تبدأ بالقدم اليمنى خطوة للأمام ثم تحرّك اليسرى لتصبح بجوارها. تقف ثوان وتعاود التقدم، لكن بالقدم اليسرى خطوة للأمام، ثم تلحقها اليمنى لتصطف جانبها ثوان قليلة وتتابع السير على هذا المنوال.
هكذا كان أطفال قريتنا يتسابقون للوصول إلى الشجرة العملاقة دون أخطاء في طريقة المشي. تلك الطريقة في المشي سبقت مفهوم غينس لتحطيم الرقم القياسي، فالمنافسة كانت كالتالي: قطع أطول مسافة في أسرع وقت ممكن بطريقة "مشية سلمى".
سلمى التي خلّدت اسمها من خلال مشيتها هي امرأة "ع البركة"، كما كان الجميع يصفها، فلم يقبل الكبار أن نصفها بـ"المجنونة" رغم تصرفاتها الغريبة. سلمى في أوقات هدوئها وسكينتها تكون شبه طبيعية، جالسة عند أحدهم أو ماشية في القرية فجأة تصرخ بصوت عال: "أنا قادمة... أنا قادمة".
تذهب إلى بيتها لتسلك طريقها نحو الشجرة العملاقة الوحيدة التي يمكن أن تراها في سهلنا المنبسط. تلك الشجرة لم يُعرف بالضبط كم عمرها، لكنها وُجدت فترة توزيع الأراضي على الفلاحين، فكانت نقطة علامة لمعرفة امتداد أرض كل مزارع، وراحت تكبر وتتفرّع لتكون مظلة في الصيف والشتاء، ومتنزّهاً للجميع وحتى العشاق.
قريتنا بدون اسم يُذكر أو لافتة تدلّ على وجودها، لكن إذا كنت تسير على الطريق العام ولمحت شجرة عملاقة تنادي بصوت عال: "أنا وحيدة"، تكون قد وصلت وجهتك... مجاز
سلمى هي الوحيدة التي شقت طريقاً واضحاً نحو الشجرة، حفرته بخطواتها ومشيتها الغريبة بين الزرع في الأراضي.
أقرب طريق معبد يبعد عن قريتنا قرابة الكيلومترين. ناشدنا البلدية مراراً لشق طريق يصل قريتنا بالشارع الرئيسي، "أنتم بنيتم بيوتكم بعيداً عن الطريق العام": كانت تلك إحدى دعاباتهم... يا ليت زفتهم بسماكة دعاباتهم، لكان امتدّ من الشارع العام إلى أكثر من كيلومتر واحد نحو ضيعتنا، بعد سنين من المناشدات والترجيات.
طريق سلمى الذي حفرته بمشيتها الغريبة كان مريحاً أكثر من الطريق الجديد، كنا صغاراً نتفرج عليها بضحك وإعجاب.... كيف تقدر على المشي كل تلك المسافة دون أن تخطئ الخطوات؟
كانت محفزاً للأولاد والشباب المراهقين على السير أطول مسافة ممكنة، وكي تبدو المسابقة جديرة بالتقدير والمصداقية، تمّ تشكيل لجنة تضع حجراً كبيراً، خاصاً بكل متسابق، يُكتب عليها اسمه بوساطة عود خشبي، يُغمس في علبة دهان أبيض تم سرقتها من المدرسة. بذلك الدهان يُسجَّل اسم الفتى على حجره الخاص، ينقلها في كل مرة يكسر رقماً قياسياً جديداً إلى نقطة الوصول الأخيرة.
هذه المنافسة أهم من الدراسة نفسها، فالفتيات يدرسن فترة الإلزام ثم يتفرّغن للبيت، والفتيان يدرسون ليتفرّغ بعضهم للزراعة أو الرعي، أما أصحاب الطموح فيتطوعون في الجيش لأن طريقه أسرع...
حلم الشباب الآن تعدى فكرة تحطيم الرقم القياسي وأصبحت المنافسة كالتالي: من يصل مشياً بطريقة سلمى أولاً إلى تحت جذع الشجرة العملاقة سيكون هو الفائز.
