملك فيها سوى "التموين"، فلم تحو خزانتنا القديمة حينها سوي السكر والشاي وبعض أرغفة جافة، رضخت أمي للحاجة، وصنعت لي بيديها  كوباً من الشاي الحلو وألقت فيه قطع خبز صغيرة، فتعرّفت للمرة الأولى على "فتة الشاي" التي كانت اختراعاً لم أعرفه من قبل، عندما التهمته بالملعقة دبّت النشوة في أوصالي، ونسيت جوعي وحزني لعجز أمي. حينها بالغت في مدحي للفتة الفريدة، متمنية أن تزيح كلماتي ذلك الحزن الذي كسى ملامحها، فتحققت أمنيتي على الفور وابتسمت أمي، ففرحت وصارت لذة الشاي سلاحي الذي هزمت به حزن أمي.

منذ ذلك الوقت أصبح الشاي شريكاً أساسياً في يومي. تصنع لي أمي "كوباية شاي مُعتبرة" صباحاً لتدفيء جسدي الصغير عوضاً عن سترة صوف بالية اعتدت أن ارتديها تحت "مريلة" المدرسة لتدفّئني فتزيد من شعوري بالبرد. ذلك الشعور الذي كان يطرده كوب شاي ساخن تصنعه أمي بحب وأضمّه أنا بين يدي لأشربه ساخناً قبل ذهابي إلى المدرسة.

كوب شاي صباحي لم ينافسه في حلاوته إلا كوب المساء الذي تعلّمت مع الوقت أن أعدّه بنفسي وأضبط "تلقيمته" بحرفية صارت سبباً لفخر أمي بين الجيران والأقارب، لأرتشفه بمزاج بينما أجلس أمام نافذة صغيرة تطل على حارة ضيقة، لكن ضيقها لم يمنع عيني من مشاهدة نجوم السماء وعدّها وأنا أستمع إلى أغنيات وردة وفايزة وميادة، وأتخيّل قصص حب سوف أعيشها يوماً ما.

الشاي رفيق سهر الخفير، وشريك دكة البواب، ومهون الشيلة على الفواعلي، ويتقاسم غبار الشارع مع الصنايعي، فهو مشروب تليق لسعة حرارته بخشونة أيديهم الشقية. ويناسب مذاقه ثقافتهم الشعبية البسيطة... مجاز

كذلك رافقني كوب الشاي الساخن في رحلة بحثي عن الله، ومحاولاتي المضنية للإجابة على سؤال: "هو ربنا فين؟"، مروراً بسؤال: "الإنسان مسير ولا مخير"، حتى وصلت لمرحلة: "ربّك ربّ قلوب".

الشاي ع النار

مع الوقت وبقليل من التركيز، اكتشفت أن الشاي هو المشروب القومي لقريتي الصغيرة. فأهلها لا يتناولون القهوة إلا في العزاءات وتوديع الموتى، لذلك صرت أكره القهوة التي صارت قرينة للموت عندي، تشعل رائحتها رغبة دفينه بداخلي للبكاء. لذلك نشأت بيننا عداوة متأصلة، فأنا أكرهها وهي كذلك. فإن كانت القهوة دليل الحزن في قريتنا البعيدة؛ كان الشاي دليلاً دامغاً على كرم أهلها فـ "اتفضل الشاي ع النار"، كانت دوماً دعوة أصحاب البيوت مفتوحة الأبواب لكل عابر، دعوة صادقة لا تعرف "عزومة المراكبية".

الشاي بتاعي

عشقي المجنون للشاي لم يكن ميراثي وحدي، بل هو ميراث لأغلب المصريين، فعندما أراد المصري الفهلوي تحليل الرشوة ربطها بالشاي، فعبارة "الشاي بتاعي يا بيه" أكبر دليل على فهم المصري لسيكولوجية أخيه المصري، فقد اختار مشروبه المفضل ليكون أقصر الطرق لجيبه .

الشاي كذلك شريك المصريين والشاهد على اتفاقاتهم وفض نزاعاتهم، شريك الفرح والغضب والضحك والمذاكرة والمساومة والتفكير في القرارات المصيرية، رفيق البرد، فحرارته العابرة لجدران الكوب الزجاجي تخترق حدود الجسد لتستقر في قلب الروح، تمنحها دفئاً منقطع النظير.

الشاي رفيق سهر الخفير، وشريك دكة البواب، ومهون الشيلة على الفواعلي، ويتقاسم غبار الشارع مع الصنايعي، فهو مشروب تليق لسعة حرارته بخشونة أيديهم الشقية. ويناسب مذاقه ثقافتهم الشعبية البسيطة.

إبريق الشاي

الشاي مشروب واضح النكهة وصريح المذاق، لا يعرف التلوّن ولا تقلب المزاج ولا الادعاء، لذلك اختاره الشاعر الراحل شوقي حجاب ليكون بطلاً لأغنيته الشهيرة "أنا أنا أنا إبريق الشاي" التي أصبحت مع الوقت أيقونة الطفولة البريئة.

رافقني كوب الشاي الساخن في رحلة بحثي عن الله، ومحاولاتي المضنية للإجابة على سؤال: "هو ربنا فين؟"، مروراً بسؤال: "الإنسان مسير ولا مخير"، حتى وصلت لمرحلة: "ربّك ربّ قلوب"... مجاز

كما كانت أغنية "فنجان شاي مع سيجارتين ما بين العصر والمغرب"، إشارة للنضج التي لازمت شباب الستينيات بصوت محمد الموجي، كما فعلت "قاعد معاي وبنقسم اللقمة ونضحك وبنشرب شاي" التي غنتها فايزة أحمد بدلال واضح، لتردّدها خلفها الفتاة العربية بدلال أكبر.

حتى جاء حمادة هلال معبراً عن تغير الزمن وارتباط الشاي بالهم والمشاكل والجري خلف لقمة العيش، وهو يغني لاهثاً "تشرب إيه أشرب شاي".

القهوة والأهلي

ما يقرب من أربعة عقود وأنا وفية للشاي كمشروب لا يدرك قيمته إلا القليلون. أرفض كل المغريات التي تحاول إقناعي بمنافسه الأكثر سطوة "القهوة"، واللعب على وتر الاستفزاز عندي، وطرح السؤال الساذج دوماً: "ازاي كاتبة مابتشربش قهوة ومش متعصّبة لصوت فيروز؟"، من أولئك الذين يتغنّون ليلاً نهاراً بجمال القهوة وروعة مذاقها، ويعتبرون رائحتها كلمة السرّ، لفك شفرة النفوس.
كل ما سبق أعتبره هرتلة لا أساس لها من الصحة، فعشاق القهوة في رأيي لا يختلفون في شيء عن مشجّعي النادي الأهلي المصري، يعانون من نفس التعالي والغرور. يرون أنهم مختلفون عن البشر، ويكفي شعارهم الأشهر "الأهلي فوق الجميع"، وهي الكذبة التي صدّقها مروّجوها، كما صدّق عشاق القهوة أنها هي المشروب الأهم والأعظم، متناسين أن الشاي هو الأوسع انتشاراً والأكثر تأثيراً وبقاء، فيكفي أنه مزاج الشعب.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image