مشية سلمى... طريق سلمى.. صار يتداول على ألسن الجميع، لكن لم يفكر أحدنا بسؤالها: لماذا تمشين بهذه الطريقة؟ لماذا تسيرين إلى تحت الشجرة؟
سألت أمي عن قصتها قالت: "كانت سلمى فتاة عادية وجميلة، أحبت شاباً يدعى أحمد. كانت تواعده تحت الشجرة ككل العشاق، فجأة اختفى أحمد ولم يعرف أحد شيئاً عنه، ربما أكلته الوحوش... ربما غرق في النهر وجرفته المياه بعيداً... ربما... ربما. أقاويل عدة، لكن سلمى لم تستوعب الأمر. ظلّت تسمع صوته يناديها من تحت الشجرة فتذهب لملاقاته.
- "بهذه الطريقة في المشي؟"
- "لا، إنها تمشي هكذا منذ بضع سنوات فقط"
- "إذن كم مضى على اختفاء أحمد هذا؟"
- "الكثير... أكثر من عشرين عاماً"
عشرون سنة عمر طريق سلمى، لكن مشيتها تلك ظلت لغزاً للجميع. أنا فقط تجرّأت وسألتها عندما كانت في حالة هدوء نسبي: "سلمى، لماذا تمشين بهذه الطريقة؟"
لم أتوقع الإجابة، بل لم أتوقع أن تجيب أصلاً: "قدمي تخاف الوحدة... تنادي كل واحدة الأخرى: تعالي جانبي أنا خائفة، والشجرة أيضاً تخشى الوحدة. أسمعها تناديني: أنا خائفة، فأسير إليها وقدمي تخاف أن تتركها الأخرى".
- "كنت أظن أنه أحمد يناديك"
- "لا لا. أحمد لم يعد وحيداً. أنا وحيدة، والشجرة وحيدة تناديني"، ثم أضافت: "أرجوكم ادفنوني تحت الشجرة عندما أموت، فهي تخاف أن تبقى وحيدة".
ظلت سلمى تستجيب لنداء شجرتها وتمشي على طريقها بطريقتها، حتى وجدت دون حراك وحيدة على فراشها. دفنت وحيدة أيضاً، فلم يستجب أهل القرية لرغبتها.
"قدمي تخاف الوحدة... تنادي كل واحدة الأخرى: تعالي جانبي أنا خائفة، والشجرة أيضاً تخشى الوحدة. أسمعها تناديني: أنا خائفة، فأسير إليها وقدمي تخاف أن تتركها الأخرى"... مجاز
بعد وفاة سلمى تغير الكثير من الأحوال. بدأت حرب أخذت كل شباب قريتنا إليها، وجلسنا نستمع إلى الأخبار ونصلي. موتى وإصابات وإعاقات نسمعها عن شباب القرى المجاورة ونصلّي. أخبار شبابنا انقطعت لأكثر من سنتين، ولم نقطع الصلاة/ إلى أن جاءنا الخبر الصاعق في ليلة ماطرة: سبعة عشر شاباً سيزفونهم غداً إلينا.
قريتنا عبارة عن بضعة بيوت قد لا تتجاوز العشرين بيتاً، لا مكان يتسع لسبعة عشر قبراً، ولا مكان يمكن أن يكون أنسب في هذا الجو الماطر من "تحت الشجرة العملاقة": اقترح الجميع.
تحت الشجرة العملاقة، حفرت وردمت القبور ووضعت شواهد بأسماء الغائبين، لقد وصلوا معاً تحت جذع الشجرة لكن لا أعتقد أن بينهم الفائز، فكل من حمل التوابيت قال بينه وبين نفسه كيلا يسمعه الآخرون: "النعوش فارغة".
قريتنا بدون اسم يُذكر أو لافتة تدلّ على وجودها، لكن إذا كنت تسير على الطريق العام ولمحت شجرة عملاقة تنادي بصوت عال: "أنا وحيدة"، تكون قد وصلت وجهتك. اتخذ المفرق الوحيد على يمينك، ولكن إذا أردت الوصول إلى الشجرة الوحيدة، فعليك أن تسلك مشياً على الأقدام "طريق سلمى" ودون أن تلاحظ أو تنتبه ستمشي "مشية سلمى"، فعلى جانبي الطريق الضيقة ترامت بين الأعشاب والزرع قطع كبيرة من الحجارة الملساء مكتوب عليها بدهان أبيض همّشته الأمطار: "أحمد ع، سليمان، محمد ج، همّام ع، عارف، إسماعيل، عباس، أسعد، أحمد ص، نورس...".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...